فقه الخلاف في حياة الصحابة

فقه الخلاف في حياة الصحابة | مرابط

الكاتب: أبو إسحق الحويني

229 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

ثَمَّة اختلافات حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها اختلافات قريبة، وقد كانت عقول الصحابة كبيرة، وإيمانهم عالٍ، فكانوا يعذرون بعضَهم في الخلافات التي يسوغ فيها الاختلاف.

نموذج بني قريظة

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) جماعة من الصحابة رضي الله عنهم نظروا إلى الخطاب، وقالوا: هناك مفهوم ومنطوق، فالمنطوق وهو ظاهر الكلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) إذًا: لا نصلي العصر إلا في بني قريظة، حتى ولو لم ندخل إلا بعد العشاء، وجماعة أخرى قالوا: لا. نحن عندنا الأصل: "إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا" [النساء:103]، فلا يحل إخراج الصلاة عن وقتها، وإلا ضيعنا الآية، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقصد أننا نجد ونجتهد، وليس معناه أننا نؤخر الصلاة، وإنما المقصود المبادرة، وكلا الفَهمين سائغ على المنطوق والمفهوم.

ولكنهم رضي الله عنهم -عندما اختلفوا- لم يتنازعوا ولم يكفر بعضهم بعضًا، ولم يتفرقوا. ثم مضت الغزوة ودخلوا بني قريظة، والذي صلى في الطريق صلى، والذي أجَّل الصلاة أجَّل. وبعد ذلك لما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حَكَوا له الخلاف، قال الراوي: (فلم يعِبْ على أحد).

ورُبَّ شخص يقول: معنى ذلك أن الحق يتعدد، أي: لا يكون طرف منهم قد أخطأ.
ويقول آخر: لا يمكن أن يكون الحق شيئًا وضدَّه أبدًا، فالذين صلوا إما محقون أو مخطئون، والذين تركوا الصلاة وأجَّلوها إما مخطئون وإما محقون، والحق لا يكون إلا واحدًا، ولا يكون ضدين أبدًا.

فنقول: إن كَوْن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعِبْ ليس معناه أن كليهما حق في نفس الأمر؛ لكن معناه أن المخطئ اجتهد، وأفرغ الوُسْع في طلب الحق، فكيف يُلامُ مَن أفرغ الوسع في طلب الحق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد)، أَيُذَمُّ مَن أصاب أجرًا؟! لا يَذُمُّ مَن أصاب أجرًا واحدًا؛ لأن الحق واحد فقط، فالذي أصاب الحق أصابه، والذي لم يصب الحق أصاب أجرًا واحدًا، فليس من اللائق أن يُعَنَّف مَن أصاب أجرًا واحدًا.

فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنِّف، وليس معنى هذا أن كلا القولين حق.

نموذج من أحد الأسفار

وفي الصحيح: (انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها؛ حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا قريبًا منكم لعله أن يكون عندهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط: إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم. والله! إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جعلًا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: (الحمد لله رب العالمين) فكأنما نشط من عقال ...).

وقد ورد الحديث برواية أخرى فيه: (إن سيد الحي سليم)، وسليم بمعنى لديغ، وهي في الأصل لا تعني اللدغ، ولكن العرب يقولون (سليم) تفاؤلًا بالسلامة.

كما أن القافلة هي التي قَفَلَت أي: رجعت؛ أما التي غادرت لا يقال لها: قافلة، إنما يقال: قَفَل إذا رجع، فَهُم يقولون: خَرَجَت القافلة مع أنه في الأصل لا يقال قافلًا إلا لمن كان راجعًا، فسميت قافلة؛ رجاء رجوعها.

والصحراء سميت مفازة تيمنًا بالفوز منها؛ لأن الذي يضل فيها يموت.

والرواية التي عند البخاري ومسلم لم توضح مَن الراقي؛ لكن وقع في سنن النسائي وأبي داود أن أبا سعيد قال: (فانطلقت إليه فجعلت أبصق وأقرأ: الحمد لله رب العالمين).

فأخذ الصحابة رضوان الله عليهم القطيع من الغنم وانطلقوا إلى رسول الله ليسألوه أيحل لهم أم لا؟ -هذا هو الجيل الذي نريدكم أن تتأسوا به، فلا يحركون ساكنًا ولا يسكنون متحركًا إلا إذا كان مأذونًا لهم، هذا هو معنى العبودية: أنك قبل أن تفعل الشيء اسأل فيه؛ ما حكم الله ورسوله؟ هذا هو حق الإسلام عليك، حق الالتزام- قال: لا نفعل حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءوا وجاءوا بالغنم، وحدثوا النبي بما جرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (وما أدراك أنها رُقْية؟ -ما الذي عرَّفك؟ هو لا يعرف شيئًا عنها، وهذه كانت أول مرة له يرقي فيها- قال: يا رسول الله! شيءٌ أُلْقِي في روعي).

من أجل هذا تجد أحيانًا شخصًا يدعوك ويقول لك: تعال ارقِ، فتقول له: أنا ما جربت هذه المسألة، وما عملتها قبل هذا!

يا أخي! قد يجعل ربُّنا سبحانه وتعالى على يدك الشفاء. فهذا أبو سعيد الخدري لم يكن يعرف شيئًا، ولم يجربها قبل هذا في عمره، ولما اختار الفاتحة اختارها هكذا من أجل شيء وقع في صدره. (قال: شيءٌ أُلْقِي في روعي، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- حتى يبين لهم أنها حلال قال: اضربوا لي معكم بسهم)، وما قال له: حلال. وسكت؛ لأن هذه أقوى من مجرد القول فالرسول عليه الصلاة والسلام قد يتعفف عن الشيء الذي يكون حلالًا لأصحابه، لكن أنه يأكل هذا من أقوى أدلة الجواز والإباحة.

فهذه الخلافات كانت موجودة.
أعني مثلًا: لو أن هذا حصل في زماننا، فمن الممكن أن واحدًا منهم يقول: انظروا إلى الأَثَرَة! انظروا إلى الأنانية! أنا كنتُ أظنه (أَخًَا في الله)، فظَهَرَ (فَخَّا ليس في الله)! فهذه أَثَرَةٌ وأنانية، وأخذ الغنم عنده، ولا يريد أن يعطينا منها.

فيحصل الحقد.. لكنهم قالوا: (ليس قبل أن نذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفتينا في المسألة).

فهناك خلافات فرقت بين الإخوان أدنى من هذا مائة مرة، وإذا اختلف مع أخيه تجده لا يصلي في المسجد الذي يصلي فيه، ولا يقابله في الشارع وإذا لقيه تجده يجري؛ من أجل خلاف تافه حقير لا قيمة له ولا واقع.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الصحابة
اقرأ أيضا
الأمركة والكوكلة والعلمنة | مرابط
فكر

الأمركة والكوكلة والعلمنة


الأمركة فى تصوري هى محاولة صبغ أي مجتمع أو فرد بالصبغة الأمريكية وإشاعة نمط الحياة الأمريكية ويوجد مصطلح طريف قريب منه للغاية هو مصطلح الكوكلة أو الكوكاكوليزيشن cocacolization والكوكاكولا هى رمز نمط الحياة الأمريكية وانتشارها وتدويلها وقال أحدهم أن الأمر ليس كوكلة وحسب وإنما هى كوكاكولونيالية بدلا من كولونيالية أي أن الكوكلة هى الاستعمار فى عصر الاستهلاكية العالمية وهى استعمار لا يلجأ للقسر وإنما للإغواء كما كتب أحد علماء الاجتماع كتابا بعنوان the macdonaldization of the world أي مكدلة العا

بقلم: عبد الوهاب المسيري
1913
مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج1 | مرابط
مناظرات

مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج1


اشتهر أبو بكر الباقلاني بمفصاحته وقدرته على المناظرة والبيان والذب عن الإسلام وقد ناظر في عهده الكثير من النصارى أشهر هذه المناظرات كانت لما أرسله عضد الدولة إلى ملك الروم الأعظم ليظهر له رفعة الإسلام ويناظره في معتقده وبالفعل جرت المناظرة بينهما واستعان ملك الروم بكثير من علماء النصارى حتى يقدروا عليه وكان المناظرة سبب في إسلام الكثير من النصارى وأظهر الباقلاني فصاحة عالية ورؤية ثاقبة وقدرة مبهرة على الرد والبيان

بقلم: القاضي عياض
2388
أنت الجماعة ولو كنت وحدك | مرابط
مقالات

أنت الجماعة ولو كنت وحدك


وما عرف المختلفون أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان الناس كلهم عليه إلا واحدا منهم فهم الشاذون وقد شذ الناس كلهم زمن احمد بن حنبل إلا نفرا يسيرا فكانوا هم الجماعة وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون.

بقلم: ابن القيم
467
من صور الاعتداء على حقوق الآخرين | مرابط
فكر

من صور الاعتداء على حقوق الآخرين


من صور الاعتداء على حقوق الآخرين: التدخين في مكان عام يشارك فيه المدخن أناس يتأذون من رائحته الكريهة وفيهم المريض وصغير السن فكم هو مقدار الأنانية في مكنون هذه الشخصية العجيبة يا أخي إن كنت مصرا ولا تقبل النصيحة فتقلع عن التدخين فاقتل نفسك بعيدا عنا ولا نحب لك ذلك.

بقلم: د. جمال الباشا
304
إقناع العقل وإمتاع العاطفة | مرابط
تعزيز اليقين

إقناع العقل وإمتاع العاطفة


وفي النفس الإنسانية قوتان: قوة تفكير وقوة وجدان وحاجة كل واحدة منهما غير حاجة أختها فأما إحداهما فتنقب عن الحق لمعرفته وعن الخير للعمل به وأما الأخرى فتسجل إحساسها بما في الأشياء من لذة وألم والبيان التام هو الذي يوفي لك هاتين الحاجتين ويطير إلى نفسك بهذين الجناحين فيؤتيها حظها من الفائدة العقلية والمتعة الوجدانية معا

بقلم: محمد عبد الله دراز
553
المؤسسة السياسية الغربية | مرابط
اقتباسات وقطوف

المؤسسة السياسية الغربية


أما الوجه السياسي للحضارة الغربية فهو وجه كالح بكل معنى الكلمة فالمؤسسة السياسية الغربية مؤسسة إمبريالية استعمارية تمتص ثروات الأمم الأخرى وليس لديها أية حواجز أخلاقية أمام مصالحاه فهي ديمقراطية شفافة في السياسة الداخلية -غالبا- ديكتاتورية معتمة في السياسة الخارجية دائما

بقلم: إبراهيم السكران
394