وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض.. وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا؛ كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة والصحابة أعلم منهم وكذلك تابعوا التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين والتابعون أعلم منهم. فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.
وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارًا ولهذا ورد النهي عن كثرة الكلام والتوسع في القيل والقال وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: أن اللَه لم يبعث نبيا إلا مبلغًا وأن تشقيق الكلام من الشيطان (يعني أن النبي إنما يتكلم بما يحصل به البلاغ، وأما كثرة القول وتشقيق الكلام فإنه مذموم، وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم قصدًا، وكان يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه.
وقال أن من البيان سحرًا وإنما قاله في ذم ذلك لا مدحًا له كما ظن ذلك من ظنه ومن تأمل سياق ألفاظ الحديث قطع بذلك وفي الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: أن اللَه ليبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها، وفي المعنى أحاديث كثيرة مرفوعة وموقوفة على عمر وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة فيجب أن يعتقد أنه ليس كل من كثر بسطة للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك.
المصدر:
ابن رجب، فضل علم السلف على الخلف