النسبوية وما بعد الحداثة الجزء الأول

النسبوية وما بعد الحداثة الجزء الأول | مرابط

الكاتب: عمرو عبد العزيز

2246 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

النسبوية، وإن كانت فلسفة قائمة بذاتها، إلا أنها أيضًا عماد نظريات ما بعد الحداثة، وأثرها عارم في مئات الأفكار الغربية والعالمية، وفي اليسار الليبرالي خاصة. وسنتخيّر الحديث عما يوضّحها لنا كموثّر على المسار الفلسفي اللوطي، موضّحين كيف كانت تلك الفلسفة أحد أسس التكوين

 

مرتكزات الفلسفة النسبوية

 
ترتكز الفلسفة النسبوية على فكرة أن الحق لا يمكن أن يتم حصره في فكر أو أيديولوجيا أو دين -فالحق نسبي، وما تراه اليوم محرمًا، ربما يصبح حِلًّا في الغد، أو هو حِلٌّ حاضر في ثقافة أخرى- Ree and Urmson 2005 كما أن تلك الرؤية قد تمتزج مع الفلسفة التطورية الباقية في حقل الأيديولوجيات، فتنتج الزعم بأن التطور المجتمعي المستمر وتقدمه الذي لا ينتهي هو الأقدر على تحديد الصواب المناسب لكل مرحلة تاريخية.
 
أما تحديد معيار للصواب والخطأ، تاريخي أبدي، مصدره دين أو فكر -فخرافة ودجل، فمن الذي يحدد الشرائع والمعايير؟ أليس الإنسان؟ لقد قال السوفسطائي الإغريقي بروتاغوراس، عميد النسبوية، أن الإنسان هو مقياس كل شيء، وقد كان يعني بذلك، أن كل منظور ورأي لشخص، هو جيد وصحيح كأي منظور ورأي لشخص آخر (Ree and Urmson) وقد عمِد بروتاغوراس في ذلك إلى تحدي المعارف والقيم المفروضة من مصدر خارجي غير إنساني، خاصة الإله (Thiselton 2002).

 

مراحل النسبوية


وقد مرت الفلسفة الغربية بثلاث مراحل مع النسبوية، السوفسطائية الأولى، التي بدأت في القرن الخامس قبل الميلاد، ثم الفكر النافي للنسبوية المطلقة، وهو يمتد من عصر الفلسفة الأفلاطونية والأرسطية إلى القرن العشرين، أي خلال العصر الفلسفي الوثني ثم الفلسفي المسيحي ثم الفلسفي الإنسانوي الحداثي ثم أخيرًا الإحياء بالفلسفة ما بعد الحداثية؛ التي أعادت السوفسطائية ومزاعم نسبويتها المعرفية والأخلاقية إلى الوجود مرة أخرى، وفيه أعطى الإنسان حق تحديد كافة المعارفة من جديد، دون مصدر أعلى، ولو كان المجتمع أو الأيديولوجيات أو العلماء أو المفكرين.

فلسفة ما بعد الحداثة في حقيقتها هي سوفسطائية جديدة.
 

التنوع الثقافي والديني

الزعم، هو أن الإنسان قد قام باختراع الآلهة والأديان ليخلع على مخترعاته الفكرية والثقافية صفة القداسة ويكسبها الخلود، وقد كان في اكتشاف التنوع الثقافي والمعرفي، بعلوم الأنثروبولوجيا وغيرها، توهين لادعاءات امتلاك الحق المطلق، فما هو خطأ في ثقافة، صواب في أخرى، ولا مزية لمجتمع دون آخر، تدفعنا لتصديقه والإيمان بامتلاكه وحده المعيار الأصواب.
 
إن التنوع الثقافي والديني دليل على أن كل مجتمع بشري قد اخترع ما يناسبه من المعايير والمقدسات، واحترام الإنسان يفرض علينا احترام ذلك التنوع الثقافي والفكري، والإيمان بأن لا فضل لمعيار على آخر، ولا رفعة لثقافة على أخرى، ولا أحد يملك الحق المطلق، لا في هيئة الأفكار ولا في هيئة المعيار.
 
والأصولي الديني المتطرف، هو المؤمن بغير ذلك، الكافر بالتعددية الدينية والثقافية والنسبوية والمعارض للإنسانوية العلمانية (macionis 2008)
 

فلسفة ما بعد الحداثة

أما فلسفة ما بعد الحداثة، فتُعرَّف بأنها رؤية تزعم استحالة وجود مقولات ونصوص عالمية مطلقة تتعلق بالقيم والتقدم والسببية التاريخية = والاستحالة حادثة لأن كافة المعارف مشكلة بتصور صاحبها لا أكثر؛ فكل معرفة تكونت لدينا متأثرة بالظرف الذي تلقينا فيه الحدث وفسّرناه، مثل الظرف الثقافي وغيره، وعليه لا يمكن أن تكون المعرفة عالمية أو مطلقة، وإنما كل معرفة لا تكون إلا جزئية متعلقة بالموقف والحدث لا أكثر (callicott and frodeman2009).
 

جسور الجندرية وفلسفة ما بعد الحداثة


وقد كان من آثار ذلك، التأكيد على أن دلالات الألفاظ ليست عامة، بل هي مجرد موروث مجتمعي وثقافي يمكن تغييره، وعليه كان الحضّ على النظر إلى دلالة الذكر ودلالة الأنثى بصورة جديدة، التقوا فيها مع النسوية ومفهوم الجندر = فأصبح لفظ الذكر لا يرتبط في دلالته بالرجل حتمًا، وكذا الأنثى، كيف والدلالات ملك الإنسان والمعرّف لذاته وهويته ونوعه الاجتماعي الذي يرغب في عيشه؟ وكما لا يحق لأحد ادعاء احتكار ملكية المعيار الوحيد للصواب والخطأ، كذلك لا يحق لأحد أن يفرض مفهومه للألفاظ والدلالة التي يريدها على شخص آخر.


ماذا يعني ذلك في حياتك اليومية؟


يعني أن اعتقادك كون الفعل كذا حلال أو حرام، صواب أو خطأ = ناتج من ثقافتك وبيئتك الاجتماعية التي نشأت فيها، وواجبك أن تعترف بهذا وتحتفظ باعتقادك ذلك لنفسك أما إن حاولت فرض معيارك هذا على غيرك، أو حتى محاكمة أفعاله إلى ما تؤمن به من قواعد وقوانين = فبغي وافتراء وتعد على إنسانيته ومعتقداته، وهذا ليس من حقك أولًا، وغطرسة دوغمائية أصولية متطفرفة منك ثانيًا؛ ﻷنك لا تؤمن بنسبية الحق ولا تعترف بأن الحق لا معيار له.
 
والمثال العملي، هو في حكمك على الخنث، فأنت تصر على توصيفه بمعيار يُلزِم الارتباط بين الذكورة والرجولة = وهذا هو معيارك أنت، وهو، فوق أنه معياره متخلف قديم من بقايا عصور ما قبل التاريخ، لا يؤمن بانفصال دلالات الألفاظ وبحقّ الإنسان في أن يفسر اللفظ ويحمّله ما شاء من معنى
 
فالخنث يسمي نفسه امرأة ويريد من المجتمع أن يعامله كامرأة ولا يناديه إلا بأدوات التأنيث، والخنثة تسمي نفسها رجلا وترفض من المجتمع نداءها بغير أدوات التذكير، وهم أحرار فيما يريدون وعلينا احترام حرية اختيارهم ووضع معاييرنا في منزلنا، وعلينا الإيمان بمعايير مجتمع المستقبل، التي تعزز نسبوية الحق ونسبوية المعاني والألفاظ، وتفتح الأبواب واسعة للتعددية الثقافية والفكرية والجندرية.

 

هذا هو مختصر أثر ما بعد الحداثة والنسبوية

 


 

المصدر:

  1. عمرو عبد العزيز، دين المؤتفكات، ص33
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
مواجهة المشكلات | مرابط
تفريغات ثقافة

مواجهة المشكلات


ن اللجوء إلى الله جل وعلا هو من عتاد المسلم في الكروب وعلينا ألا نغفل عن هذا الجانب فلدى الله تعالى من أشكال المعونة وتفريج الكربات أكثر بكثير مما يظن الناس وأكثر بكثير مما يعرفون لنجعل من المشكلات والأزمات نقاط انطلاق جديدة ولنجعل منها مصدرا لتجديد الوعي واستخراج الإمكانات الكامنة ومصدرا للمراجعة والنقد الذاتي وبذلك تنقلب المحنة إلى منحة

بقلم: د عبد الكريم بكار
333
شدة عناية الصحابة بتدبر القرآن | مرابط
اقتباسات وقطوف

شدة عناية الصحابة بتدبر القرآن


كان القرآن هو شغل الصحابة وشاغلهم الأول ولا يدانيه شيء آخر أو اهتمام آخر في الحياة وهذا مقتطف جميل لشيخ الإسلام ابن تيمية يتحدث عن هذه القيمة الكبيرة والفارق الكبير بين الصحابة ومن جاء بعدهم في الاهتمام والعناية بكلام الله تعالى

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
2035
معنى جوامع الكلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

معنى جوامع الكلم


وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة وغشاه بالقبول وجمع له بين المهابة والحلاوة وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام مع استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى معاودته لم تسقط له كلمة ولا زلت به قدم ولا بارت له حجة ولم يقم له خصم ولا أفحمه خطيب

بقلم: الجاحظ
346
الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج1 | مرابط
تاريخ تعزيز اليقين

الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج1


إن التأمل والتدبر في تفاصيل الهجرة النبوية المباركة يجعلنا نتيقن وبما لا يدع مجالا للشك أن الهجرة النبوية كانت حدثا حاسما في الدعوة المحمدية أرست الأسس والنواة الصلبة لدولة الإسلامية الناشئة كما حملت لنا عبرا ودروسا وافرة نستفيد منها ونستجلي منها قيما وأخلاقا حميدة وبين يديكم مجموعة من الفوائد والدروس والمآثر من وحي السيرة

بقلم: علي الصلابي
778
تعدد طرق الضلال | مرابط
اقتباسات وقطوف

تعدد طرق الضلال


الشبهات هي شبهات عظيمة في ذاتها وشبهات هي يسيرة في ذاتها ولكنها عظيمة في قلب الإنسان لقلة معرفته بالحق فالله سبحانه وتعالى جعل للإنسان طريقا مختصرا بينا يميز به الإنسان الخير من الشر ويجعل هذا الطريق هو طريق الفيصل بين الطرق كلها وقد ذكر الله عز وجل في هذه الآية أن الصراط صراط واحد وأما السبل فهي متعددة لأن طريق الحق هو طريق واحد كحال العافية فالعافية واحدة وأما الأمراض فمتعددة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
366
المؤامرة على المرأة المسلمة ج4 | مرابط
تفريغات المرأة

المؤامرة على المرأة المسلمة ج4


الذي يضيع الوقت لينظر إلى المباريات قد أضاع والله العمر الثمين في لهو وترك الخير وترك أن يعمره بذكر الله وطاعته الله أو ما ينفعه في دنياه فكيف الذي يزيد به الأمر فوق النظر بأن يصرخ ويشجع ثم يلعن عياذا بالله ليس المؤمن باللعان كما ذكر ذلك صلى الله عليه وسلم فهذا دليل على أن الإيمان ضعيف نسأل الله الهداية لنا ولهذا الأخ ولكل مسلم وأن نكون على بصيرة من أمرنا وألا يشغلنا اللهو واللعب ولهذا ذكر الله تعالى ووصف الدنيا في آي من كتابه بأنها لهو ولعب ما هذا

بقلم: سفر الحوالي
710