النصرانية وأوروبا
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
إن أوروبا لم تعتقد العقيدة النصرانية التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على عيسى بن مريم عليه السلام، وإنما اعتنقت العقيدة الباطلة التي حرفها شاول اليهودي، وهو الذي سمى نفسه بولس، ونتج من هذه التحريفات والعقائد الباطلة اضطهاد كبير للمجتمع الأوروبي، ومنه الاضطهاد السياسي، والاضطهاد المالي، والاضطهاد العلمي، وغير ذلك.
الرؤية السياسية للكنيسة الأوروبية
كانت أوروبا قبل أن تنشأ فيها هذه المذاهب الفكرية في ظل حكم الكنيسة، وكانت الكنيسة لا تمتلك رؤية سياسية واضحة وإنما كانت تؤمن بالعلمانية، وينسبون إلى عيسى عليه السلام أنه قال: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
ولم تكن الكنيسة النصرانية تمتلك رؤية سياسية واضحة. وإنما أقرت الأباطرة والحكام الرومان الذين اعتنقوا عقيدة بولس على ما كانوا عليه من الظلم. بل إنها زادت في ذلك عندما أعطتهم الحق الإلهي المقدس. حيث اعتبرت أن أوامر الحاكم مثل أوامر الرب سبحانه وتعالى من حيث القداسة، ووجوب الاهتمام والتنفيذ، بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها.
نظام الإقطاع وأسباب رفض الأوربيين له
كانت الدول الأوروبية في تلك الفترة تعتمد على الزراعة كمصدر أساسي للنشاط الاقتصادي، وفي نفس الوقت كان الحكم على طريقة الإقطاع.
والإقطاع هو: تقسيم الدولة إلى مجموعة دوائر أو أقاليم، وعلى كل دائرة من هذه الدوائر، أو على كل إقليم من هذه الأقاليم نبيل أو شريف مسئول عن هذه الدائرة بأكملها. ويعتبر الناس الموجودون في هذا الإقليم عبيدًا لهذا النبيل والسيد والشريف، حيث يعملون في هذه الدائرة بالزراعة، وفي نهاية عملهم يأخذون ما يسد رمقهم من احتياجاتهم الأساسية، كالأكل والشرب والمسكن، ونحو ذلك ويأخذ السيد الباقي!
فلم يكن هناك تنافس بينهم من حيث طلب المال أو الازدياد فيه، وإنما كانوا يكتفون بأخذ حاجاتهم الأساسية التي يقتاتون بها من رئيس الدائرة الإقطاعي، واستمر هذا الوضع مدة ثم في سنوات طويلة حصل تحرك في المجتمع الغربي من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن كثيرًا من الكتاب والمفكرين والذين كان لهم فكر وعلم، بدئوا يعترضون على بعض آراء الكنيسة، وعلى بعض آراء الإقطاعيين وطريقتهم في الحكم. وكان من أسباب تكون هذه الرؤية عندهم:
الضغط الحضاري الذي كونته الدولة الإسلامية القوية، والتي استطاعت أن تغطي أكثر الكرة الأرضية في تلك الفترة، فقد أشعر الضغط الإسلامي هؤلاء المفكرين والكتاب بعمق الخطأ الكبير الذي يعيشونه.
الناحية الثانية: أنه بدأ تغير اجتماعي في أوروبا ببدء ظهور الصناعة في المجتمع الأوروبي وبداية اختراع الآلات واختراع كثير من الصناعات التي تطورت بشكل تدريجي، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في هذا الزمن.
وهؤلاء الذين بدءوا يعترضون على الكنيسة من جهة، وعلى الإقطاعيين من جهة أخرى كان من أعظم أسباب اعتراضهم هو: تأثرهم بالحضارة الإسلامية. فقد تأثروا بالحضارة الإسلامية عن طريق الأندلس والعثمانيين الذين دخلوا بالجهاد في سبيل الله إلى أوروبا الشرقية، وطريق ثالث وهو ما كان يحدث في كل فترة من قيام أحد الباباوات بشحذ همم الناس والأباطرة الأوروبيين لمقاتلة المسلمين، وجمع الناس من هنا وهناك لمقاتلة المسلمين.
فهذا الاحتكاك بين العالم الغربي والعالم الإسلامي عندما كان العالم الإسلامي في أوج قوته أعطى الغربيين صورة عن العدل في المجتمعات الإسلامية، وأعطاهم صورة واضحة جدًا عن القيم والأخلاق والآداب التي كان يتمتع بها المسلمون في تلك الفترة.
وقد يقال: إذا كان مرد هذه الآراء التي بدأت تحرك المجتمع الغربي إلى تأثرهم بالحضارة الإسلامية، فلماذا لم يطالبوا بتمثل الإسلام عقيدة وشريعة؟ وللجواب على هذا نقول: إن الغربيين في سنين متطاولة تكون في نفوسهم حقد قومي -توارثته الأجيال- على الإسلام بغض النظر عن صحته أو فسادهن فأصبح الخلاف خلافًا قوميًا، وكرهًا اجتماعيًا للمسلمين الذين حاربوهم في تلك الأماكن.
فصرفتهم هذه الموروثات والحقد عن الالتزام بالإسلام والدعوة والرغبة فيه، وإن كان بعضهم قد اتجه نحو الإسلام ودرسه وأسلم، ولكن الأمر بشكل عام لم يكن كذلك. وإنما بدءوا يعترضون على الكنيسة وعلى الإقطاعيين، واستمر هذان التياران تيار التحرر الفكري، وتيار الصناعة الناشئة الجديدة سنين طويلة، فكان من ثمرتهما وجود الثورات المتعددة في المجتمع الغربي، ومنها الثورة الفرنسية التي كانت في عام 1789م.
اليهود والثورة الفرنسية
كانت الثورة الفرنسية أول نجاح لأصحاب الاتجاه الحر. وقد نظم لها اليهود، ووجهوها لتضرب أمرين:
الأمر الأول: لتضرب الدين نفسه. فنشأ على إثرها المذاهب الإلحادية، والاعتراض على الدين، وعدم المبالاة بالإله وبالملائكة وبالرسل وبالقدر وبنحو ذلك من المفاهيم والقيم الدينية. بل إنهم أصبحوا يهربون من كل شيء إلهي، ويفرون منه ولا يريدونه ويبغضونه.
الأمر الثاني: لضرب نظام الحكم الإقطاعي؛ لأن الحكم بهذه الطريقة لا يصلح. فلا يصلح أن يكون الحكام واحدًا يحكم بشكل فردي، ويتوارث بالوراثة النسبية، ولا أن يكون له حق مقدم لا يعترض عليه، ونحو هذا. وقد أثر ذلك بوجود ما يسمى بالديمقراطية.
وقد ساعد على وجود الديمقراطية: التغير والنقلة الهائلة الكبيرة من المجتمع الزراعي الذي كانت تعيش عليه أوروبا إلى المجتمع الصناعي الجديد.
ظهور الصناعة في أوروبا
استفاد اليهود استفادة كبيرة جدًا من هذا المجتمع الصناعي من جهات:
الجهة الأولى: أنهم شجعوا العلماء والمخترعين الجدد وأصحاب المصانع بإعطائهم قروضًا بفوائد، فاستطاعوا أن يكونوا رأس مال ربوي ضخمًا كبيرًا جدًا، وهم أول من اخترع فكرة البنوك الموجودة الآن التي تقوم على الإقراض بالفائدة، ولم تكن هذه البنوك موجودة سابقًا بشكل منظم كما هي موجودة الآن في العالم، وإنما بدأ تنظيمها من قبل اليهود في زمن الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، ثم بعد ذلك طورت حتى أصبحت كما هي عليه الآن في الواقع المعاصر.
الجهة الثانية: أنهم استطاعوا أن يؤثروا في الناس تأثيرًا مباشرًا عندما انتقلوا من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي؛ لأن الناس قديمًا لم يكونوا يفكرون في لقمة العيش أو يسألون عن الوظيفة أو يسعون إليها؛ لأن النبيل كان يعطيهم ما يكفيهم.
ولكن عندما تغير المجتمع أصبح على كل إنسان أن يبحث عن مصدر من مصادر الرزق؛ حتى يأكل ويشرب ويسكن، وقد كان كثير من هؤلاء العمال يشتغلون في الزراعة فلم يكن عندهم الكفاءات والخبرات الجديدة، فتفشت العطالة في المجتمع الغربي تفشيًا كبيرًا جدًا. ومن خلال هذه العطالة ومع وجود الفراغ النفسي والحاجة إلى المال استطاع اليهود توظيف النساء في غير المجالات اللائقة بهن كنساء، فأصبحت المرأة يمكن أن تشتغل في مصنع للحديد مثلًا، ويمكنها أن تخرج من عند أهلها لتكون في عزبة في مكان بعيد عن أهلها. ومع مرور الأيام كونت هذه الأوضاع الاجتماعية فسادًا عارمًا وكبيرًا في المجتمع الأوروبي، وكانت نقلة خطيرة جدًا في المجتمع الأوروبي، استغلها اليهود استغلالًا سيئًا، وأصبحوا هم الرأسماليين الذين يملكون أكبر قدرة من المبالغ المالية التي يمكن أن تمتلك.
بداية الديمقراطية
من هنا جاءت الدعوة إلى الديمقراطية، وعندما يتحدث الغربيون عن ترك الدين فأول ما يتبادر إلى أذهانهم الرجوع إلى الحضارة التي كانت قبل التدين، وهي الحضارة الرومانية واليونانية ومن خلال هذه الرؤية السياسية عندهم بدءوا يراجعون كيف كان الرومان يحكمون، وكيف كان اليونان يحكمون، فوجدوا تجربة تحقق رغبتهم في كسر الدكتاتورية والجبرية التي كانت موجودة في النظام الإقطاعي.
وجدت هذه التجربة عند اليونان عندما اجتمع أهل مدينة أثينا في مكان واحد عندما أرادوا أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وكان سهلًا عليهم في البداية أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم؛ لأن المجتمع كان صغيرًا، فهم الذين يشرعون القوانين، وهم الذين ينظمونها بشكل دقيق بالنسبة لهم.
ولكن المجتمع الجديد الذي انفتح بهذه الضخامة لا يمكن أن يشارك فيه الناس كلهم؛ لأن المسألة تصبح فوضى، ولا يوجد مكان يكفي للناس جميعًا حتى يحكموا أنفسهم، ولا يمكن الاستماع إلى أصواتهم جميعًا، ولا يمكن تنظيم هذه الأصوات. فاقتضى هذا أن يوجد نواب عن الشعب.
والديمقراطية تعريفها وحقيقتها هي: أن تكون السيادة والحكم والتشريع للشعب نفسه؛ لأن الشعوب هي التي -كما يقولون- تملك حق تقرير المصير بالنسبة لها، وهي التي تقرر شرائعها بنفسها. ولأن الشعوب كثيرة، وعددها بالملايين فقد اختزل رأيهم عن طريق نواب. فكونوا المجالس النيابية.
والمجالس النيابية صورتها من الناحية الواقعية: أن توزع الدولة إلى مجموعات أو أقاليم، وكل إقليم يكون له مجلس ينوب عنه، فهذا الإقليم يكون مجلسًا، وهذا يكون مجلسًا، وهذا يكون مجلسًا، وهكذا.
ثم يكون لكل مجلس من هذه المجالس نائب واحد عنه في مجلس عام يسن القوانين والتشريعات، وفي كل فترة تقع انتخابات من الطبقة الأساسية للمجتمع، تنتخب فيها هؤلاء الأشخاص الذين يمثلونها عند الحكومة.
ويحاول كل واحد من المرشحين النواب أن يرضي منتخبيه بقدر ما يستطيع؛ لأنه إذا لم يرضهم بقدر استطاعته فإنهم في الانتخابات القادمة سينتخبون غيره.
ولهذا فإن فكرة الحملات الانتخابية أن تعرف ماذا يريد هؤلاء الناس، وأن تعدهم بتحسينات وتعديلات سواء للأوضاع التي كانت سابقًا غير موجودة، أو التي هي موجودة ويرغبون في تغييرها، فتكونت الديمقراطية بهذه الطريقة، والمجالس النيابية هي التي تشرع القوانين للناس.
وقد يقول قائل: وماذا في هذا؟ وإذا كان هناك مجالس نيابية تشرع للناس فماذا في هذا؟
فنقول: أوضح شيء في الديمقراطية هي أنها جعلت الدين جانبًا، فالمرشح ينتخبه الجمهور حسب إرادته، حتى لو كان هذا المرشح على عقيدة مخالفة لعقيدة الإسلام، أو على دين مخالف لدين الإسلام، أو على فكر يخالف فكر المسلمين. هذا من جهة.
ومن جهة ثانية: تعتبر المجالس النيابية أن من حقها سن التشريعات للناس في كل أمورهم، بكل تفصيل. سواء في أمورهم الخاصة أو في أمورهم العامة.
وحينئذ لو طرحت قضية مثل قضية شرب الخمر فإنه يحق لهذه المجالس النيابية أن تحله أو تحرمه، بناء على ما يريده الشعب، وبناء على إرادته. فإذا أراد الشعب حله أحلوه وجعلوا له قانونًا وألزموا به الناس، وإذا رأوا أن إرادة الشعب لا تريده حرموه ومنعوه بناء على إرادة الشعب!
فالمشرع في الديمقراطية هو غير الله سبحانه وتعالى. وإنما الشعب نفسه هو الذي يشرع هذه القوانين، ولما وجدت الديمقراطية ووجدت معها هذه القوانين فرح بها الغرب فرحًا كبيرًا.
والسبب في فرح الغرب بالديمقراطية، واعتباره أنها من أعظم مفاخر الإنسانية، هو: أنه استطاع بها تجاوز المجتمع والنظام الإقطاعي ليعطي الشعوب حق التعليم والانتقال من مكان إلى مكان، وحق العمل، وحق الانتقاد، وحق التفكير، وحق الانتخاب، وحق المشاركة السياسية، وغيرها من الحقوق.
وقد كان من شعارات الثورة الفرنسية: دعه يمر إلى حيث يشاء، ودعه يعمل ما يشاء، وهذه الحقوق فرح بها الغرب فرحًا كبيرًا؛ لأن نظام الإقطاع السابق الذي تجاوزوه كان يمثل الديكتاتورية، ويمثل الجبر القسري الظالم الغاشم الذي لا يمت إلى دين أو خلق أو أدب بصلة.
المصدر:
محاضرة الديمقراطية من سلسلة المذاهب والفرق المعاصرة للشيخ عبد الرحيم السلمي