القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن

القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن | مرابط

الكاتب: مالك بن نبي

2108 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

هناك مشكلة في تاريخ الإنسانية لا تفتأ تواجهها وخاصة في هذه الأيام، تلك هي مشكلة الخمر. والحق أنه للمرة الأولى في التاريخ الإنساني وجهت هذه المشكلة في القرآن، وحُلّت بطريقة معينة، فكيف كان ذلك؟

 

التعامل الإسلامي مع مشكلة الخمر

 

ها هو ذا التخطيط النفسي والتشريعي لهذا القرار الذي حدث للمرة الأولى في تشريع أحد المجتمعات الإنسانية:

 

أولا: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا"

وهنا وقفة أولى.

 

وثانيًا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ"

وهذا هو الموقف الثانية.

 

ثالثًا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"

 

هذا هو المسلك الشرعي الذي اتبعه القرآن من أجل أن يواجه مشكلة الخمر الخطيرة ويحلها، فما هو أثر هذا التشريع؟

 

إن الإحصاء في البلاد الإسلامية، حتى المتدهورة منها، يدلنا على قلة تعاطي الخمر فيها، بينما تعاني الإنسانية منها -بكل أسف- في البلاد المتحضرة، فالعالم الإسلامي بوجه عام يجهل منذ ثلاثة عشر قرنا هذه النكبة، فكيف أحرز تحريم الخمر في القرآن هذا النجاح؟

 

إنه المنهج دون أدنى شك، ذلك الذي عرضناه عرضا تخطيطيا ينتهي بأمر شرعي صارم. والواقع أن النص الأول يثير آثام الخمر في الضمير المسلم فحسب، وقد كانت هذه هي الطريفة المتحفظة لإثارة المشكلة وتسجيلها بصورة ما في عداد الهموم الاجتماعية لمجتمع ناشئ، وبهذه الطريقة أمكن للمشكلة أن تشق طريقها في ضمير الصفوة المختارة في هذا المجتمع الذي يحكمه الدافع الخلقي.

 

فالموقف الأول سيكون إذن مرحلة (حضانة) ضرورية، هي المرحلة النفسية للمشكلة وعلى أساس هذا البناء الفاضل للضمير المسلم يقوم النص التحديدي في الآية الثانية "لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ"

 

فهنا تحديديا، ﻷنه لكيلا نكون سكارى خلال أوقات الصلوات الخمس، يجب ألا نقرب السكر أبدًا، فهو يهدف إلى أن يطهر مدمني الخمر تدريجيا، وإلى أن يرتب حظرًا خلقيًا، قبل أن يسن التحريم النهائي، وتوضع العقوبة المجازية لارتكاب الجرم المحرم.

 

وبهذه الطريقة تحاشى القرآن أن يثير في الوقت نفسه مشكلة اقتصادية هي مشكلة تجارة الخمر، إذ كانت هذه التجارة قد نمت واتسعت، حتى خلع عليها عرب الجاهلية ألقابا كثيرة يعينون بها مطالبهم من أنواع الخمور، ولقد ظلت الكلمة المشهورة لامرئ القيس، والتي قالها عندما أعلموه بموت أبيه، شاهدا تاريخيا على إسراف العرب قبل الإسلام في تعاطي الخمر، قال هذا الشاعر ساعتئذ "اليوم خمر وغدًا أمر"

 

ففي هذا الوسط الذي انتشر فيه شرب الخمر وتجارتها، أثار القرآن المشكلة، وكان من المصلحة أن يتدرج في تكييف الحالة الاقتصادية الجديدة وربما كان هذا هو الذي يعلل الموقف الثاني قبل التحريم النهائي.

 

التجربة الأمريكية في التعامل مع الخمر

 

ولعلنا نستطيع أن ندرك أهمية هذه الاعتبارات عن الظاهرة القرآنية لو لم يكن لدينا مثال آخر لتشريع إنساني نجعله أساسا لموازنة الخطة القانونية، فقد أثارت المشكلة بعد ذلك بثلاثة عشر قرنا من الزمان اهتمام المشرعين في أمة، لعلها أرقى الأمم حضارة، هي الولايات المتحدة الأمريكية، وسنضع هنا كما فعلنا قبل ذلك تخطيطا لخطوات هذا التشريع الذي رأى النور في أمريكا في صورة تعديل دستوري عام 1919م

 

فحوالي عام 1918م ثارت المشكلة في الرأي العام الأمريكي، وفي عام 1919م أدخل في الدستور الأمريكي تحت عنوان (التعديل الثامن عشر) وفي السنة نفسها أيد هذا التعديل بأمر حظر أطلق عليه التاريخ قانون "فولستد" وقد أعدت لتنفيذ هذا التحريم داخل الأراضي الأمريكية وسائل، هي:

 

1-الأسطور أجمعه لمراقبة الشواطئ
2-الطيران لمراقبة الجو
3-المراقبة العلمية

 

فماذا كان حل الموقف؟

 

فشل كامل لأمر الحظر، وسقوط قرره التعديل الدستوي الحادي والعشرون الذي صدق عليه الكونجرس عام 1933م .. وذلك هو الموجز التاريخي للمأسات التشريعية بأكملها، تلك التي سميت في تاريخة الأمة الأمريكية "عهد التحريم"

 

وبعد ففي ضوء القرآن يبدو الدين ظاهرة كونية تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذيبة المادة، وتتحكم في تطورها. والدين على هذا يبدو وكأنه مطبوع في النظام الكوني، قانونا خاصا بالفكر، الذي يطوف في مدارات مختلفة، من الإسلام الموحد إلى أحط الوثنيات البدائية، حول مركز واحد، يخطف سناه الأبصار، وهو حافل بالأسرار.. إلى الأبد

 


 

المصدر:

  1. الظاهرة القرآنية، مالك بن نبي، ص 297
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مالك-بن-نبي #إشكالية-الخمر
اقرأ أيضا
فن أصول التفسير ج5 | مرابط
تفريغات

فن أصول التفسير ج5


ما هي السور التي ابتدأت بالقسم وما هي أنواع المقسم به فعندنا هنا أقسم بالطور فلو أردنا أن نأخذ نظائر لهذه السورة من جهة الابتداء نجد مثل: والشمس وضحاها الشمس:1 مثل: والذاريات ذروا الذاريات:1 مثل: والنجم إذا هوى النجم:1 مثل: والليل إذا يغشى الليل:1 مثل: والفجر الفجر:1 إذا نلاحظ أن عندنا نظائر لهذه السورة من جهة القسم ومفيد جدا لتالي القرآن أن يتأمل ما هي النظائر في الخبر والإنشاء ما هي النظائر في قضية القسم يعني ما هي السورة التي ابتدئ بها بالقسم ما هي السورة التي ابتدئ بها بالحمد ما هي السو...

بقلم: مساعد الطيار
674
البحث عن السعادة | مرابط
تفريغات

البحث عن السعادة


ألا تريد الراحة في الدنيا! لعلك بحثت عنها فلم تجدها إنك لن تجدها في الملايين ولن تحصل عليها في القصور أو في السيارات الفاخرة ولا عند النساء ولا بالأرصدة ولا في بلاد الإباحية والخنا والفجور لن تجدها إلا بين دفتي المصحف لن تحصل عليها إلا في آخر الليل في السحر إذا قمت وصليت بها ركعتين لن تراها إلا وأنت تطوف حول البيت

بقلم: نبيل العوضي
398
في وصف شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه | مرابط
اقتباسات وقطوف

في وصف شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه


واجتمعت بطائفة بدمشق من الله بهم علي فوجدتهم عارفين بأيام النبوة والسير الصحابية ومعاني التنزيل وأصول العقائد المستخرجة من الكتاب والسنة.عارفين بأذواق السالكين وبداياتهم وتفاصيل أحوالهم يرونها من كمال الدين لا يتم الدين إلا بها ولا تشبه أنفاسهم أنفاس أهل العصر من فقهائهم وصوفيتهم.

بقلم: عماد الدين الواسطي
420
أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة ج2 | مرابط
فكر

أين أخطأ المقاصديون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة ج2


يبدو أن موضوع مقاصد الشريعة يحظى باهتمام بالغ في الساحات العربية خصوصا بعد أحداث سبتمبر فالسياسيون اهتموا به لتمرير أجندتهم السياسية والإعلاميون تمسكوا بها لتبرير مخالفة الإعلام للشريعة وكثير من الدعاة تمسك بها من أجل المزيد من المكتسبات سواء لدى عامة الناس أو لدى شرائح الملأ وتولت مقاصد الشريعة مع ظاهرة الخروج عن مألوف الشريعة المعهود لدى المسلمين بحجة نبذ التقليد والعمل بالدليل مهمة تمرير لبرلة الإسلام وعصرنته وكان أخطر ما في الأمر تبني شرائح إسلامية عديدة لهذا الفكر الأصولي الفقهي فكانوا...

بقلم: الدكتور هيثم بن جواد الحداد
1898
بما فضل الله | مرابط
مقالات المرأة

بما فضل الله


فمهما حاولت المرأة التخلص من العاطفة في حكمها على الأمور لن تستطيع لأنه مركوزة في فطرتها وتكوينها.. فنقص العاطفة عند الرجال كنقص العقل عند النساء تفضيل أودعه الله في الخلق لحكمة يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير.

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
264
شؤم إنكار السنة | مرابط
تعزيز اليقين

شؤم إنكار السنة


من شؤم إنكار السنة: عدم القدرة على إقامة فرائض الدين الكبرى التي أمر الله بها في القرآن كالصلاة والزكاة والحج إذ إن تفصيلاتها وحدودها وأركانها وواجباتها إنما اتضحت عن طريق السنة.ومن جمال إثبات السنة: وضوح العبادات العملية والقدرة على أدائها ببرهان ويقين ووضوح.

بقلم: أحمد يوسف السيد
226