الليبرالية الاستئصالية الجزء الأول

الليبرالية الاستئصالية الجزء الأول | مرابط

الكاتب: إبراهيم بن محمد الحقيل

2463 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله القوي المتين، العزيز المجيد، يبدئ ويعيد، وهو فعال لما يريد، يري عباده من آياته ما لم يظنوا، ويأتي أعداءه من حيث لم يحتسبوا، نحمده فهو أهل الحمد والثناء والمجد، ونشكره شكرا يضاعف النعم ويدفع النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ مشيئته نافذة، وقدرته قاهرة، وحكمته باهرة، فلا حول للخلق ولا قوة لهم إلا به، ولا مفر لهم منه إلا إليه: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى إلى أمة أُمِّية جاهلة فانتشلها من جهلها، ورفعها من ضعتها، وأعزها بعد ذلتها، وقواها بعد ضعفها، فسادت بدينها الأمم كلها، وهزمت شريعتُها الأفكار جميعها: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ سادة هذه الأمة وغرتها، وفخرها وذكراها، وأنصع صفحة في تاريخها، وإن رغمت أنوف الباطنيين والمنافقين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والزموا طاعته ولا تعصوه، واثبتوا على دينه ولا تبدلوه؛ فإنه الحق من ربكم، وهو مصدر عزكم وفخركم، وسبب نجاتكم وفوزكم؛ {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزُّخرف: 43- 44].
 

هزيمة المعتقد

أيها الناس: هزيمة المعتقد والفكر أعظم من هزيمة الجيوش، ومن قتل دون دينه الحق فقد هَزم قاتله بالباطل، والذين يسقون أفكارهم الصحيحة بدمائهم يحيون أمة من ورائهم، وحينما كان بلال رضي الله عنه يعذب في رمضاء مكة، فينطق بالتوحيد؛ كان هو المنتصر، وكان من يعذبه منهزما، وبقي توحيد بلال، وسقط هبل قريش.

وقال القائد عمر المختار رحمه الله تعالى: "إن حياتي ستكون أطول من حياة شانقي"، فصدَّق الله تعالى قوله؛ إذ صار عمر المختار عَلَما يعرفه القاصي والداني، ومن يا ترى يعرف شانقه؟!

والنبي عليه الصلاة والسلام حينما علّم أصحابه ورباهم وزكاهم علمهم الثبات على الحق، والصبر على البلاء، والاستقواء بالله تعالى، وإفراغ القلب من أيِّ أحد سواه، كائنا من كان، فلا عجب -وهذه تربية أصحابه- أن يحققوا من الفتوح والانتصارات في ثمانين سنة فقط ما عجز عن تحقيقه الرومان في ثمانمائة سنة. ولا عجب أن يمتد الإسلام حتى أضاء بنوره أرجاء المعمورة؛ لأنه دين حق حمله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
 

الكيد والحسد المحيط بالأمة

هذه الأمة المباركة المختارة، التي بزغ النور من أرضها حتى أطفأ نيران المجوس، وأخرس نواقيس الروم، وطمر كتب اليهود؛ هي أمة محسودة على ما حباها الله تعالى من الخيرية، وما اختصها به من النور والهدى، وما أعطاها من العز والتمكين: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ} [البقرة: 109]، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].

ومنذ قيام دولة الإسلام والكيد العظيم والمكر الكبير يتوالى على المسلمين؛ فأجمع المشركون حربها واستئصال أفرادها، وسيروا للمدينة جيوشا في إثر جيوش، وجمعوا الجموع، وحزّبوا الأحزاب، حتى زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، لكن الله تعالى رد الأحزاب بغيظهم؛ {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 33]. وكاد اليهود بالمسلمين، وخانوهم خيانة تلو خيانة، وظاهروا المشركين عليهم، ولم يفلحوا، بل شُردوا وأسروا وقتلوا. ومكر المنافقون بالمؤمنين مكرا كادت الجبال أن تزول من عُظْمِه وشدته، ولكن الله تعالى ردَّ عليهم مكرهم، فهلكوا بألمهم وحسرتهم، وعزَّ الإسلام وأهله، وخُذِل النفاق وجنده.
 
ولما مدَّ الله تعالى الإسلام في الأرض فقوض مملكتي فارس والروم عظم مكر الأعداء، واشتد كيدهم، وتمدد النفاق مع تمدد دولة الإسلام، فصانع المنافقون قوى الشر والطغيان على إبادة المسلمين، واستئصال الإسلام؛ فسير النصارى سبع حملات صليبية كبرى في جيوش جرارة لا تخطر بالبال؛ لمحو الإسلام من مصر والشام، وصانعهم المنافقون، وكانوا عيونا لهم، فتكسرت كل هذه الحملات بسيوف الحق والإيمان، وبقي الإسلام. واجتاح التتر دولة الإسلام حتى أجهزوا على شرقها، واسقطوا دار خلافتها، وأرادوا ابتلاع شامها ومصرها فكانت مقبرتهم. وجثم الاستعمار الغربي المنتفش على بلاد المسلمين، واقتسمها المستعمرون بينهم، لكنهم عجزوا عن البقاء فيها، فمنهم من حُفر قبره فيها، وعاد بقيتهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة.
 

ظهور الأفكار المادية

ولما اطَّرح النصارى دينهم المحرف، وركلوه بأقدامهم إلى مزبلة التاريخ ظهرت فيهم الأفكار المادية؛ فانتهج الأرثوذكس الشرقيون المذهب الشيوعي الاشتراكي، وانتهج الكاثوليك الغربيون الليبرالية الرأسمالية؛ وكلتاهما تدَّعيان الحرية، وتزعمان حفظ الحقوق؛ فالشيوعية الاشتراكية زعمت أنها تستخلص حقوق الضعفاء من الأقوياء، وتمنع تملك الأغنياء للفقراء، وزعمت الليبرالية الرأسمالية أنها صانعة الحرية ومصدرتها، ومدونة حقوق الإنسان ومعلمتها.

ولكن ما لبث أرباب الفكرتين الماديتين أن ارتدوا عنهما فصار الحزب الشيوعي أو الاشتراكي في أيِّ بلد هو المهيمن على الناس، يستعبدهم ويسحقهم باسم حريتهم وحفظ حقوقهم، وصار أفراده هم أباطرة المال، وأصحاب النفوذ والثراء. وارتد الليبراليون الرأسماليون عن فكرة الحرية لما رأوا أن الإسلام يتمدد داخل المنظومة الغربية حتى بات يهددها ديمغرافيا وفكريا، ورأوه ينتشر في العالم الإسلامي فيُحَجِّم أيتام الغرب وعملاءه.
 
لقد مضت عقود سيطرت الفكرة الاشتراكية على وجدان الشعوب، وملأت أرجاء الأرض كذبا وضجيجا، ولا يكاد آنذاك بيت من بيوت المسلمين ليس فيه شاب يقرأ لرموز الشيوعية والاشتراكية، ويتمثل مقولات قادتهم ومفكريهم في هيام وإعجاب منقطع النظير، وكانت دولتها الأم تغزو العالم بالمصطلحات البراقة، وتسحرهم بالكتابات المشوقة؛ حتى كان الاتحاد السوفيتي يستأثر بربع الإنتاج الثقافي للعالم كله، ويطبع الكتب والمجلات والروايات بكل لغات أهل الأرض، ودعايته الإعلامية أقوى من إعلام الدول الرأسمالية كلها.

وكان المفكر الليبرالي لا يستطيع أن يصمد أمام المناظر الشيوعي؛ لقوته وبراعته وثقافته، وكان الاشتراكيون يسوقون فكرتهم بالقوتين الناعمة والقاسية، وينشرون أفكارهم بالحبر وبالدم، حتى أعدموا ملايين البشر، وقتل ستالين عشرين مليون مسلم، وهجَّر مسلمي القوقاز إلى سيبريا ليفنيهم، فسقطت الشيوعية، وهلك ستالين، وانتشر الإسلام في القوقاز.

لقد مضى زمن ظن الناس فيه أن الاشتراكية هي الدين الذي يسود الأرض كلها، وأنه لا يضمحل أبدا، حتى اقتنع بها بعض الدعاة والمصلحين فألفوا فيها كتبا يدعون إليها؛ فبالله عليكم أين هي الشيوعية؟ وأين هي الاشتراكية؟ وأين هم منظروها؟ وأين كتبها التي كانت تملأ الأرفف؟ وأين المعجبون بها؟ لقد ماتت ودفنت، وبقي أيتامها لا راعي لهم، وتفرق أتباعها على أفكار أخرى.
 

بداية صعود الليبرالية

فخلفتها الليبرالية الرأسمالية في النمو والانتشار، وأدارت آلتها الإعلامية الضخمة لنشر مبادئها، وبشَّر مفكروها بأن نهاية التاريخ ستكون عندها، فلا يسود غيرها، بل لا يبقى سواها. واقتنع ربانها أن نهاية الجغرافيا يجب أن تكون عندها كذلك، فحشدوا الحشود، وأطلقوا الوعود، وسيروا الجيوش لغزو ثلاث وستين دولة مبتدئين بأفغانستان والعراق، وانتفش الليبراليون في العالم الإسلامي زهوا وفخرا، وفرحوا أشد الفرح باستئصال الإسلام واجتثاثه، ولكن فرحتهم ما دامت عقدا واحدا حتى غرقت القوة العسكرية الليبرالية الوحشية في أوحال العراق، وتكسرت في جبال الأفغان، فخرجت تجر أذيال الخيبة والخسران، وانتهى مشروع كسر ثلاث وستين دولة إلى غير رجعة.

وتمدد الإسلام داخل بلدانه، وآب كثير من المسلمين إلى دينهم، وانتشرت مظاهر التزام أحكام الإسلام في أكثر دول الإسلام، مما ينذر بنهضة للإسلام تعم أرجاء الأرض. وهذا ما يقض مضاجع أعداء الإسلام من يهود ونصارى وباطنيين ومنافقين، فأجمعوا أمرهم، وحشدوا جندهم، وسخَّروا أبواقهم الإعلامية في حملة تشويه واسعة للإسلام وشعائره، فسقطت فكرة حرية الرأي، وحرية الإعلام، والديمقراطية والتعددية والموضوعية وقبول الرأي الآخر، وهي عماد الفكر الليبرالي، ومع سقوطها ستسقط الليبرالية؛ فإن سقوط الأفكار أشد من سقوط الرجال، ومهما بلغت دموية الليبرالية المعاصرة ووحشيتها فلن تكون أقوى ولا أشد قسوة من الشيوعية والقومية والاشتراكية، وما نجحت في ثني المسلمين عن دينهم. ومهما حشدت من إعلامها المضلل، وافترت من الأكاذيب، وتلاعبت بالمصطلحات، وحاولت تغييب الشعوب فلن تكون أقدر ولا أقوى من الشيوعية والاشتراكية أيام عزها.

 


 

المصدر:

  1. https://albayan.co.uk/Article2.aspx?id=3089
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية
اقرأ أيضا
شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج2 | مرابط
تفريغات

شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج2


قال المؤلف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك ففعلت فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت قال: خشيتك يا رب أو قال: مخافتك فغفر له

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
852
العقل والغيبيات | مرابط
فكر

العقل والغيبيات


أرسل إلي أحد الأصدقاء هذا السؤال: جملة العقل لا يدخل في الغيبيات هل هي هكذا صحيحة على إطلاقها؟ وما التفصيل؟ إليكم الرد

بقلم: د. سلطان العميري
335
تبريرات عدنانية | مرابط
فكر مقالات مناقشات

تبريرات عدنانية


ويدفع عدنان كل نص يعارض كلامه الذي يرى أنه يعلو فوق كل اجتهاد تارة بالتضعيف وأخرى بالتأويل وفي هذا المقال سنقف على بعض محاولاته التبريرية والتي يلجأ فيها إلى الأسلوبين ويظهر فيها تناقضه الكبير وعدم اتساقه مع ما يقوله في مواضع مختلفة من رسالة الدكتوراه الخاصة به

بقلم: يوسف سمرين
1271
إن الله خلق آدم على صورته | مرابط
اقتباسات وقطوف

إن الله خلق آدم على صورته


هذا الحديث النبوي الشريف إن الله خلق آدم على صورته أشكل على كثير من الناس وتأوله البعض على غير مراده فيما يخص صورة آدم عليه السلام وبين يديكم مقتطف من مختصر تاريخ ابن عساكر جاء فيه تفسير هذا الحديث والمراد بلفظ على صورته

بقلم: ابن عساكر
1310
أثر الخلوات | مرابط
اقتباسات وقطوف

أثر الخلوات


إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذرا من عقابه أو رجاء لثوابه أو إجلالا له فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودا هنديا على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو.

بقلم: ابن الجوزي
557
تعلق القلوب | مرابط
اقتباسات وقطوف

تعلق القلوب


مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية يتحدث فيه عن تعلق القلوب بغير الله وكيف يفضي هذا في النهاية إلى حالة من حالات الأسر تفوق أسر البدن فالقلب هو الملك وهو المتحكم في حال الإنسان بينما الجسد تابع فلو أسر الأخير والقلب مستريح لم يضر صاحبه شيئا

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2364