العقل والشرع والعلاقة بينهما

العقل والشرع والعلاقة بينهما | مرابط

الكاتب: أبو إسحق الحويني

1194 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة العقل، وقد أناط الله تبارك وتعالى التكليف جملةً وتفصيلًا على وجود هذا العقل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق).

ومعنى رفع القلم: أي: رفع قلم التكليف والمؤاخذة عن هؤلاء الثلاثة.

والنائم والصغير فيهما نوع جنون، إذ أن النائم ذاهب العقل مؤقتًا.. والصغير لا عقل له.

إذًا صار عندنا: مجنون لا يفيق، ونائم زائل العقل مؤقتًا حتى يستيقظ، والصغير الذي لا عقل له، فهؤلاء الثلاثة زال التكليف عنهم لزوال العقل إما كليةً وإما مؤقتًا.

 

تمجيد القرآن الكريم للعقل

والذي يقرأ آيات القرآن الكريم يجد فيها تمجيد العقل وتعظيمه، قال الله تبارك وتعالى: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:5] أي: لذي عقل، وسمي العقل حجرًا لأنه يحجر على صاحبه، فلا يقع في القبائح، ولا في خوارم المروءة، وقال تبارك وتعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وقال تبارك وتعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
إذًا للعقل قيمة عظيمة جسيمة؛ لكن أين موقعه؟

وبمعرفة ذلك نهدم الصنم الذي نصبه المبتدعة أمام نصوص الوعد..

إن العقل صار صنمًا يعبد، ووثنًا يجب تكسيره؛ لأنهم وضعوه في مكانٍ ليس له.

وأنا قدمت بهذه المقدمة حتى لا يقال: إننا معشر أهل السنة والجماعة لا نعظم العقل ولا نحترمه، ولا نضعه في حسباننا، حاشا وكلا! لكن نضعه في مكانه.

المبتدعة لهم أوثان.. ومن أعظم أوثانهم وثن العقل.. جعلوا العقل قاضيًا على كلام الأنبياء، فالعقل عندهم رقم (1)، وكلام الرسول رقم (2) فإذا خالف كلام النبي صلى الله عليه وسلم عقولهم ردوه.

والفخر الرازي، والجويني أبو المعالي هؤلاء ضلوا زمانًا طويلًا بسبب عقولهم.. وتداركتهم عناية الله في آخر حياتهم وهم على فراش الموت، قال أبو المعالي : لقد خضت البحر الخضم، وخضت الذي نهاني عنه أهل الإسلام، وهأنذا أموت على فراشي كما تموت عجائز نيسابور، والويل لـابن الجويني إن لم يغفر الله لك..

وكان ابن الجويني من أذكياء العالم؛ لكن هذا الأمر زلت فيه أعظم العقول.

قلت في الجمعة الماضية: إنهم يحرفون كلام الوحي لصالحهم، قال قائلهم:

إن إبراهيم عليه السلام ما اهتدى إلى ربه إلا بالعقل.. وكذب! فقصة إبراهيم عليه السلام تنادي بغير ذلك.. وهي معروفة في سورة الأنعام: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:76-79].

أين - في هذه الآيات- ما يدل على أنه اهتدى بالعقل؟!

يكذب هذه الدعوة قوله تبارك وتعالى :وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51].

(آتيناه رشده من قبل): من قبل أن يفكر في هذه القضية أساسًا، فالهداية نعمة من الله، ومنحةٌ إلهية ليس للعقل فيها دور أبدًا.

ولذلك يخطئ الناس عندما يقولون: إن الله عرفوه بالعقل.

لا والله..! لا يعرف ربنا بالعقل استقلالًا أبدًا، لأن العقل قاصر على ما دخل تحت الحواس؛ ولذلك ما خرج عن الحواس لا يتخيله العقل.. ولا يستطيع وصفه ولا توصيفه، والعقل لا يستطيع وصف الجنة ولا وصف النار، ولا وصف الملائكة ولا الشياطين.

فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن في الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) كيف يصفه العقل إذًا؟!

وقال ابن عباس : (ليس في الجنة من الدنيا إلا الأسماء) فيها نخلٌ ورمان، هل هي كنخلنا ورماننا؟ لا.

فيها خمر لذة للشاربين.. هل هي كخمرتنا؟ لا.

فيها لبنٌ لا يتغير طعمه، هل هو كلبننا؟ لا.

فيها ماء غير آسنٍ، هل هو كمائنا؟ لا.

نعم فيها الاسم، لكن الجنس.. الوصف.. الطعم.. مختلف تمامًا..

ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.. فكيف يعقله المرء إذًا؟!

نوافذ العقل على الدنيا هي الحواس.. والله تبارك وتعالى لا يقع تحت حاسة بشر، فكيف يمكن أن يهتدي العبد إلى ربه بعقله؟! أبدًا.

الهداية منحة من الله ثم يأتي دور العقل ثانيًا ليثبت هذه المنحة.

إذًا دور العقل أن يكون رقم: (2)، ولا يكون قبل النقل أبدًا.

وإنما ضل أهل البدع بسبب أصلهم الفاسد، وهو تقديم العقل على النقل..

 

لا عقل مع النقل

إن علماء أهل السنة عندما يقولون: لا عقل مع النقل، لا يقصدون منه: أن تأخذ النقل بلا عقل.. وما قدمنا يدل على أن العقل ضرورةٌ وأساس للتكليف.. فكيف يفهم كلام ربنا وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بلا عقل؟!
فقولهم: (لا عقل مع النقل) أي: لا تقدم عقلك على النقل.. لا تجعل عقلك قاضيًا على كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك قولهم: (لا اجتهاد مع النص) ليس معناه أن تأخذ النص بلا اجتهاد ولا تفكير…، وإنما معناه: لكن لا تجتهد اجتهادًا مضادًا للنص.

فمثلًا لو قرأت قوله صلى الله عليه وسلم: (الوضوء ثلاثًا، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم) فالواضح من هذا الحديث: أنه لا يجوز الزيادة على ثلاث مراتٍ في الوضوء، فمن زاد على ثلاثٍ، فقد أساء وتعدى وظلم، فإذا جاء آتٍ وقد قرأ مثلًا حديث علي بن أبي طالب : (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا) فقال: على الإنسان أن يتوضأ ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا.. حتى يعلم أنه قد أسبغ الوضوء! هذا اجتهاد.. مراده في هذا الكلام أن تسبغ الوضوء في النهاية، ولو أدى إلى تكثير مرات الغسل، فحينئذٍ نقول له: لا اجتهاد مع النص.. بمعنى لا اجتهاد مضاد للنص، وليس المعنى: خذ النص بلا اجتهاد.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
هل طلب يوسف عليه السلام الرئاسة | مرابط
أباطيل وشبهات تفريغات

هل طلب يوسف عليه السلام الرئاسة


يقولون إن سيدنا يوسف عليه السلام سعى للوصول إلى الرئاسة وطلبها واجتهد لكي يصل إليها فلا مشكلة إذن أن نسعى نحن أيضا إلى المناصب والرئاسة والحقيقة أن نظرتهم لقصة سيدنا يوسف سطحية للغاية ولكنه الهوى إذا استحكم وسيطر على الإنسان لن يعجزه شيء عن خلق المبررات وإيجاد الأسباب وفي هذا المقال المختصر مناقشة لقصة الرئاسة وسيدنا يوسف

بقلم: محمد صالح المنجد
2222
من علامات السعادة والفلاح | مرابط
اقتباسات وقطوف

من علامات السعادة والفلاح


من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته وكلما زيد في خوفه وحذره وكلما زيد في عمره نقص من حرصه وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم

بقلم: ابن القيم
823
هالة البعيد | مرابط
مقالات

هالة البعيد


الوعي أحيانا بحقيقة وتفاهة اللذائذ المادية ذاتها .. وإدراك شيء من زيف ظاهرها الخلاب .. يمنحك قوة مضاعفة في مواجهة الفتنة وهذا هو سر الشيء المدهش في عبارة ابن مفلح .. فبدلا من أن يقدم موعظة خالصة .. عمد إلى تفتيت وهج الفتنة ذاتها.. حيث يقول ابن مفلح في عبارته المركزة: وليحذر العاقل إطلاق البصر فإن العين ترى غير المقدور عليه على غير ما هو عليه.!!

بقلم: إبراهيم السكران
480
نقض أصول الإلحاد الإيجابي | مرابط
الإلحاد

نقض أصول الإلحاد الإيجابي


لا يمكن لإنسان أيا كان في قضية وجود الخالق أن يحكم على الخالق بحكم إلا وقد سبق ذلك الحكم تصور معين عن الخالق الذي يريد الحكم عليه. حتى الملحد الجلد لا يمكنه إنكار الصانع إلا وحكمه فرع عن تصور معين لخالق يأباه ولا يوافق عليه إذ يستحيل أن يخوض الملحد في قضية ممتنعة لذاتها أو قضت ضرورة العقل بانتفائها فهذا عبث وسفه.

بقلم: عبد الله بن سعيد الشهري
315
فن أصول التفسير ج2 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج2


فالموضوع الذي بين يدي: هو أصول التفسير وكما يقال الآن من المصطلحات المعاصرة لفظة التوظيف لأني سأجتهد في توظيف أصول التفسير وهي مادة نوع ما ممكن تكون متخصصة لكن سأجتهد قدر استطاعتي أن أنزل بالمعلومات إلى ما يمكن أن تستوعبه شرائح متعددة الذي علمه قليل والذي علمه كثير والذي يستوعب استيعابا سريعا والذي يكون استيعابه بطيئا

بقلم: مساعد الطيار
617
العضلة الأهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

العضلة الأهم


كلنا يريد الانطلاق نحو الله في رمضان.. والقوة المحركة لهذا الانطلاق هي القلب.. وكلما كان حمله من المعاصي أقل.. كانت انطلاقته أكبر وأعظم.. ومن أكبر أثقال القلب التي تبطئ حركته:الغل والأحقاد نحو الآخرين في قلبك..

بقلم: د. أيمن خليل البلوي
426