العقل والشرع والعلاقة بينهما

العقل والشرع والعلاقة بينهما | مرابط

الكاتب: أبو إسحق الحويني

1260 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة العقل، وقد أناط الله تبارك وتعالى التكليف جملةً وتفصيلًا على وجود هذا العقل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق).

ومعنى رفع القلم: أي: رفع قلم التكليف والمؤاخذة عن هؤلاء الثلاثة.

والنائم والصغير فيهما نوع جنون، إذ أن النائم ذاهب العقل مؤقتًا.. والصغير لا عقل له.

إذًا صار عندنا: مجنون لا يفيق، ونائم زائل العقل مؤقتًا حتى يستيقظ، والصغير الذي لا عقل له، فهؤلاء الثلاثة زال التكليف عنهم لزوال العقل إما كليةً وإما مؤقتًا.

 

تمجيد القرآن الكريم للعقل

والذي يقرأ آيات القرآن الكريم يجد فيها تمجيد العقل وتعظيمه، قال الله تبارك وتعالى: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:5] أي: لذي عقل، وسمي العقل حجرًا لأنه يحجر على صاحبه، فلا يقع في القبائح، ولا في خوارم المروءة، وقال تبارك وتعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقال تبارك وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
إذًا للعقل قيمة عظيمة جسيمة؛ لكن أين موقعه؟

وبمعرفة ذلك نهدم الصنم الذي نصبه المبتدعة أمام نصوص الوعد..

إن العقل صار صنمًا يعبد، ووثنًا يجب تكسيره؛ لأنهم وضعوه في مكانٍ ليس له.

وأنا قدمت بهذه المقدمة حتى لا يقال: إننا معشر أهل السنة والجماعة لا نعظم العقل ولا نحترمه، ولا نضعه في حسباننا، حاشا وكلا! لكن نضعه في مكانه.

المبتدعة لهم أوثان.. ومن أعظم أوثانهم وثن العقل.. جعلوا العقل قاضيًا على كلام الأنبياء، فالعقل عندهم رقم (1)، وكلام الرسول رقم (2) فإذا خالف كلام النبي صلى الله عليه وسلم عقولهم ردوه.

والفخر الرازي، والجويني أبو المعالي هؤلاء ضلوا زمانًا طويلًا بسبب عقولهم.. وتداركتهم عناية الله في آخر حياتهم وهم على فراش الموت، قال أبو المعالي : لقد خضت البحر الخضم، وخضت الذي نهاني عنه أهل الإسلام، وهأنذا أموت على فراشي كما تموت عجائز نيسابور، والويل لـابن الجويني إن لم يغفر الله لك..

وكان ابن الجويني من أذكياء العالم؛ لكن هذا الأمر زلت فيه أعظم العقول.

قلت في الجمعة الماضية: إنهم يحرفون كلام الوحي لصالحهم، قال قائلهم:

إن إبراهيم عليه السلام ما اهتدى إلى ربه إلا بالعقل.. وكذب! فقصة إبراهيم عليه السلام تنادي بغير ذلك.. وهي معروفة في سورة الأنعام: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:76-79].

أين - في هذه الآيات- ما يدل على أنه اهتدى بالعقل؟!

يكذب هذه الدعوة قوله تبارك وتعالى :وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51].

(آتيناه رشده من قبل): من قبل أن يفكر في هذه القضية أساسًا، فالهداية نعمة من الله، ومنحةٌ إلهية ليس للعقل فيها دور أبدًا.

ولذلك يخطئ الناس عندما يقولون: إن الله عرفوه بالعقل.

لا والله..! لا يعرف ربنا بالعقل استقلالًا أبدًا، لأن العقل قاصر على ما دخل تحت الحواس؛ ولذلك ما خرج عن الحواس لا يتخيله العقل.. ولا يستطيع وصفه ولا توصيفه، والعقل لا يستطيع وصف الجنة ولا وصف النار، ولا وصف الملائكة ولا الشياطين.

فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن في الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) كيف يصفه العقل إذًا؟!

وقال ابن عباس : (ليس في الجنة من الدنيا إلا الأسماء) فيها نخلٌ ورمان، هل هي كنخلنا ورماننا؟ لا.

فيها خمر لذة للشاربين.. هل هي كخمرتنا؟ لا.

فيها لبنٌ لا يتغير طعمه، هل هو كلبننا؟ لا.

فيها ماء غير آسنٍ، هل هو كمائنا؟ لا.

نعم فيها الاسم، لكن الجنس.. الوصف.. الطعم.. مختلف تمامًا..

ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.. فكيف يعقله المرء إذًا؟!

نوافذ العقل على الدنيا هي الحواس.. والله تبارك وتعالى لا يقع تحت حاسة بشر، فكيف يمكن أن يهتدي العبد إلى ربه بعقله؟! أبدًا.

الهداية منحة من الله ثم يأتي دور العقل ثانيًا ليثبت هذه المنحة.

إذًا دور العقل أن يكون رقم: (2)، ولا يكون قبل النقل أبدًا.

وإنما ضل أهل البدع بسبب أصلهم الفاسد، وهو تقديم العقل على النقل..

 

لا عقل مع النقل

إن علماء أهل السنة عندما يقولون: لا عقل مع النقل، لا يقصدون منه: أن تأخذ النقل بلا عقل.. وما قدمنا يدل على أن العقل ضرورةٌ وأساس للتكليف.. فكيف يفهم كلام ربنا وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بلا عقل؟!
فقولهم: (لا عقل مع النقل) أي: لا تقدم عقلك على النقل.. لا تجعل عقلك قاضيًا على كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك قولهم: (لا اجتهاد مع النص) ليس معناه أن تأخذ النص بلا اجتهاد ولا تفكير…، وإنما معناه: لكن لا تجتهد اجتهادًا مضادًا للنص.

فمثلًا لو قرأت قوله صلى الله عليه وسلم: (الوضوء ثلاثًا، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم) فالواضح من هذا الحديث: أنه لا يجوز الزيادة على ثلاث مراتٍ في الوضوء، فمن زاد على ثلاثٍ، فقد أساء وتعدى وظلم، فإذا جاء آتٍ وقد قرأ مثلًا حديث علي بن أبي طالب : (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا) فقال: على الإنسان أن يتوضأ ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا.. حتى يعلم أنه قد أسبغ الوضوء! هذا اجتهاد.. مراده في هذا الكلام أن تسبغ الوضوء في النهاية، ولو أدى إلى تكثير مرات الغسل، فحينئذٍ نقول له: لا اجتهاد مع النص.. بمعنى لا اجتهاد مضاد للنص، وليس المعنى: خذ النص بلا اجتهاد.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الرزق الحلال واستجابة الدعاء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الرزق الحلال واستجابة الدعاء


مقتطفات من كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم للإمام زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الشهير بابن رجب رحمه الله وهو من أشهر وأبرز المؤلفات الجامعة لأصول وكليات الدين

بقلم: ابن رجب الحنبلي
510
اللسان العربي: بين التعميم والاستثناء | مرابط
لسانيات

اللسان العربي: بين التعميم والاستثناء


من فصيح الكلام وجيده الإطلاق والتعميم عند ظهور قصد التخصيص والتقييد وعلى هذه الطريقة الخطاب الوارد في الكتاب والسنة وكلام العلماء بل وكل كلام فصيح بل وجميع كلام الأممفإن التعرض عند كل مسألة لقيودها وشروطها تعجرف وتكلف وخروج عن سنن البيان وإضاعة للمقصود وهو يعكر على مقصود البيان بالعكس

بقلم: محمد علي يوسف
374
البر المعنوي | مرابط
ثقافة

البر المعنوي


إن البر المعنوي يكمن في إظهار أهميتهم ومكانتهم والاعتراف لهم بالامتنان دوما وإشعارهم بأن دورهم لم ينته أبدا من حياتنا ولا يمكن أن ينتهي بل تزداد حاجتنا لهم كلما مضت السنين وتقدموا في السن ﻷن مما هو مشاهد أن شعور الوالدين يزداد حساسية كلما تقدم بهم السن ورأوا انشغال أبناءهم بالحياة وانغماسهم في أعمالهم ووظائفهم وأسرهم واستغنائهم فيحتاجون كثيرا حينها إلى البر المعنوي العاطفي واللبيب الموفق من الأبناء من فهم هذه الحاجات النفسية لوالديه وتفطن لها وسعى في تلبيتها.

بقلم: د. طلال الحسان
575
طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج2 | مرابط
تفريغات

طرق أهل البدع في تحريف الكتاب والسنة ج2


من أساليب أهل البدع في إثبات بدعهم وما أحدثوه في الدين هو تحريف آيات الكتاب وأحاديث السنة إما بلي أعناقها لإثبات مقصودهم وأهوائهم أو بتفسيرها بما يسمى عندهم بالتفسير الباطني أو تحريف الأحاديث بذكر زيادات لم تصح وغير ذلك وقد تصدى أهل العلم لهذه التحريفات بفضل الله فقاموا بتفنيد هذه الشبه وفضح أهل البدع بكل ما أوتوه من قوة وبيان

بقلم: أبو إسحاق الحويني
998
ما فائدة طلب العلم وحفظ المتون؟ | مرابط
مقالات

ما فائدة طلب العلم وحفظ المتون؟


أنا أحب العلم ويشدني الحديث عن الكتب والمؤلفين وأبذل جهدي ولكن كلما رأيت الأحداث التي تصيب الأمة والصور والمقاطع يراودني سؤال وإحباط.. ما فائدة حفظ المتون والثقافة في مثل هذا الوقت؟ أليس فريضة الوقت شيء آخر؟

بقلم: إبراهيم السكران
597
ما الفقر أخشى عليكم | مرابط
تفريغات

ما الفقر أخشى عليكم


خشى الرسول صلوات الله وسلامه عليه على أصحابه أصلا وعلى من يأتون من بعدهم تبعا يخشى عليهم التكاثر في الأموال ولا يخشى عليهم الفقر لأن الله تبارك وتعالى قد أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بكثير من المغيبات ومنها: أن الله عز وجل سيفتح له كسرى وقيصر وقد تحقق ذلك كما هو معروف في الأحاديث الصحيحة وأخبار السيرة

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
605