ويأتي دور السنة النبوية
2- ويجيء بعد رسوخ القدم في فهم القرآن فهم ما يروى من السنن على وجهه الحق، فخير لمن يقصّر عن فهم السنن أن يحبس لسانه في فمه فلا يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم يسوق حديثا لا يعرف ما المقصود منه؟! وإن كان يفهم عبارته الظاهرة واحدها.
وقد بليت السنّة من قديم بمن يحفظ منها الكثير ولا يعي إلا اليسير، وتعجب السيدة عائشة من أبي هريرة حين جلس يروي، ليس لأنّها تتهمه بكذب، بل لأن أسلوب تحديثه يهدر الملابسات التي قيلت فيها هذه الأحاديث بعد ما طويت طيا في سرده الموصول.
وقد روى مسلم في صحيحه: أن عمر ضرب أبا هريرة لمّا سمعه يحدّث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة»، ولعلّ عمر فعل ذلك لأنه وجد أبا هريرة يذكر الحديث لمن لا يعي منه إلا أن الإسلام كلمة تقال باللسان ولا عمل وراءها، ومنع الحديث- ولو صحّ- إذا أوحى بهذه الجهالة، أفضل من إباحة روايته.
وروى ابن عبد البر عن أبي هريرة نفسه قال: لقد حدّثتكم بأحاديث لو حدّثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة!!.وفقه عمر في هذا المنع: أنه يريد- كما علمت- بناء المجتمع على تعاليم القرآن، وشغل الأفكار بتدبرها والاستنباط منها، فإذا رويت السنن بعدئذ تلقفتها أذهان نيّرة، فلم تعد بها معناها الصحيح.يستطيع أبو هريرة- لجودة حفظه- أن يسرد مئة حديث في الصلاة مثلا، وعمر ربما لا يرى حرجا من سرد هذه السنن في مدرسة خاصة، ولكنه يكره أن يشغل جمهور المسلمين بأمر يكفيهم منه القليل، ثم ينصرفون بعده إلى عمل أجدى على الإسلام وأهله.
وذلك سرّ تضييقه على الرواة المكثرين!
التعامل مع كثرة مرويات السنة
لقد روى ابن حزم قرابة ألف صفحة من الأحاديث في الوضوء، ولمن شاء أن يتوفر على هذا اللون من العلم، لكن شغل عامة المسلمين به حمق! فماذا يبقى بعدئذ للقران نفسه؟! بل إن شغل المسلمين بالقرآن على هذا النحو ليس من الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به» «1».
وإن يكن لهؤلاء الحفّاظ فضل فلأنهم حملوا العلم إلى من يحسن الإفادة منه، على نحو ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ربّ حامل فقه ليس بفقيه، ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» «2»، عن أبي يوسف قال: سألني الأعمش عن مسألة وأنا وهو لا غير، فأجبته، فقال له: من أين قلت هذا يا يعقوب؟ فقلت: بالحديث الذي حدثتني أنت! ثم حدّثته! فقال لي: يا يعقوب، إني لأحفظ هذا الحديث من قبل أن يجتمع أبواك، ما عرفت تأويله إلا الان!!.
وقد يبصر أبو يوسف «3» الفقيه ما يغيب عن الأعمش «4» الحافظ، ولكن المحذور ليس في الحفظ بلا فهم، بل أن يفهم الأمر على غير وجهه، والترتيب الفني للسنن -كما دوّنت وتلقيناها- يجعل ما ورد في الإيمان بابا، وما ورد في القضاء بابا... وهكذا..
بين الإسلام والسنة النبوية
ولما كان الإسلام جملة هذه الحقائق، فإنّ السنّة أصبحت كمتجر كبير للملابس وزعت فيه أنواعها على مختلف الجوانب، هنا أغطية الرأس، وهنا سراويل، وهنا قمصان، وهنا حلل سابغة... إلخ. والطبيعي أن من يريد كسوة كاملة يمرّ بهذه الجوانب كلها ليأخذ ما يغطيه من رأسه إلى قدمه، ولكن يحدث كثيرا أن ترى من يشتري قلنسوتين ويخرج حافيا، أو من يشتري منديلا ويخرج عاريا!.
إنّ هذا مثل طوائف اشتغلت بالسنّة، ثم -بعد طول تطواف- خرجت على الناس، وفي يديها من السنن سواك، وعمامة مقطوعة الذنب اعتبروها شعار الإسلام، وسرّ ذلك أنهم دخلوا المعرض الحافل، ثم خرجوا منه بعد أن ظنوا الدين كله في حديث أو سنّة محدودة، فأساؤوا بذلك إلى القرآن والسنّة جميعا.
قصر الباع في السنة
3- إن قصر الباع في السنة -على كثرة الاشتغال بها- أضرّ بتوجيه المسلمين، وأشاع بينهم طائفة من الأحكام المبتسرة «5»، والتقاليد الضيقة، تنبو عنها روح القرآن والسنّة، وإن اعتمدت على حديث لم يفهم، أو أثر لم يفقه.
وذلك أن الإسلام -في الشؤون الهامة- جاء بطائفة من الأحكام، ذكرت في الكتاب العزيز، أو وردت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وهي جميعا متكاملة؛ يصل بعضها بعضا ويوثقه، فإذا ظهر في دليل منها ما يعارض سائر الأدلة، بحث في تأويله حتى يتم الجمع بينها كلها، أو قبل الأرجح سندا، وردّ الاخر «6»؛ ولذلك يرى المحققون «7» أن سنن الاحاد ترفض إذا خالفت ظواهر الآي، وعموم النص، أو خالفت قياسا يعتمد على أحكام القران نفسه، وهم يفرقون بين الأحاديث التي يرويها رجال فقهاء، والتي يرويها رجال حفاظ فحسب.
الإشارات المرجعية:
- حديث صحيح، أخرجه أحمد: 3/ 428- 444؛ والطحاوي في شرح معاني الاثار: 2/ 10، من حديث عبد الرحمن بن شبل مرفوعا، وسنده صحيح، وقوّاه الحافظ في الفتح: 9/ 82.
- حديث صحيح، رواه ابن عبد البر: 1/ 39؛ وكذا أصحاب السنن، والدارمي، وأحمد في حديث لزيد بن ثابت، وسنده صحيح، وصحّحه ابن حبان، وابن حجر وغيرهم.
- هو يعقوب بن إبراهيم، أبو يوسف القاضي، قاضي الرشيد، وأجلّ تلاميذ الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، توفي سنة (182 هـ)، له كتاب (الخراج)، و(الآثار). مقدمة الخراج.
- هو أبو محمد سليمان بن مهران الكاهلي، أحد الأئمة الأعلام، توفي سنة (148 هـ). الكاشف: 1/ 464.
- المبتسرة: المتسرعة التي لم يبذل في تحصيلها جهد وتتبع واستقصاء.
- وهذا داخل في نقد المتن.
- من الحنيفة فقط، أما الجمهور فلا.
المصدر:
- محمد الغزالي، فقه السيرة النبوية، ص37