الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج2

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج2 | مرابط

الكاتب: سلطان العميري

1372 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الأزمة الثانية: التناقضات المتزاحمة:

ركبت العقلية البشرية على التسليم بالمبادئ الفطرية التي تتنافى بشكل قاطع مع الاضطراب والقلق، فالعقل البشري بطبعه يميل إلى الاتساق ويشعر بالارتياح إليه وبالسرور به.
 
ولكنه يفقد ذلك كله حين يكون متابعا للمنتج الليبرالي في السعودية, فنتيجة لانعدام الرؤية الناضجة في قيم الليبرالية، وضبابية الموقف من الأسس الفكرية، فقد وقعت الليبرالية في ممارسات تناقضية عديدة.. تألم منها بعض إتباع التيار الليبرالي نفسه، وكتب فيها مقطوعات رثائية عديدة، ومنها مقطوعة"المكارثيون السعوديون الجدد" يرثي فيها لحال زملائه ويندد فيها بالأوضاع المزرية التي وصلوا إليها من التناقض.
 
1- فبينما ينادي التيار الليبرالي السعودي صباح مساء بالحرية الفردية، ويطالب بفتح الباب لحرية الرأي، ويؤكد على أنها الأساس الذي يقوم عليه التطور والارتقاء والوصول إلى النضج المعرفي، فلا يكاد ينتهي من هذا كله إلا وتتهاوى هذه الدعوة في أول محطة من المواجهة، وتجده يتخلى بكل سهولة عما ينادي به، ويمارس الإقصاء ومحاربة الرأي المخالف له بكل صرامة، فكم اشتكى المثقفون من الإقصاء الليبرالي، وكم منعت أصوات جراء الحرب الضارية التي أقمها التيار الليبرالي على الحرية الفكرية.
 
ولم يكتف التيار الليبرالي بمحاربة الحرية بنفسه، بل انتقل إلى مرحلة أخرى، وهي التحريض على المنافذ الإعلامية التي تتيح للرأي المخالف رؤية النور، والدعوة إلى إغلاقها والتضييق عليها ولو بأسلوب متلوي متعسف، وأقرب مثال على ذلك: ما مارسه التيار الليبرالي من تحريض شديد على قتاة المجد لما ظهر من خلالها رأي يخالف التوجه الليبرالي.
 
ومع ذلك كله فالمتابع لا يجد لأكثر التيار الليبرالي كلاما عن انتهاك الحرية السياسية وقمع الأصوات التي تنادي بمحاربة الاستبداد وتداول السلطة، وتسعى إلى تحقيق العدالة، ولا نجد لهم كلاما عمن سلبت منهم حرياتهم بسبب انتقاده للاستبداد والتفرد بالسلطة، كل هذه الموضوعات يسكت عنها التيار الليبرالي، وكأنها لا علاقة لها بالحرية الفردية !!
 
ويبدو أن التناقض بين القيم الليبرالية وبين الممارسات اليومية للتيار الليبرالي بدا يشكل كابوسا مزعجا يلاحقه في كل زمان ويظهر له في كل مكان.
 
2- ويلاحظ المراقب أن التيار الليبرالي جعل من أبجدياته اليومية الدعوة إلى محاربة التطرف والتشدد والإرهاب، وكرر على أسماع الناس بأن هذه المحاربة هي التي تؤدي إلى الاعتدال والاستقرار.. ولكننا نجده يتناقض في مواقفه من التطرف فقد غض الطرف عن تطرف آخر بلغ من الشطط والشذوذ مبلغا كبيرا، والغريب أن هذا التطرف ظهر للناس وهو يحمل اسم الليبرالية السعودية، فقد مورست شناعات دينية تحت ظل هذا الاسم، فظهر للعيان إنكار وجود الله والاستهزاء بالنبي والتشكيك في القرآن تحت مظلة" الشبكة الليبرالية السعودية"، ولم ير المراقبون من التيار الليبرالي الحماس النقدي ولا الكتابة المكثفة ولا الدعوات المركزة لإنكار هذا التطرف مثل ما رأوه في إنكار النوع الآخر، مع أنه في النوع الثاني أوجب على الليبرالية وألزم لأنه خرج بنفس الاسم الذي يحملونه وتحت المظلة نفسها.
 
3- ويدعو التيار الليبرالي في كل محفل وعند اقتراب معارض الكتاب إلى ضرورة الانفتاح المعرفي والمجتمعي على العالم والسماح بنشر كل مؤلف من غير تضييق عليه أو تحريض، ويسعى إلى إلغاء الرقابة على المنتجات الورقية وغيرها.. ولكننا نفاجأ بأنه في بعض خطاباته يتبنى الدعوة إلى الرقابة المشددة على منتوجات التوجه الديني من الكتب والمجلات والأشرطة والمواقع والقنوات والبرامج، ويدعو ولو بطرف خفي إلى التضييق عليها، وتكثيف الرقابة والمراقبة.
 
4- ولا يكاد يهدأ أكثر التيار الليبرالي من توجيه الذم إلى المجتمع ووصفه بأنه متخلف لم يعرف التطور ولم يذق طعم التقدم، ولم يعش الارتقاء، وأنه ما زال يعيش في عصر التقييدات المكانية والزمنية، وأنه لم يخرج عن البداوة والقبيلة.. ثم نجد ذلك الذم يقف عند دائرة المجتمع فقط، ولا يصل إلى السلطة الحاكمة، بل يصل في بعض المظاهر إلى الإطراء من شأن السلطة والإعلاء من رقيها وتقدمها، مع أن السلطة جزء من المجتمع، بل هي أحد الأسباب التي أدت إلى حدوث التخلف في المجتمع وإلى استمراره.
 
5- ويشن عدد من التيار الليبرالي حملة لا هواة فيها على التصنيف الفكري للمجتمع ويعلن الإنكار القاطع لتقسيم المجتمع إلى تيارات معرفية متدافعة، ويصور ذلك على أنه أحد النواقض الكبرى لمفهوم الوطن الواحد، ولكن المراقب للمنتج الليبرالي يجد حضورا مكثفا للتصنيف والتقسيم، فهو من أكثر التيارات التي تقسم المجتمع إلى متشدد ومعتدل ومتطور ومتحجر ومتفتح ومنغلق وعقل أحادي وعقل تعددي وغيرها من التصنيفات التي لا يكاد تخلو منها الصحافة الليبرالية.
 
6- وقد اعتبر عدد من التيار الليبرالي الاختلاف الثقافي والمجتمعي والواقعي أحد الموانع التي تمنعنا من الاعتماد على التراث الإسلامي، فهو نشأ في بيئة مختلفة عن بيئتنا وفي نطاق فكري مختلف عن فكرنا، وبالتالي فلا داعي لاجتراره واستهلاك الوقت في إحيائه – كما يقولون -، ولكننا في المقابل نسمع صباح مساء دعوات مؤكدة على ضرورة الاقتراض من التراث الغربي وفتح الأبواب أمام الانغماس في أمواجه المتلاطمة، مع أنه هو الآخر مختلف عنا في كل الجوانب التي ذكرها التيار الليبرالي في تحييد التراث الإسلام!
 
ومن جهة أخرى يشهد المتابع للمنتج الليبرالي حضورا مكثفا للدعوة إلى الانفتاح على التراث الإنساني وضرورة الاستفادة مما فيه من قيم ومبادئ – ولا شك أن هذه دعوة صائبة في أصلها – ولكننا في المقابل نلمس تقليلا وتحقيرا من التراث الإسلامي وإعراضا ظاهرا عنه، ومحاولة لصرف الأنظار عنه، وكأنه ليس تراثا إنسانيا أيضا، وكأنه لم يقدم أي معنى من معاني الإنسانية.
 
7- ويستمر التيار الليبرالي في تناقضه، وذلك أنه أكثير من يتهم الآخرين بأنهم يزعمون لأنفسهم امتلاك الحقيقة ويصف من يفعل ذلك بالتحجر وضيف الأفق والخروج عن الواقع ولكن المراقب الواعي إذا تجول في المنتج الليبرالي يجد أنه من أشد التيارات التي تسلك مسلك من يرى أن الحقيقة لا تخرج عما يقول، ومن يرى أنه لا أحد يمتلك الحقيقة غيره، ويتجلى ذلك في عبارات القطع والجزم والتجهيل والتخطئة الجازمة والمؤكدة لأقوال من يخالف توجهاته، فإذا كان هذا الأسلوب لا يمثل امتلاك الحقيقة فما الذي يمثلها إذن؟!
 
8- ويقلل بعض التيار الليبرالي من أهمية الدعوة إلى المحافظة على الخصوصية الفكرية والمجتمعية، ويهون من أهمية الحفاظ على الهوية المعرفية ويستهجن فكرة الغزو الفكري ويعدها خيالا مصطنعا، بحجة أنا نعيش في عصر العولمة الذي أضحى العالم فيه قرية واحدة، ولكننا في المقابل نجده يقول إن الليبرالية السعودية لها خصوصيتها التي لا يشاركها فيها حتى الدول العربية، فهي ليبرالية ليس كمثلها ليبرالية، لأنها تتمتع بخصوصية وهوية صارمة لا تقبل الاختلاط بغيرها !
 
إن هذه الممارسات المتناقضة وغيرها مما لاحظها المراقبون استشرت في جسد الخطاب الليبرالي حتى وصلت على درجة الازدحام، وهي تؤكد مدى المعاناة المعرفية التي يعاني منها، وتشير إلى مقدار الأزمة المعرفية المخيمة عليه وتقيس كمية القلق الثقافي الذي تحدثه في الساحة الفكرية، وتظهر الكثافة الضبابية التي خيمت على أسس الليبرالية.
 
وإذا رجعنا إلى الاستقراء التاريخي لنستجلي الدلالات التي تستخلص من كثرة التناقضات وتزاحمها في مشروع ما فإن نجدها تدل إما على تفتت أصول المشروع وهزالتها وإما على ضعف تصور صاحب المشروع لها وإما على ضعف إيمانه بها وقلة تصديقه بمضمونها وفائدتها، وبالتالي يخالفها في ممارساته اليومية، وكل واحدة من هذه كفيلة بالتسبب في إفلاس المشروع وتعثره.
 
والتيار الليبرالي بهذه التناقضات يكون فاقدا للمشروعية المعرفية وخاليا من مؤهلات النجاح الفكري ؛ لأنه مفتقر إلى أوليات المنهجية المنتجة وأبجديات الأسس الأصلية التي تقوم عليها المشاريع المقنعة لأصحاب العقول المتسائلة.
 
ومن المستغرب حقا أن التيار الليبرالي ما زال مصرا على المضيء قدما في مزاولة تلك التناقضات، مع كثرة الأصوات الثقافية المنادية بالإنكار والتشنيع على صنيعهم والمحذرة من الآثار الفكرية والثقافية التي تحدثها تلك المزاولات في الساحة، ولكنه ألقى بكل الأصوات وراء ظهره، وكأنه يقول: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
 
 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/mktarat/almani/90.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية #السعودية
اقرأ أيضا
المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج2 | مرابط
تفريغات المرأة

المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم ج2


يقولون: إن المرأة تتحجب لتخفي عيوبها عن زوجها الذي يريدها فهؤلاء أقوام رأوا في أوروبا الحضارة والمدنية والرقي فظنوا أن المرأة كانت مستعبدة لا تملك من أمرها شيئا فجاءت الحضارة والمدنية الحديثة وأعطت للمرأة شيئا من حقها ولكنهم لم يقفوا عند مرحلة الاعتدال فظنوا أن من الحرية أن تختلط المرأة بالرجل والرجل بالمرأة ومن العدالة أن تتمرد المرأة على تعاليم السماء ومن المساواة أن تعمل المرأة عمل الرجل والرجل عمل المرأة فكانوا بين إفراط وتفريط

بقلم: عمر الأشقر
668
عقيدة شاملة الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات

عقيدة شاملة الجزء الثاني


تمتاز العقيدة الإسلامية بالشمول لكافة مناحي الحياة وكافة جوانب الإنسان وقد يقال أن إثبات هذه الشمولية يحتاج إلى بحث وتدقيق وتمحيص ولكننا نقول أن مجرد النظر إلى جنبات هذه العقيدة والشريعة يكفي للعيان وفي هذا المقال بجزئيه يكشف لنا الكاتب عباس محمود العقاد عن شمولية هذه العقيدة الساطعة

بقلم: عباس محمود العقاد
1929
أسباب الإلحاد | مرابط
فكر الإلحاد

أسباب الإلحاد


لا يمكن التعامل مع الظواهر الكبرى بنماذج تفسيرية اختزالية بل لا بد من النماذج المركبة التي تجمع عددا من المؤثرات والأسباب ولا يخرج الإلحاد عن هذا المعنى فإنه لا يمكن حصره في سبب منفرد بل هي ظاهرة أوجدتها منظومة مركبة من الأسباب

بقلم: البشير عصام المراكشي
2240
هل العمل عبادة؟ | مرابط
مقالات

هل العمل عبادة؟


والعمل ليس عبادة إلا إذا نوى الإنسان به نية حسنة ككف نفسه عن سؤال الناس والحاجة إليهم أو النفقة على أهله والتصدق على المحتاجين وصلة الرحم ونفع المسلمين بهذا العمل.. ونحو ذلك من النيات الصالحة التي يثاب عليها. ولا بد من استحضار النية.

بقلم: قاسم اكحيلات
435
تصنيف الرجولة | مرابط
مقالات

تصنيف الرجولة


الرجولة عندهم أن تكون قوامتك شراكة وليست قيادة لأن القيادة معناها سائق وركاب رئيس ومرؤوس قائد وأتباع وهذا كله بالنسبة لهذا النوع من النساء ليس من الرجولة الحقيقية بل هي ذكورية متسلطة تريد أن تستولي على الدركسيون بمفردها وعدم اعتبار الشراكة بحال!

بقلم: محمد سعد الأزهري
221
التزمت ولم أجد الراحة | مرابط
اقتباسات وقطوف

التزمت ولم أجد الراحة


التزمت ولم أجد الراحة التي كنت أطلبها تلك العبارة نسمعها كثيرا على ألسنة الملتزمين الجدد ويبدو أنها تنطوي على إشكالية واضحة كما أنها تثبط من يسمعها من غير الملتزمين وتزهده في طريق الالتزام وهذا المقتطف للدكتور إياد قنيبي يجيب فيه عن هذه الإشكالية

بقلم: إياد قنيبي
1149