الغاية من الوجود

الغاية من الوجود | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2269 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إذا كان كل شيء في هذا الكون -ابتداء من أصغر ذرة في جسم الإنسان مرورا بالمجرات، وانتهاء بما لا يزال يكتشف إلى اليوم في هذا الكون الفسيح- يدل على أنه ليس نتاج الصدفة، فإنه يدل -كذلك- على وجود الغاية وانتفاء العبثية وراء إيجاده.

وإثبات الغاية ونفي العبثية هو أمر زائد على مجرد نفي الصدفة والعشوائية؛ فإن نفي الصدفة يعني أن هناك سببا مناسبا وراء الشيء الذي حدث -فقط-، وأما نفي العبثية فيعني أن هذا السبب كان له حكمة وغاية وقصد في إيجاد ما أوجد وليس لمجرد العبث.

 

وإذا نظرت إلى هذا الكون العظيم، فستجد أن:

– إتقانه المذهل،

– وإحكامه المعجز،

– وجماله المدهش،

– وتناسقه العجيب،

– وسيره على قوانين منتظمة وثوابت كونية -أجبرت العلماء على اتساع أحداقهم اندهاشا من هذا التناهي في الدقة-،

 – وانضباطه في أدق الأشياء وأصغرها  -كالخلية وما فيها من عمل معجز، وما تحويه من المعلومات الوراثية الدقيقة،

– وغير ذلك مما لا ينتهي من شواهد الدقة في الكون والإنسان.

كل ذلك ينفي عند العاقل المتأمل فكرة العبثية وانعدام الغاية في إيجاده، فإن الأمر كما قال الله: {لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} [الأنبياء:١٧]، فلماذا كل هذا الإتقان المخيف إذا كانت القضية مجرد لعب ولهو وعبث؟

{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (١١٥) فتعالى الله الملك الحق صلى الله عليه وسلم لا إلٰه إلا هو رب العرش الكريم (١١٦)}[المؤمنون: ١١٥-١١٦]

 

ما هذه الغاية العظيمة؟

فوجود الغاية والحكمة العظيمة ظاهر من خلال التأمل في المخلوقات واستعمال مبدأ (دلالة الأثر على المؤثر) ولكن السؤال: ما هي هذه الغاية العظيمة؟ وكيف نعرفها؟

إذا نحن أثبتنا وجود الخالق العظيم الحكيم، ثم أثبتنا بالدلائل والبراهين أنه أرسل رسلا وأنزل كتبا؛ ليبين للناس  ما يريد منهم -وسيأتي ذكر هذه البراهين إن شاء الله-؛ فإن البحث عن الجواب من خلال رسالة الله الخالق -نفسه- والاهتداء بالعلم الذي أنزله على رسله هو عين العقل ومقتضى الحكمة الصحيحة.
فإن الإنسان إذا وقف -أثناء رحلة بحثه عن هذا السؤال الكبير- على مصدر يهديه ويرشده، وثبت لديه أن هذا المصدر سبب كل معرفة، وأصل كل علم، وأن هذا المصدر هو سبب الوجود كله؛ فإن إعراضه عنه، وبحثه عن غيره لا يدل إلا على جهل أو استكبار.

إن الله سبحانه وتعالى كما جعل للناس علامات وقوانين يهتدون بها إلى طرق البر والبحر والجو، ويتفاعلون معها وينطلقون على ضوئها إلى آفاق مادية عظيمة، فإنه جعل للناس علامات يهتدون بها إلى الحقائق الغائية المعرفية  الكبرى التي أوجد الكون لأجلها.

فإلى أين يذهب الإنسان في الأودية الموحشة بعيدا عن أنوار الوحي الذي أنزله الله؛ لينير عقل الإنسان ويسكن روحه؟

لقد جرب الإنسان ركوب سفينة آرائه المحضة، وخوض بحار البحث عن حقائق الكون الكبرى دون استعانة بأي أدلة خارجية، فلم يصل إلى ما يشفي صدره من الجواب.

نعم؛ قد يتوصل بنظره العقلي الصحيح -إن سلم من المعارض وكان متجردا (وما أقل المتجردين)- إلى إثبات وجود  خالق لهذا الكون، وإلى بعض ما ينبغي أن يكون عليه من صفات، وإلى ضرورة انعدام العبثية وراء هذا الخلق، لكن: هل هذا كل شيء؟

 

وجود الغاية وانعدام العبثية

إننا إذا عرفنا ضرورة انعدام العبثية، وتأكدنا من وجود غاية عظيمة؛ فكيف السبيل إلى تحديد هذه الغاية؟
إن الإنسان يريد الوصول إلى معرفة تفصيلية بخالقه وخالق كل شيء، يريد أن يتعرف عليه، ويتواصل معه، إنه يشعر في نفسه بالتعظيم تجاهه، لكن يريد أن يعرف كيف يعظمه على الوجه الذي يحبه؟ يريد أن يمجده، ويثني عليه، إنه يريد من هذا الخالق العظيم جبر كسره، وتقوية ضعفه، وإنارة دربه.
إن الإنسان يريد أن يعرف مبدأه ومصيره، يريد أن يعرف ما يريده الخالق منه ، فهو يحتاج إلى بيان شاف ممن يعلم حقائق كل شيء، ويحيط بها سبحانه، يسهل عليه معرفة ما وراء المحسوس، ويكشف له جواب ما يقلق عقلهمن تساؤلات.

ولأن الخالق سبحانه كامل الصفات، فقد اقتضت حكمته ورحمته أن يبين للإنسان هذه الحقائق، وأن يكون بيانه لها عن طريق صفوة من البشر، بلغوا الغاية في الصدق والأمانة والتقى،
يختارهم الله بعلمه: {فالله أعلم حيث يجعل رسالته}_[الأنعام:١٢٤]، ويقيم الدلائل على صدق رسالتهم، وصحة نبوتهم.

 

القرآن الكريم

إن المتأمل في القرآن الكريم -الذي هو آخر رسالة ينزلها الله على عباده- سيجد أن حظا كبيرا من آياته تعرفنا بالله سبحانه، بل إن أعظم آية في هذا الكتاب العظيم إنما هي تعريف بالله -آية الكرسي-، وأعظم سورة في القرآن إنما هي حمد لله وثناء عليه وتوكل عليه واستعانة به -سورة الفاتحة-، وكذلك السورة التي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن –الإخلاص- إنما هي تعريف بالله تعالى وتمجيد له.
قال سبحانه: "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما" [الطلاق:١٢]

فهذه الرسالة الإلهية الخاتمة تعرف البشرية بعظمة وجلال وكمال خالقهم، كما أنها تعرفهم بأن إراداتهم الحرة محل لابتلاء الله لهم؛ ليعبدوه طوعا واختيارا، فيثيب مطيعهم بأعظم الثواب، ويعاقب عاصيهم بأشدالعقاب، فقال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير (١) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}[الملك:١-٢] وقال سبحانه: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا}[هود:٧]. وقال سبحانه: {إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}[يونس:٤].

ويبين الله تعالى في آيات كثيرة من كتابه أنه غني عن عباده، وأنه غير محتاج إليهم، وأن من اهتدى وأطاع فقد فاز وحصل الربح لنفسه، ومن ضل وابتعد فقد خسر وكان الوبال عليه.

ويذكر عباده أن وراء إيجاده لهم أمرا عظيما؛ من معرفة الحق والباطل والخير والشر، وما يتبع ذلك من انقسام الناس بينهما ثم الصراع بين الفريقين الذي يستخرج أحسن ما في الوجود من كمال مخلوق، وأسوأ ما فيه من الشر، وفي ذلك أعظم آية على كمال الله المتفرد الذي يخضع له أحسن ما في الوجود اختيارا.
قال الله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين (١٦) لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين (١٧) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}[الأنبياء:١٦-١٧-١٨] وقال: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون(١١٥) فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم}[المؤمنون:١١٥-١١٦]

وقال تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}[القيامة:٣٦] قال الشافعي رحمه الله: السدى: الذي لا يؤمر ولا ينهى! وقال في غاية البيان: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}[الذاريات:٥٦]

وقال الله تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (١١٨) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" [هود:١١٨-١١٩].

 

إن الغاية من الوجود إذا، هي:

– معرفة الله العظيم.

– التقرب إليه اختيارا.

– إثابة المحسنين بأعظم النعيم.

– إيجاد الحق والباطل امتحانا واختبارا؛ لينتج عن ذلك اصطفاء أفضل المخلوقات وإبعاد أرذلهم ومعاقبتهم.

– ظهور آثار صفات الله سبحانه من العلم والخلق والحكمة والقدرة والعزة والرحمة …إلخ من غير احتياج لهم.

– هذا شيء مما ظهر لنا من الحكمة في ذلك، ولا يحيط أحد بحكمة الله علما، والله سبحانه لا يسأل عما يفعل، وهو الأعلم بتمام حكمته، ونحن نجتهد في فهم ما بينه لنا منها، وهو غني عنا وعن فهمنا وعبادتنا، سبحانه وتعالى.


المصدر:

أحمد بن يوسف السيد، كامل الصورة، ص19

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#كامل-الصورة #الغاية-من-الوجود
اقرأ أيضا
مفاهيم تحتاجها الأمة ج2 | مرابط
تفريغات

مفاهيم تحتاجها الأمة ج2


وأنا سأطرح بعض المفاهيم التي أشعر أن الأمة بحاجة لها وأخاطب بها كل مسلم رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا حاكما كان أو محكوما عربيا كان أو عجميا قريبا كان أو بعيدا يعيش في بلد محتل أو حر

بقلم: د راغب السرجاني
593
التعليل المادي للشريعة | مرابط
مقالات

التعليل المادي للشريعة


كثير من غلاة المدنية في محاولتهم لتكريس أهمية الشأن المدني يحاولون ربط الشعائر والشرائع بالحضارة فتراهم يقولون إن غاية الشعائر هي تهذيب الأخلاق الاجتماعية وغاية التشريع هو سياسة المصالح العامة .. وفي هذا المقال الموجز يناقش إبراهيم السكران هذه الفرضيات.

بقلم: إبراهيم السكران
392
كيف طلبت المسلمة العلم وعلمته | مرابط
المرأة

كيف طلبت المسلمة العلم وعلمته


بين يديكم رد على سؤال نسمعه بين الفينة والأخرى حول طلب العلم للنساء وإشكالية الاختلاط يقول صاحبه: من المعلوم أن الإسلام عرف عالمات كثيرات لكن كيف طلبن العلم دون رؤية الرجال وكيف علمن الرجال أيضا؟

بقلم: قاسم اكحيلات
374
أمهات المؤمنين قدوة للعالمين | مرابط
المرأة

أمهات المؤمنين قدوة للعالمين


وأمهات المؤمنين أولى من يقتدى بهن من نساء العالمين خاصة في أمر لو سلمنا أن وجوبه خاص بهن لأجل طهارة قلوبهن لكان الاقتداء بهن فيه من أوجب الواجبات على النساء ذلك أن الشريعة إنما جاءت لتزكية هذه النفوس وتطهيرها

بقلم: د عادل بن حسن الحمد
426
شبهات حول الحجاب: الحجاب في القلب ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب في القلب ج1


يردد المبغضون للحجاب من العالمانيين والمنصرين أن الحجاب الحقيقي هو حجاب القلب وليس هو مجرد قطعة قماش تلقى على الرأس والحقيقة أن الرد على هذا القول من أسهل ما يكون فهو ينطوي على الكثير من المغالطات العقلية والعقدية والمقال الذي بين يديكم يناقشها جميعا ويوضح الرد على هذه الفرية الحادثة

بقلم: سامي عامري
1413
القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد | مرابط
فكر مقالات

القراءة الحداثية للسنة النبوية عرض ونقد


ثم كانت الخطورة حينما بدأ نفر من أبناء جلدتنا من أبناء هذه الأمة يتناولون القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة بقراءة عرفت ب الحداثية أو القراءة الجديدة للنص الديني وهي قراءة تأويلية تستمد آلياتها من خارج نطاق التداول الإسلامي بل تأتي وفقا للتجربة الغربية في فهم النصوص واللاهوتية منها خصوصا فلا تريد أن تحصل اعتقادا من النص بقدر ما تريد أن تمارس نقدها عليه واستخداما لنظريات لغوية حديثة مثل: البنيوية والتفكيكية والسيمائية وهي قراءات في حقيقتها اقتبست كل مكوناتها من الواقع الحداثي الغربي في صر...

بقلم: الشيخ الدكتور محمد بن عبد الفتاح الخطيب
1904