الكتاب المعجز الجزء الأول

الكتاب المعجز الجزء الأول | مرابط

الكاتب: د منقذ السقار

815 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

اختلاف الأسلوب بين القرآن والسنة

ولو عدنا ثانية إلى الفرض بأن القرآن من تأليف النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنشائه؛ لتبين لنا استحالة هذا الفرض بمجرد النظر في نظم القرآن وأسلوبه ومقارنته مع أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه المدون في كتب السنة والحديث، ليقيننا أنه لا يمكن لأديب أن يغير أسلوبه أو طريقته في الكتابة بمثل تلك المغايرة التي نجدها بين القرآن والسنة.

ولو شئنا أن نضرب لذلك مثلًا، فنقارن بين بيان القرآن وأسلوبه وبين كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكلاهما كلام بليغ، لكن شتان بين كلام الباري وكلام عبده.

فقوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ... » (1) كلام عربي فصيح، لكن شتان بينه وبين قول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (مريم: ٧٧ - ٨٤)، فبين القولين من تباين الأسلوب وجزالته ما لا يخفى على العوام؛ فضلًا عن أرباب الفصاحة والبيان.

 

التحدي العظيم

وإذا كان القرآن من تأليف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف نجح في تأليف هذا الذي ذهل لبلاغته أرباب اللغة ورواد الأدب والبيان؟ كيف جرُأ على تحديهم بالإتيان بمثله؟ ولماذا لم ينسبه إلى نفسه فيحوز شرف تأليفه وإبداعه؟ أما كان من الأوفق له أن ينسبه لنفسه ويتحدى به الآخرين، ولن يعارضه أحد في أنه صاحبه؟!

لقد جعل الله القرآنَ الكريم أعظم وأدوم معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو معجزته في كل عصر وحين، وقد تحدى من قال بأنه من تأليف محمد - صلى الله عليه وسلم -، فدعاهم إلى الإتيان بمثله، فكلام البشر يقارع ويضارع، وأما كلام الرب فلا يماثل ولا يكافأ.

لكن العرب على فصاحتهم وبيانهم عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله رغم التحدي القرآني المستفز لهممهم والتي تؤزه شدة الكراهية والعداوة له والحرص على الطعن فيه والتماس أي زلل فيه أو خطأ، وأعيتهم الحيل في ذلك، وهم يسمعونه يصدع بين ظهرانيهم: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور:٣٣ - ٣٤).

فلما أعجز المشركين أن يأتوا بمثل جميعه، تحداهم القرآن بأقل منه؛ أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عندهم تضارع القرآن وتماثل بيانه {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (هود: ١٣).

فلما عجزوا عن الإتيان بعشر سور من مثله تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة واحدة تضارعه في بيانه وإحكامه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ٢٣).

ويبلغ التحدي القرآني غايته حين يخبر القرآن أن عجز المشركين عن محاكاته والإتيان بمثله عجز دائم لا انقطاع له، فيقول: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: ٢٤)، وأن نتيجة التحدي النهائية هي خسارة أعداء القرآن والزاعمين بشريته {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: ٨٨).

 

الحروف المقطعة في بدايات السور

كما قرر القرآن التحدي في صورة أخرى كان يذكرهم بها كرَّة بعد كرَّة، وهي الحروف المقطعة التي تبدأ فيها تسع وعشرون سورة من سور القرآن {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: ١)، {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (ص: ١)، {حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (غافر: ١ - ٢)، فهذه الآيات وأمثالها تقول للعرب: القرآن مكون من هذه الحروف، وهي حروف شعركم ونثركم، فهاتوا مثله يا من تدعون أنه من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم -.

قال ابن كثير: "إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته" (2).

وهذا التحدي الإلهي قائم ما دام الليل والنهار، ولئن عجز عنه أرباب اللغة زمن جزالتها، فإنه لن يقدر عليه أولئك المتطفلون اليوم على موائد العلم والأدب والذين يحاولون محاكاة القرآن بالمضحك من القول والسخيف من المعاني، وسفاسف المعارف.

 

مسيلمة ومن سار في طريقه

فحين أراد مسيلمة معارضة القرآن فضحه الله وأخزاه، فكان قوله محلًا لسخرية العقلاء وإعراض البلغاء، فقد قال: "يا ضفدع، نقي كما تنقين، لا الماء تدركين، ولا الشراب تمنعين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكنّ قريشًا قوم يعتدون" (3).

وقال أيضًا معارضًا القرآن: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى .. أوحي إلي أن الله خلق النساء أفراجًا، وجعل الرجال لهن أزواجًا، فنولج فيهن قعسًا إيلاجًا، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجًا، فينتجن لنا سخالًا إنتاجًا" (4).

وشرع الأديب ابن المقفع في معارضة القرآن، وكان من أفصح أهل زمانه، ثم مرَّ بصبي يقرأ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ} (هود: ٤٤) فرجع فمحى ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض، وما هو من كلام البشر (5).

ومثله صنع يحيى بن حكم الغزال بليغ الأندلس في زمنه، فحُكي أنه رام معارضة القرآن، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها وينسج على منوالها، فعجز وقال: "فاعترتني منه خشية ورِقَّة حملتني على التوبة والإنابة" (6).

 

محاولات العصر الحديث

وظهرت في العصر الحديث محاولات سخيفة لتقليد القرآن ومحاكاته، لم يزد صانعوها على محاكاة أسلوب القرآن وطريقته في البيان مع تغيير بعض الألفاظ بطريقة تدعو للضحك، وتستدعي الشفقة، ومن ذلك أن القس أنيس شروش يحكي عن جهد قامت به مجموعة من المفكرين في القدس، وقد عملوا خلال ست عشرة سنة على إعادة صياغة الإنجيل على نحو أسلوب القرآن، فكان مما تحذلقوا فيه بعد هذه السنين: "بسم الله الرحمن الرحيم. قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقًا فآمنوا بي ولا تخافوا. إن لكم عنده جنات نزلًا. فلأسبقنكم إلى الله لأعدها لكم، ثم لآتينكم نزلة أخرى، وإنكم لتعرفون السبيل إلى قبلة العليا.

فقال له توما الحواري: مولانا إننا لا نملك من ذلك علمًا. فقال له عيسى: أنا هو الصراط إلى الله حقًا، ومن دوني لا تستطيعون إليه سبيلًا، ومن عرفني فكأنما عرف الله، ولأنكم منذ الآن تعرفونه وتبصرونه يقينًا، فقال له فيليب الحواري: مولانا أرنا الله جهرة تكفينا، فقال عيسى: أو لم تؤمنوا بعد، وقد أقمت معكم دهرًا؟ فمن رآني فكأنما رأى الله جهرًا ".

وقد عقب القس على هذا الكلام الركيك الذي استمروا في إعادة صياغته خمس عشرة سنة بقوله: "إنه نص جميل بلغة عربية جميلة " (7).

وقد تكامل هذا الجهد السخيف، حين أصدروا ما سمي بـ "الفرقان الحق"، وأقتبس منه بعض الفقرات لأؤنس بها القارئ الكريم: "باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا الضالين إنكم لتقولون قولًا لَغْوًا ما كان شعرًا ولا نثرًا ولا قولًا سديدًا * إنْ هو إلا لغوٌ مردَّدٌ ترديدًا * يرغِّب التابعين ترغيبًا ويهدد المعرضين تهديدًا * حَسُنَ وقعًا في نفوس عبادنا الضالين واستمرأه الجاهلون * سمٌّ في دسمٍ ولكن أكثرهم لا يشعرون فلا يَبْغُون عنه محيدًا" (8).

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. أخرجه البخاري ح (١)، ومسلم ح (١٩٠٧).
  2. تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (١/ ٦٠).
  3. ذكره الطبري في تاريخه (٢/ ٥٠٦)، وابن بطة في الإبانة الكبرى ح (٢٤٢٣)، وابن حبان في الثقات (٢/ ١٧٦).
  4. ذكره الطبري في تاريخه (٢/ ٤٩٩).
  5. انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض (١/ ٢٧٥).
  6. انظر المصدر السابق (١/ ٢٧٥).
  7. القرآن والكريم والكتاب المقدس، أيهما كلام الله؟ أحمد ديدات وأنيس شروش، ص (١٠١ - ١٠٢).
  8. (الفرقان الحق)، منشور على شبكة الإنترنت.

 

المصدر:

د. منقذ السقار، تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين، ص47

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تنزيه-القرآن-الكريم
اقرأ أيضا
ثمن الكرة الذهبية! | مرابط
فكر

ثمن الكرة الذهبية!


في لاعب مشهور اسمه زلاتان إبراهيموفتش ويقال أنه كان يستحق يفوز بالكرة الذهبية في وقت ما.. لكنه لم يفز بها.. اللاعب ده صرح بإن الكرة الذهبية لا يفوز بها إلا mr. nice guy .. ويقصد بها الأشخاص المرضي عنهم! .. ألا يذكرك هذا بصورة ميسي وهو يرتدي القبعة الصهيونية ويقف أمام حائط المبكى

بقلم: علي محمد علي
411
الدفاع عن السنة الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

الدفاع عن السنة الجزء الثاني


النبي عليه الصلاة والسلام لما جاء بدين الله عز وجل قال له ورقة هذه الكلمة التي تعد من أصدق ما قاله إنسان جاء النبي فخالف كثيرا من أعراف العرب وأهواء الجاهلية ولذلك رموه عن قوس واحدة وجاء يقول لهم: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا فأبت العرب أن تقول هذه الكلمة ورضيت أن تدخل في حروب دمرت اقتصادياتها وقتلت أشراف الناس فيها وسبيت النساء وكان العرب أصحاب غيرة إذا هم فهموا معنى: لا إله إلا الله وما معنى أن يقول الواحد منهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله

بقلم: أبو إسحق الحويني
608
الرد على المفوضة الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

الرد على المفوضة الجزء الثاني


وردت الكثير من الشبه حول مسألة التفويض في آيات الصفات ونسبتها إلى أهل السنة وعقيدة السلف في هذه ذلك هو الإيمان بالمعنى وتفويض الكيف أما المعطلة فيظهر فساد مذهبهم في ذلك وتأثرهم بعلم المنطق وبين يديكم تفريغ لمحاضرة للشيخ الألباني يرد فيه على المفوضة وعلى من نسب عقيدتهم إلى السلف

بقلم: الشيخ الألباني
652
مختصر قصة الأندلس الجزء الثالث | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة الأندلس الجزء الثالث


سلسلة مقالات مختصرة تطوف بنا حول الأندلس لنعرف قصتها من البداية حتى النهاية من الفتح إلى السقوط سنعرف كل ما دار من أحداث بين لحظة الفتح والصعود ولحظة الانهيار والأفول والهدف من ذلك أن ندرك ونعي تاريخنا بشكل جيد وأن نتعلم منه حتى نبني للمستقبل

بقلم: موقع قصة الإسلام
1310
الشعر الجاهلي واللهجات ج2 | مرابط
مناقشات

الشعر الجاهلي واللهجات ج2


تعتبر مقالات محمد الخضر حسين من أهم ما قدم في الرد على كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي وهذه المقالات تفند جميع مزاعمه وترد عليها وتبين الأخطاء والمغالطات التي انطوت عليها نظريته التي قدمها فيما يخص الشعر الجاهلي وكيف أن هذه الأخطاء تفضي إلى ما بعدها من فساد وتخريب وبين يديكم مقال يناقش موضوع الشعر الجاهلي واللهجات وما قاله طه حسين بخصوص ذلك ثم الرد عليه

بقلم: محمد الخضر حسين
708
فعل الرب التبصير والتغيير وفعل الشيطان التحسير والتعيير! | مرابط
مقالات

فعل الرب التبصير والتغيير وفعل الشيطان التحسير والتعيير!


العبد إذا انتبه إلى تماديه في دركات التقصير أو استمع إلى موعظة أزعجت قلبه عن رقدة الغفلة فإن فعل الشيطان معه هو التحسير والتعيير حتى يكبله عن مسالك التدارك بآصار الكآبة والحزن واليأس ولا يزال به حتى يوقعه في أعظم مما كان عليه وهو التنكر لنعم الله الدينية ولطفه بعبده وكرمه ورحمته فيجحد الموجود حسرة على المفقود فيجمع بين الشرين!

بقلم: كريم حلمي
300