الكتاب المعجز الجزء الأول

الكتاب المعجز الجزء الأول | مرابط

الكاتب: د منقذ السقار

916 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

اختلاف الأسلوب بين القرآن والسنة

ولو عدنا ثانية إلى الفرض بأن القرآن من تأليف النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنشائه؛ لتبين لنا استحالة هذا الفرض بمجرد النظر في نظم القرآن وأسلوبه ومقارنته مع أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه المدون في كتب السنة والحديث، ليقيننا أنه لا يمكن لأديب أن يغير أسلوبه أو طريقته في الكتابة بمثل تلك المغايرة التي نجدها بين القرآن والسنة.

ولو شئنا أن نضرب لذلك مثلًا، فنقارن بين بيان القرآن وأسلوبه وبين كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكلاهما كلام بليغ، لكن شتان بين كلام الباري وكلام عبده.

فقوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ... » (1) كلام عربي فصيح، لكن شتان بينه وبين قول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (مريم: ٧٧ - ٨٤)، فبين القولين من تباين الأسلوب وجزالته ما لا يخفى على العوام؛ فضلًا عن أرباب الفصاحة والبيان.

 

التحدي العظيم

وإذا كان القرآن من تأليف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف نجح في تأليف هذا الذي ذهل لبلاغته أرباب اللغة ورواد الأدب والبيان؟ كيف جرُأ على تحديهم بالإتيان بمثله؟ ولماذا لم ينسبه إلى نفسه فيحوز شرف تأليفه وإبداعه؟ أما كان من الأوفق له أن ينسبه لنفسه ويتحدى به الآخرين، ولن يعارضه أحد في أنه صاحبه؟!

لقد جعل الله القرآنَ الكريم أعظم وأدوم معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو معجزته في كل عصر وحين، وقد تحدى من قال بأنه من تأليف محمد - صلى الله عليه وسلم -، فدعاهم إلى الإتيان بمثله، فكلام البشر يقارع ويضارع، وأما كلام الرب فلا يماثل ولا يكافأ.

لكن العرب على فصاحتهم وبيانهم عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله رغم التحدي القرآني المستفز لهممهم والتي تؤزه شدة الكراهية والعداوة له والحرص على الطعن فيه والتماس أي زلل فيه أو خطأ، وأعيتهم الحيل في ذلك، وهم يسمعونه يصدع بين ظهرانيهم: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور:٣٣ - ٣٤).

فلما أعجز المشركين أن يأتوا بمثل جميعه، تحداهم القرآن بأقل منه؛ أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عندهم تضارع القرآن وتماثل بيانه {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (هود: ١٣).

فلما عجزوا عن الإتيان بعشر سور من مثله تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة واحدة تضارعه في بيانه وإحكامه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ٢٣).

ويبلغ التحدي القرآني غايته حين يخبر القرآن أن عجز المشركين عن محاكاته والإتيان بمثله عجز دائم لا انقطاع له، فيقول: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: ٢٤)، وأن نتيجة التحدي النهائية هي خسارة أعداء القرآن والزاعمين بشريته {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: ٨٨).

 

الحروف المقطعة في بدايات السور

كما قرر القرآن التحدي في صورة أخرى كان يذكرهم بها كرَّة بعد كرَّة، وهي الحروف المقطعة التي تبدأ فيها تسع وعشرون سورة من سور القرآن {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: ١)، {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (ص: ١)، {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (غافر: ١ - ٢)، فهذه الآيات وأمثالها تقول للعرب: القرآن مكون من هذه الحروف، وهي حروف شعركم ونثركم، فهاتوا مثله يا من تدعون أنه من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم -.

قال ابن كثير: "إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته" (2).

وهذا التحدي الإلهي قائم ما دام الليل والنهار، ولئن عجز عنه أرباب اللغة زمن جزالتها، فإنه لن يقدر عليه أولئك المتطفلون اليوم على موائد العلم والأدب والذين يحاولون محاكاة القرآن بالمضحك من القول والسخيف من المعاني، وسفاسف المعارف.

 

مسيلمة ومن سار في طريقه

فحين أراد مسيلمة معارضة القرآن فضحه الله وأخزاه، فكان قوله محلًا لسخرية العقلاء وإعراض البلغاء، فقد قال: "يا ضفدع، نقي كما تنقين، لا الماء تدركين، ولا الشراب تمنعين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكنّ قريشًا قوم يعتدون" (3).

وقال أيضًا معارضًا القرآن: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى .. أوحي إلي أن الله خلق النساء أفراجًا، وجعل الرجال لهن أزواجًا، فنولج فيهن قعسًا إيلاجًا، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجًا، فينتجن لنا سخالًا إنتاجًا" (4).

وشرع الأديب ابن المقفع في معارضة القرآن، وكان من أفصح أهل زمانه، ثم مرَّ بصبي يقرأ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ} (هود: ٤٤) فرجع فمحى ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض، وما هو من كلام البشر (5).

ومثله صنع يحيى بن حكم الغزال بليغ الأندلس في زمنه، فحُكي أنه رام معارضة القرآن، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها وينسج على منوالها، فعجز وقال: "فاعترتني منه خشية ورِقَّة حملتني على التوبة والإنابة" (6).

 

محاولات العصر الحديث

وظهرت في العصر الحديث محاولات سخيفة لتقليد القرآن ومحاكاته، لم يزد صانعوها على محاكاة أسلوب القرآن وطريقته في البيان مع تغيير بعض الألفاظ بطريقة تدعو للضحك، وتستدعي الشفقة، ومن ذلك أن القس أنيس شروش يحكي عن جهد قامت به مجموعة من المفكرين في القدس، وقد عملوا خلال ست عشرة سنة على إعادة صياغة الإنجيل على نحو أسلوب القرآن، فكان مما تحذلقوا فيه بعد هذه السنين: "بسم الله الرحمن الرحيم. قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقًا فآمنوا بي ولا تخافوا. إن لكم عنده جنات نزلًا. فلأسبقنكم إلى الله لأعدها لكم، ثم لآتينكم نزلة أخرى، وإنكم لتعرفون السبيل إلى قبلة العليا.

فقال له توما الحواري: مولانا إننا لا نملك من ذلك علمًا. فقال له عيسى: أنا هو الصراط إلى الله حقًا، ومن دوني لا تستطيعون إليه سبيلًا، ومن عرفني فكأنما عرف الله، ولأنكم منذ الآن تعرفونه وتبصرونه يقينًا، فقال له فيليب الحواري: مولانا أرنا الله جهرة تكفينا، فقال عيسى: أو لم تؤمنوا بعد، وقد أقمت معكم دهرًا؟ فمن رآني فكأنما رأى الله جهرًا ".

وقد عقب القس على هذا الكلام الركيك الذي استمروا في إعادة صياغته خمس عشرة سنة بقوله: "إنه نص جميل بلغة عربية جميلة " (7).

وقد تكامل هذا الجهد السخيف، حين أصدروا ما سمي بـ "الفرقان الحق"، وأقتبس منه بعض الفقرات لأؤنس بها القارئ الكريم: "باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين إنكم لتقولون قولًا لَغْوًا ما كان شعرًا ولا نثرًا ولا قولًا سديدًا * إنْ هو إلا لغوٌ مردَّدٌ ترديدًا * يرغِّب التابعين ترغيبًا ويهدد المعرضين تهديدًا * حَسُنَ وقعًا في نفوس عبادنا الضالين واستمرأه الجاهلون * سمٌّ في دسمٍ ولكن أكثرهم لا يشعرون فلا يَبْغُون عنه محيدًا" (8).

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. أخرجه البخاري ح (١)، ومسلم ح (١٩٠٧).
  2. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (١/ ٦٠).
  3. ذكره الطبري في تاريخه (٢/ ٥٠٦)، وابن بطة في الإبانة الكبرى ح (٢٤٢٣)، وابن حبان في الثقات (٢/ ١٧٦).
  4. ذكره الطبري في تاريخه (٢/ ٤٩٩).
  5. انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (١/ ٢٧٥).
  6. انظر المصدر السابق (١/ ٢٧٥).
  7. القرآن والكريم والكتاب المقدس، أيهما كلام الله؟ أحمد ديدات وأنيس شروش، ص (١٠١ - ١٠٢).
  8. (الفرقان الحق)، منشور على شبكة الإنترنت.

 

المصدر:

د. منقذ السقار، تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، ص47

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تنزيه-القرآن-الكريم
اقرأ أيضا
الحرج من النصوص الشرعية | مرابط
اقتباسات وقطوف

الحرج من النصوص الشرعية


بات من الواضح مثلا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء غير موافق للمزاج الليبرالي العام وأن نفوسا كثيرة باتت تضيق به وبمراميه وقل الأمر نفسه في قول النبي صلى الله عليه وسلم لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة أو قوله صلى الله عليه وسلم لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها وغير ذلك من الأحاديث.

بقلم: عبد الله العجيري
459
مراجعة كتاب الردة بين الحد والحرية | مرابط
مناقشات

مراجعة كتاب الردة بين الحد والحرية


بعد خمسة عشر قرنا من استقرار أحكام الإسلام في نصوص الوحي وآثار الصحابة والتابعين وتقريرات المذاهب الأربعة تفاجأ المسلمون بالتفوق المادي للمجتمعات الغربية وتعلق الناس بثقافتها التي تمركز الحرية الليبرالية وتفاجأ المعنيون بأمر الإسلام أمام هذا السؤال أعني سؤال الموقف من الثقافة الليبرالية الغالبة فجماهير الفقهاء والدعاة مالوا إلى ضرورة التمسك بنص الإسلام كما أنزل وكما فهمته القرون المفضلة مع الأخذ بالأسباب والوسائل المادية المعاصرة وذهبت طوائف من العلمانيين إلى رفض أحكام الإسلام ببجاحة وضرورة...

بقلم: إبراهيم السكران
799
الضوابط الشرعية: رؤية ليبرالية | مرابط
فكر

الضوابط الشرعية: رؤية ليبرالية


حسب الضوابط الشرعية تلك العبارة التي مرت الكثير من الشبهات والمخالفات الشرعية متدثرة بها تمشي في حماها وكانت تمرر من خلالها الكثير من المخالفات الشرعية يقال أنها توافق الضوابط الشرعية ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما وفي هذا المقال رصد لحقيقة هذه العبارة التي انخدع بها المسلمون

بقلم: محمد بن أحمد الزهراني
1800
فتنة النساء.. إصدار خاص | مرابط
المرأة

فتنة النساء.. إصدار خاص


بدأت أؤمن أن فتنة النساء بالنسبة للرجال ليست مقتصرة أبدا على الانجذاب الفطري لها بشكل محرم إذا لم تكن زوجة أو بشكل يؤدي إلى محرم إذا كانت زوجته ولكن يؤدي التعلق بها إلى حرام آخر في اكتساب المال أو عقوق الوالدين وغير ذلك.

بقلم: معتز عبد الرحمن
408
الإيمان الديني: هل هو قائم على التسليم أم البرهنة؟ | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

الإيمان الديني: هل هو قائم على التسليم أم البرهنة؟


يقول عدد من أنصار العلموية في العالم العربي ودعاة المذهب الإيمانوي في الغرب إن الاستدلال للإيمان الديني ببرهان الإعجاز العلمي أو أي برهان آخر من أي جنس باطل ضرورة فإن الإيمان الديني قائم على التسليم لا البرهنة كما أن الاستدلال بالوحي للعلم داع لترك البحث العلمي والركون إلى أخبار الأسفار المقدسة التي لم تنزل لصناعة وعي علمي

بقلم: د. سامي عامري
477
لماذا تسقط الحضانة عن الأم إذا تزوجت؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

لماذا تسقط الحضانة عن الأم إذا تزوجت؟


الحضانة مثلها مثل أي حكم شرعي في نظام الشريعة لها فلسفة اجتماعية مهمة مرتبطة بزيادة التماسك الاجتماعي في الأمة.. بل في أمور الزواج والطلاق والنفقة والحضانة هذه العلة أوفر وتأكيد التماسك أظهر.. الحضانة مبنية على الشفقة والصبر على تربية الصغير ولذلك يقدم في الحضانة الأقرب فالأقرب لوفور شفقته كلما قرب من الطفل فمن تدلي من النساء للطفل عن طريق الأبوين تقدم على من تدلي عن طريق أحدهما ومن تدلي له عن طريق الأم تقدم على من تدلي عن طريق الأب..

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
493