الوسطيتان

الوسطيتان | مرابط

الكاتب: إبراهيم السكران

2142 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

استهلاك مصطلح الوسطية

قال لي أحد أقاربي ذات مساء ونحن نتمشى سويًا: (ياخي فتاوى الشيخ الفضائي فلان أطلق من فتاوى ابن عثيمين). قلت له: لم؟.. أطرق هنيهة.. ثم قال: (ياخي أحس أنه "شيخ وسطي").
انتهى المشهد هاهنا .. وساحت بي الذكريات بعيدًا بعيدًا ..
 
تذكرت المحضن الذي انطلقت منه شرارة السجالات الفكرية في السعودية.. إنه "موقع الوسطية" الذي كان مهندسه الدكتور الفاضل محسن العواجي..
ثم هذا الاستنزاف المكثف لمصطلح "الوسطية" في الصحافة المحلية.. حتى وصل الاحتدام إلى معركة كلية اليمامة ومسرحيتها الشهيرة (وسطي بلاوسطية).. وخلال الأعوام الأخيرة بتنا نرى الأمير خالد الفيصل (أو الشيخ خالد الفيصل!) يشرح لنا –جزاه الله خيرًا- في عدة ندوات ومقالات معنى "الوسطية في الإسلام"!
وفي مطلع هذا العام أعلن كرسي بحث الأمير سلطان بجامعة الملك سعود عن إطلاق مشروع ضخم باسم (موسوعة أبحاث الوسطية)! الخ الخ

 

حسنًا.. أين المشكلة؟

المشكلة أن الوسطية في القرآن ليست وسطية واحدة، بل هي وسطيتان، وسطية مطلوبة، ووسطية مرفوضة.

 

الوسطية المطلوبة

فمن "الوسطية المطلوبة" في القرآن ذلك الدعاء القرآني المبهر الذي ندعوا به يوميًا عشرات المرات: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ** صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) الفاتحة (6-7)

فانظر بالله عليك كيف ترسم هذه الآية خط "الصراط المستقيم" وسطًا بين مسار (المغضوب عليهم) ومسار (الضالين). ولذلك استحقت هذه الأمة الوصف القرآني المشرف: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) البقرة (143)

هذا من حيث الإسلام كله، أما من حيث شرائع الإسلام التفصيلية فإن الله لما ذكر الصلاة قال:
(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلا) سورة الإسراء (110)

فجعل ابتغاء السبيل بين "الجهر" و"المخافتة" وسطية مطلوبة.

وحين ذكر الله النفقة قال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) الفرقان (67)
فجعل النقطة الوسط بين الإسراف والتقتير "قوامًا" أي وسطية مطلوبة.

وهناك الكثير من شواهد الوسطية المطلوبة في القرآن.

 

لكن هل هذا كل شيء؟ هل هذه هي الوسطية في القرآن؟

لا .. ثمة لون آخر من الوسطية شرحه القرآن أيضًا .. وإن كان يتغافل عنه مروجوا "وسطية الميديا" ..

 

الوسطية المذمومة

فإن الله تعالى لما ذكر أصحاب محمد وخصومهم، ذكر طائفة أخرى من الناس أرادت أن تنتهج منهج "الوسطية" بين الفريقين، فقال تعالى عن هذه الوسطية المرفوضة: ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ) سورة النساء (143)

وهؤلاء أصحاب الوسطية المرفوضة تجدهم دومًا يحاولون أن يحسنوا العلاقات مع أهل الحق وخصومهم، أو كما يقولون بلغتهم المفضلة (نبني جسور العلاقات مع جميع الأطراف!)، كما قال تعالى عن هذا المظهر من مظاهر وسطيتهم: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا) سورة النساء (91)

الطريف في الأمر أن هؤلاء الوسطيين تلعب بهم "النفعية والبراجماتية" إلى مداها الأقصى، فإن كان النفوذ لأصحاب الدعوة كانوا معهم، وإن كان النفوذ لخصوم الدعوة كانوا معهم، كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ، وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) سورة النساء (141)

 

"ابتغ بين ذلك سبيلا"


ووجد في عصر النبي –صلى الله عليه وسلم- من كفر بالكتب السماوية كلها، ووجد فيها من آمن بها كلها، ووجد الفريق الثالث وهو من توسط بين الفريقين، فآمن ببعض كلام الله وترك البعض الآخر، فهل كانت هذه وسطية محمودة؟ لقد ندد القرآن بهذه الوسطية بكل وضوح فقال: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) البقرة (85)

ربما كان اللافت فعلًا أن القرآن استعمل هذه الصيغة (ابتغ بين ذلك سبيلا) في كلا نوعي الوسطية، فجعل مرة ابتغاء السبيل بين الأمرين وسطية مطلوبة، وجعل مرة أخرى ابتغاء السبيل بين الأمرين وسطية مرفوضة.

ففي المرة التي استخدم فيها "ابتغاء السبيل بين الأمرين" في الوسطية المطلوبة يقول تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلا) سورة الإسراء (110)

وفي المرة التي استخدم فيها "ابتغاء السبيل بين الأمرين" في الوسطية المرفوضة يقول تعالى: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلا) النساء (150)

 

ماهو الفرق إذن بين هاتين الوسطيتين في القرآن؟

 

الحقيقة أن الوسطية المطلوبة في القرآن تجدها دومًا (حق بين باطلين) .. أما الوسطية المرفوضة في القرآن فتجدها دومًا (وسط بين الحق والباطل)

فهؤلاء الذين ينادون دومًا بالوسطية الدينية، والوسطية في فهم الإسلام، إن كانوا يعنون بالوسطية وسطية "أصحاب محمد" في تفسير النص، والموقف من العلوم المدنية، والموقف من الكافر، ودور المرأة ، وضوابط الحريات الشخصية، الخ. فهذه وسطية مشكورة محمودة، ونحن جنود لكل راية تحمل هذه الوسطية.

أما إن كان المراد التوسط بين منهج أصحاب محمد والفكر الغربي، فهذه وسطية مردودة ونحن –بعون الله- خصوم لهذه الوسطية التي سبق أن شرح القرآن نظيرها فقال: ( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ) سورة النساء (143)

 


 

المصدر:

  1. http://www.saaid.net/Doat/alsakran/16.htm
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#إبراهيم-السكران #الوسطية
اقرأ أيضا
من أكثر ما يعينك على الشكر | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أكثر ما يعينك على الشكر


من أكثر ما يعينك على الشكر تذكر سابق حالك.. يمكن أن تسمي ذلك بذكريات النعمة. هذا الشارع الذي تمشي فيه الآن بسيارتك كنت تمشي فيه في الحر الشديد أو البرد الشديد على رجليك ربما لا تجد أجرة الحافلة أو تجدها ولكن المشي أرفق بك من ركوبها.

بقلم: محمد سالم بحيري
331
معنى الثقافة في التاريخ | مرابط
اقتباسات وقطوف

معنى الثقافة في التاريخ


لا يمكن لنا أن نتصور تاريخا بلا ثقافة فالشعب الذي يفقد ثقافته يفقد حتما تاريخه. والثقافة -بما تتضمنه من فكرة دينية انتظمت الملحمة الإنسانية في جميع أدوارها من لدن آدم- لا يسوغ أن تعد علما يتعلمه الإنسان بل هي محيط يحيط به وإطار يتحرك داخله

بقلم: مالك بن نبي
399
الجنس الثالث | مرابط
المرأة

الجنس الثالث


وفي الوقت الذي يتجرع فيه الغرب آثار خروج المرأة على فطرتها ووظيفتها كان بعض كتابنا ومفكرينا ينادون بأن نأخذ في ذلك الطريق الذي انتهى بالغرب إلى ما هو فيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية هزت دعائم مجتمعه هزا عنيفا أفقده استقراره واتزانه وعرض سلامته وكيانه لأشد الأخطار

بقلم: محمد محمد حسين
357
منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الثاني | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الثاني


إن القرآن روح الإسلام ومادته وفي آياته المحكمة شرع دستوره وبسطت دعوته وقد تكفل الله بحفظه فصينت به حقيقة الدين وكتب لها الخلود أبد الآبدين والرجل الذي اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالاته كان قرآنا حيا يسعى بين الناس كان مثالا لما صوره القرآن من إيمان وإخبات وسعي وجهاد وحق وقوة وفقه وبيان فلا جرم أن قوله وفعله وتقريره وأخلاقه وأحكامه ونواحي حياته كلها تعد ركنا في الدين وشريعة للمؤمنين إن الله اختاره ليتحدث باسمه ويبلغ عنه فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال ومن أولى منه بتحديد المسلك الذي...

بقلم: محمد الغزالي
1638
حقوق الأبناء على الآباء والأمهات | مرابط
تفريغات

حقوق الأبناء على الآباء والأمهات


فإذا اختارت الأم بعلها واختار الزوج زوجته فإن الله سائلهما فأول حقوق الولد عليك -أيها الأب-: أن تحسن الاختيار لأمه فكم من أم نشأت وربت وأصلحت لما أحسن البعل اختيارها وكم من أم أفسدت وأشقت وأضلت حينما أساء الزوج اختيارها فالله الله في اختيار الأزواج والزوجات إن اختيار الآباء والأمهات مسئولية عظيمة على الأزواج والزوجات فليتق العبد بارئه وليعلم أنه ملاقيه وسائله عن اختياره لزوجه وولده

بقلم: محمد مختار الشنقيطي
2244
الكذب يفسد تصور المعلومات | مرابط
اقتباسات وقطوف

الكذب يفسد تصور المعلومات


كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله فيستحكم عليه الفساد

بقلم: ابن القيم
687