تغيرت طبيعة التعبير اللغوي بتأثير من العلوم العقلية المتغلغلة في الأمة، وقد ظهر هذا الأثر في مجالين كبيرين: الأدب والعلوم الشرعية.
أما في الأدب، فمجال القول في ذلك واسع، وهو يحتاج إلى إطالة في شرح التطور التاريخي للأدب العربي، ورصد أوجه التأثر بالعلوم الواردة من الأمم الأخرى، ويكفي استحضار العلاقة الوطيدة بين الاعتزال والأدب، فقد كان كثير من الأدباء من متكلمي المعتزلة أيضًا.
ويكفينا هنا نموذجان مشتهران عند أهل الأدب:
الحكم المنقولة من فلاسفة اليونان
أولهما: الحكم المنقولة عن فلاسفة اليونان وأطبائه في كتب الأدب العربي المؤلفة في العصر العباسي. وأنت إذا طالعت مؤلفات الجاحظ أو كتب العقد الفريد لابن عبد ربه، أو عيون الأخبار لابن قتيبة، أو البصار والذخائر والإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وجدت نقولا كثيرة عن أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وأبقراط.
وهذه الحكم وإن كانت معرّبة لا تخلو من احتفاظ ببعض أساليب التعبير الأصلية.
قدامة بن جعفر وعلوم اليونان
والثاني: في مجال النقد الأدبي، وهو ما اشتهر من تأثر قدامة بن جعفر في كتابه نقد الشعر بعلوم اليونان.
فمن ذلك: تكلفه وضع تعريف للشعر، على طريقة الحدود المنطقية الأرسطية، المكونة من جنس وفصول؛ فيعرفه بأنه: كلام موزون مقفى يدل على معنى. ولذلك يقول د. إحسان عباس: ومنذ البداية يبدو قدامة متأثرًا بالمنطق الأرسطي، متجاوزًا المفهوم اليوناني للشعر في آن معًا.
ومن ذلك: عنايته بالتقسيمات والمقابلات، واستعمال المقاييس المنطقية في النقد الشعري وقد كان الدافع له إلى ذلك: التخلص من فوضى الأذواق ومحاولة ضبط الحس النقدي.
يقول إحسان عباس أيضًا: كان الرجل يحس بما انتشر في مجال النقد من فوضى ذوقية، وكان حريصًا على أن يعلم النقد، مثلما كان حريصًا على أن يكون علمه قائمًا على منطق لا يختل، ولذلك حول النقد -مخلصًا في محالته- إلى منطقية ذهنية وقواعد مدرسة ووضع لها مصطلحًا.
وهنالك أمور أخرى ذكرها بعض النقاد المعاصرين حول تأثر قدامة باليونان، أراها محل نقاش ونظر
هذا ما يتعلق بالأدب، وأما سائر علوم الشريعة من تفسير وفقه وتاريخ وغيرها، فأثر العلوم العقلية من المنطق والفلسفة في أسايبها التعبيرية واضح جدًا.
كتب العلوم الشرعية
فتأمل مثلا كتب التفسير التي صنفها المتأخرون، مثل: تفسير الرازي والنسفي وأبي السعود والألوسي، وغيرهم؛ وقارن أساليبهم بأساليب الصحابة والتابعين وأئمة السلف في تفسير آيات القرآن الكريم
وتأمل أيضًا بعض ما صنفه المتأخرون في علم مصطلح الحديث، مثل: نخبة الفكر وشرحها، أو في شروح الحديث، مثل فتح الباري، وقارن ذلك بالمأُثور عن المتقدمين من المحدّثين.
وتأمل كتب الفقه المذهبي المتأخرة وقارنها بالمنقول في الفقه عن المجتهدين الأولين. أما أصول الفقه فالأمر فيه أجلى وأوضح، فأين أسلوب رسالة الشافعي من أسلوب محصول الرازي مثلًا؟
وهكذا فإنك تجد في العلوم الشرعية كلها، شواهد لا تحصى على تغير اللسان، وابتعاده عن اللسان الأول، بسبب تأثر العبارة الشرعية بالمنطق اليوناني خصوصًا وبالعلوم العقلية عمومًا.
المصدر:
د. البشير عصام المراكشي، تكوين الملكة اللغوية، ص38