الكلام الممدوح والمذموم عند ابن تيمية

الكلام الممدوح والمذموم عند ابن تيمية | مرابط

الكاتب: ناصر آل متعب

1468 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

يقول ابن تيمية: "والسلف لم يذموا جنس الكلام، فإن كل آدمي يتكلم...فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل وهو المخالف للشرع والعقل".

تأمل قوله (كل آدمي يتكلم) لتعلم أنه أراد التفريق بين (مطلق الكلام) وبين الكلام بالمعنى الاصطلاحي.
فلا تفهم أنه أراد أنّ الكلام بالمعنى الاصطلاحي ليس كله مذموم، بل أراد أن الكلام بالمعنى الاصطلاحي نوع يدخل هو وغيره في جنس أعم، فكل آدمي يتكلم، وليس كل كلام في هذا الجنس الأعم مذموم، بل الذم متنزّل على نوع من الكلام (علم الكلام).

الإجمال في لفظ الكلام

وقد نبّه ابن تيمية إلى الإجمال في لفظ (الكلام) والخلط بين المفهوم الاصطلاحي والعام، فقال:
"ولكن لفظ الكلام لمّا كان مجملًا لم يعرف كثير من الناس الفرق بين الكلام الذي ذموه وغيره"

وأخبر ابن تيمية أن الكلام المذموم مطلقًا عند السلف هو (الاصطلاحي) الذي أصبح حقيقة عرفية عندهم، فلا يعنون به مطلق الكلام الذي يصدر من كل آدمي، فقال: 
"والسلف إذا ذموا أهل الكلام وقالوا علماء زنادقة وما ارتدى أحد بالكلام فأفلح، فلم يريدوا به (مطلق الكلام)، وإنما هو حقيقة عرفية".

ويرى ابن تيمية أن لفظ (الكلام) كلفظ (السماع) فلو نظرنا لإطلاقهما (العام)، ففيهما حق وباطل،ولو نظرنا للإطلاق العرفي الغالب (الاصطلاحي) فكلاهما باطل، فالتغبير والسماع الصوفي مبتدع باطل.

يقول ابن تيمية: "وغلبة اسم (الكلام) على الكلام المبتدع، كغلبة اسم (السماع) على السماع المبتدع...وعبّروا هم والمسلمون عن ذلك بأعم صفاته، وهو السماع والكلام، فإذا أُطلق اسم (السماع) عند كثير من الناس...انصرف الإطلاق إلى السماع المحدث الذي هو مورد النزاع".

إذن ابن تيمية يرى السماع بالإطلاق العرفي كله باطل
ثم بيّن ابن تيمية أن هناك سماع ممدوح وهو (السماع الشرعي).
وابن تيمية هنا لايعني أنّ السماع بالإطلاق العرفي الغالب (الاصطلاحي) منه ممدوح ومذموم، بل يريد أنّ هناك سماع تسمعه الأذن (بالمعنى العام) هو مشروع ممدوح، ومثّل لذلك بسماع القرآن والحديث.

وكذلك الكلام عنده، فهو بالمعنى العرفي الغالب مذموم، ولكن هناك كلام يتلفظ به اللسان (بالمعنى العام "مطلق الكلام") يعتبر شرعيًا ممدوحًا.
ولذا قال مكملًا لكلامه السابق: "وكذلك إذا أُطلق لفظ (الكلام) الذي يذمه وينهى عنه قوم، ويمدحه ويأمر به آخرون، فإنه عندهم هو الكلام المحدث.

وإن كان الكلام الذي أنزله الله تعالى هو أصدق الكلام وخيره وأفضله، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والأئمة كلامًا
لكن خُصّ المحدث من النوعين باسم (الكلام) و(السماع) لأن الاسم بمجرده تعبير عنه، لا يدل على حمد ولاذم، ولا أمر ولا نهي، واللام فيه تنصرف للمعهود".

التمييز بين الكلام المذموم والممدوح

ثم لمّا جاء ابن تيمية يذكر التمييز بين الكلام المذموم والممدوح، بيّن أن الكلام: إنشاء وخبر، وبدأ يبين الذم والمدح في كل قسم
فعُلم أنّ تقسيمه للكلام إلى مذموم وممدوح متنزل على المعنى العام "مطلق الكلام" لا الاصطلاحي.

وهنا أمر مهم، وهو أنّ ابن تيمية لمّا ذكر طرائق الناس في توجيه ذم السلف للكلام، ذكر الطريقة التي ترى أنّ "الذي نهى عنه السلف هو الكلام الذي انتحله أهل البدع من المعتزلة ونحوهم ممن يخالف السنة، لا الكلام الذي تنصر به السنة، وهذه طريقة البيهقي"

ولم يرتضِ ابن تيمية طريقة البيهقي، فقال: "ولكن لفظ الكلام لمّا كان مجملًا لم يعرف كثير من الناس الفرق بين الكلام الذي ذموه وغيره، فمن الناس من يظن أنهم إنما أنكروا كلام القدرية فقط كما ذكره البيهقي".

فابن تيمية يرى أنّ الكلام بالإطلاق العرفي الغالب (الاصطلاحي) مذموم، ولا ينقسم لمذموم وممدوح، حتى لو ذب صاحبه عن السنة.

بل الذي ينقسم لمذموم وممدوح هو الكلام بالمعنى العام "مطلق الكلام: الإنشاء والخبر".

والمسمى (بعلم الكلام) هو الكلام بالمعنى العرفي الغالب، فابن تيمية لايرى انقسامه لممدوح ومذموم، نعم يرى أنه يتضمن نوعًا من الحق ممزوجا بالباطل، كالسماع البدعي المذموم، فهو عنده فيه شيء من الحق، ولكن ذلك لايمنع ذمه، لغلبة الباطل.
كذا انتفاع غير الفاضل بشيء من الكلام أو السماع المحدث، لا يرفع عنهما الذم عند ابن تيمية.

والخلاصة: أنّ (الكلام) عند ابن تيمية (كالسماع) ينقسم لمذموم وممدوح من جهة المعاني العامة (جنس الكلام والسماع) الذي يحصل (لكل آدمي)
وأمّا من جهة الإطلاق العرفي الغالب (للكلام) و(السماع) فمذموم، ولو كان للذب عن السنة، ولو كان يتضمن نوع حق، فهذا النوع مذموم وليس هو مورد التقسيم، بل مورده الجنس.

هذا ما ظهر لي و أردت بيانه، فإن أصبت فبتوفيق الله، وإن زللت فالنفس مظنة الزلل

جنس الكلام

بعد أن نص ابن تيمية على أنّ مورد تقسيم الكلام إلى ممدوح ومذموم هو (مطلق وجنس الكلام) لا الحقيقة العرفية
فما هو (جنس الكلام) هل هو جنس علم الكلام (الكلام الاصطلاحي) أم هو أعم من ذلك، فيكون مورد التقسيم في هذا الجنس الأعم دون نوع الكلام الاصطلاحي؟

والجواب هو أنّ مراد ابن تيمية من (جنس ومطلق الكلام) ما هو أعم من الكلام بالمعنى الاصطلاحي “فن وعلم الكلام”

ودليل ذلك مايلي:

١- قول ابن تيمية: "والسلف لم يذموا جنس الكلام، فإن كل آدمي يتكلم"
فهل (كل آدمي يتكلم) بالكلام الاصطلاحي (علم الكلام) ؟! قطعًا لا، وإلا لأهملنا النصوص التي تطفح بإهمال العوام لعلم الكلام.

٢- أنّ ابن تيمية لمّا ذكر تقسيم الكلام لمذموم وممدوح قال مبيّنا ذلك: "وذلك أنّ الكلام نوعان: إنشاء وخبر..." وذكر أن الكلام المذموم والممدوح يقع في الإنشاء والخبر.
فهل الإنشاء والخبر هو الكلام الاصطلاحي (علم الكلام) أم أنه أعم؟!

٣- ذكر ابن تيمية - كما تقدم - أنّ الكلام مثل 
السماع، ثم ذكر أن النزاع المذكور بين السلف والمبتدعة منصرف للمحدث المذموم، فقال: “...انصرف الإطلاق إلى السماع المحدث الذي هو مورد النزاع”

ثم نص بعد ذلك أن النزاع بين السلف والمبتدعة في الكلام المحدث، الذي هو (علم الكلام)، فقال بعد أن ذكر أن مورد الذم والمدح في الكلام العام (الإنشاء والخبر) مبينًا وجه الذم في الخبر: 
"وأما الإخبار فهو الغالب على فنّ الكلام المتنازع فيه... والإخبار عن هذه الأمور إن كان مطلوبًا فهو المسائل والأحكام، وإن كان طريقًا إلى المطلوب فهو الوسائل والأدلة.
فالكلام يشتمل على هذين الصنفين: المسائل والدلائل، والذم والنهي واقع في هذين الجنسين"

ثم مثّل لانحراف (فن الكلام) في هذين الجنسين..
فهنا ابن تيمية يجعل ما أسماه (فن الكلام) مورد تنازع السلف مع أهل البدع، ويجعله مثالًا على الذم في الإخبار، ويجعل المدح والذم في جنس الكلام (الإخبار والإنشاء) وأما (علم الكلام) فهو مذموم وليس مورد التقسيم.

٤- يقول ابن تيمية عند التفريق بين الكلام الممدوح والمحدث المذموم:
"وكذلك إذا أُطلق لفظ (الكلام) الذي يذمّه وينهى عنه قوم، ويمدحه ويأمر به آخرون، فإنه عندهم هو الكلام المحدث.
وإن كان الكلام الذي أنزله الله تعالى هو أصدق الكلام وخيره وأفضله، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والأئمة كلامًا، ولكن خُصّ المحدث من النوعين باسم الكلام ..."
فجعل من الكلام الممدوح الخارج عن إطلاق الكلام المحدث المذموم: القرآن والحديث والآثار وأقوال الأئمة.
فهل هذه الأمور تدخل في الكلام الاصطلاحي (علم الكلام) أم تدخل فيما هو أعم؟ والجواب واضح.

٥- من المعلوم أن ابن تيمية يجعل السماع منه ماهو بدعي وآخر شرعي، فهل هذا التقسيم مورده السماع الاصطلاحي (الصوفي) أم السماع بمعنى أعم؟ 
والجواب أنه بمعنى أعم؛ لأنه نص أن أي استماع للقرآن والحديث فهو شرعي، وهذا أعم من السماع الاصطلاحي الصوفي.
وابن تيمية كما تقدم جعل (الكلام ) مثل (السماع) فتقسيم الكلام والسماع لممدوح ومذموم مورده في المعنى العام لا الاصطلاحي.
وقد قال ابن تيمية عن الصوفية أنهم توسعوا في السماع حتى خرجوا إلى نوع محدث، وكذلك أهل الكلام توسعوا في الكلام "حتى صار لهؤلاء الكلام المحدث، ولهؤلاء السماع المحدث: هؤلاء في الحروف وهؤلاء في الصوت، وتجد أهل السماع كثيري الإنكار على أهل الكلام"

فلاحظ أنه ذكر أن (السماع المحدث) هو نوع من أنواع السماع العام (سماع الصوت) وهذا النوع مذموم، بخلاف السماع العام ففيه مدح وذم.
وكذلك ذكر أن (الكلام المحدث) والذي سمى أهله هنا ب(أهل الكلام) هو نوع من أنواع جنس الكلام (الحروف) وهذا النوع مذموم بخلاف جنس الكلام (الحروف) ففيه مدح وذم.
فالأمر واضح: الكلام الاصطلاحي نوع حادث كالسماع الاصطلاحي، وهما مذمومان، ويندرجان تحت جنس (سماع الصوت) و(الكلام بالحروف) وهذان الجنسان فيهما ماهو ممدوح وما هو مذموم.

هل في الكلام والسماع حق؟

تنبيه: ابن تيمية لاينكر أنّ في السماع والكلام الاصطلاحي مادة من الحق وأخرى من الباطل، ولكن هذا لايعني أن هذا الكلام الاصطلاحي منقسم لنوعين ممدوح ومذموم، بل هو مذموم.
لذا قال ابن تيمية: "الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، وهو الكلام المشتبه المشتمل على حق وباطل، فيه ما يوافق العقل والسمع، وفيه ما يخالف العقل والسمع".

فالقول بأن علم الكلام فيه مادة من الحق شيء
والقول بأن علم الكلام ليس مذمومًا، بل فيه نوع مذموم وآخر ممدوح شيء آخر.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#علم-الكلام #ابن-تيمية
اقرأ أيضا
الوسطيتان | مرابط
فكر مقالات

الوسطيتان


من الملاحظ أن مصطلح الوسطية قد كثر استخدامه في الساحات الفكرية والشرعية في بلادنا فيقول لك الإسلام الوسطي والشيخ الوسطي ويبدو أن الأمر يحتاج إلى فحص وتمحيص حتى نعلم مرادهم من هذه الوسطية ومن هنا يأتي المقال الذي بين يدينا للكاتب إبراهيم السكران ويوضح لنا نوعين من الوسطية: أحدهما مطلوب ومحمود والآخر مرفوض ومذموم

بقلم: إبراهيم السكران
2141
التعليل المادي للشريعة | مرابط
مقالات

التعليل المادي للشريعة


كثير من غلاة المدنية في محاولتهم لتكريس أهمية الشأن المدني يحاولون ربط الشعائر والشرائع بالحضارة فتراهم يقولون إن غاية الشعائر هي تهذيب الأخلاق الاجتماعية وغاية التشريع هو سياسة المصالح العامة .. وفي هذا المقال الموجز يناقش إبراهيم السكران هذه الفرضيات.

بقلم: إبراهيم السكران
485
من أخلاق الكبار: أخلاق النبي مع أهله | مرابط
تفريغات

من أخلاق الكبار: أخلاق النبي مع أهله


وأنت أيتها المرأة إذا صدرت من الزوج كلمة هل تحسبينها له في ملف وسجل ثم لا تنسين هذه الإساءة والخطأ؟ وإذا كان لك خادمة أو أنت أيها الرجل كان لك سائق خادم فأخطأ في حقك وقصر فلو كسرت الخادمة إناء كيف تصنعين بها؟ هذا النبي ﷺ كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما جاءه رجل فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت ثم أعاد عليه فصمت فلما كان الثالثة قال: اعف عنه في كل يوم سبعين مرة الحديث أخرجه أبو داود

بقلم: خالد السبت
550
كم من نعمة لله في عرق ساكن | مرابط
مقالات

كم من نعمة لله في عرق ساكن


كان من دعاء أحد الأعراب: الحمد لله على نوم الليل وهدوء العروق وسكون الجوارح وكف الأذى والغنى عن الناس. ألا ما أعمق هذا الدعاء على وجازته! فنعمة هدوء العروق وسكون الجوارح من الأملاك الخفية التي لا تعرف قيمتها إلا حين فقدها ومن جميل حكم أبي الدرداء قوله: كم من نعمة لله في عرق ساكن

بقلم: طلال الحسان
301
معرفة جلال الله وعظمته | مرابط
اقتباسات وقطوف

معرفة جلال الله وعظمته


مقتطف لأبي حامد الغزالي من كتابه إلجام العوام عن علم الكلام يشير فيه إلى السبيل الحق وهو معرفة جلال الله وعظمته وصفاته من كتابه بعبارة الوحي الصادقة الصافية بعيدا عن عبارات أهل الكلام حتى لو أنهم يصلون إلى نفس النتيجة ولكن بطرق ملتوية تشوش قلوب المؤمنين

بقلم: أبو حامد الغزالي
2237
صناديق الاستثمار في عشر ذي الحجة | مرابط
تعزيز اليقين

صناديق الاستثمار في عشر ذي الحجة


سجل في الصندوق قبل أن يغلق الاكتتاب .. كانت أعمار بني آدم في الأزمنة السابقة طويلة وأما أعمار أمة خاتم الأنبياء غما بين الستين إلى السبعين إلا أن الله تعالى بفضله وبمنه وكرمه عوض نقص أعمار هذه الأمة بأن جعل لهم مواسم الخيرات محطات يتزودون بها ومن تلك المواسم عشر ذي الحجة حيث فضلت على سائر أيام

بقلم: د. يحيى بن إبراهيم اليحيى
427