عن الدعاء والتوسل والاستغاثة ج1

عن الدعاء والتوسل والاستغاثة ج1 | مرابط

الكاتب: محمد الحسن الددو الشنقيطي

384 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

معنى الربوبية

بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:

 

هذا شروع في ذكر توحيد الربوبية، وهو على التقسيم الذي ذكرناه يُعَدُّ القسم الثالث من أقسام التوحيد، والمقصود به: إثبات الربوبية لله تعالى ونفيها عن كل ما عداه.

 

والربوبية: مصدر صناعي من رَبَّ الشيء يَرُبُّهُ إذا كان مهيمنًا عليه مسيطرًا. والعرب تشتق من هذه المادة أربعة أفعال، فيقال: رَبَّهُ يَرُبُّهُ إذا استولى عليه، ومنه قول صفوان بن أمية يوم حنين: فلأن يربّني رجل من قريش خير من أن يربّني رجل من هوازن.

 

ويقال: رباهُ يربِّيه لنفس المعنى؛ لكنها تشير إلى إيصاله إلى كماله بالتدريج شيئًا فشيئًا، ومنه قول الشاعر:

وربيته حتى إذا تم واستوى كمخة ساق أو كمتن إمام

قرنت بحقويه ثلاثًا فلم يزغ عن القصد حتى بصرت بدمام

 

ويقال: رببه يرببه لنفس المعنى أيضًا، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: بيضًا مرازبة غلبًا أساورة أسدًا ترببن في الغيضات أشبالًا

 

ويقال: ربته يربته. بإبدال إحدى الباءين تاءً مثناة، وهو الفعل الرابع، ومنه قول الشاعر:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجمهور حزوى حيث ربتني أهلي

بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي ومزقن عني حين تم بها عقلي

(حيث ربتني أهلي) بمعنى: رباني أهلي.

 

تعريف الربوبية في الاصطلاح

والربوبية في الاصطلاح معناها: الخلق والتدبير، فنسبة الربوبية إلى الله معناها: نسبة كل الخلق إليه وتدبير ذلك الخلق، فلا خالق لشيء سواه، ولا مدبر له، ولا مالك له غيره، فلهذا قال: (وبالربوبية وحّدوه)؛ فهذا يقتضي إثبات الربوبية له، ونفي الربوبية عن كل ما سواه.

 

ويطلق الرب على المهيمن والمسيطر مطلقًا في اللغة وفي الاصطلاح، ومنه يقال: رب البيت، وكذلك يطلق على الشهيد الذي يحفظ ولا يفوته شيء، ومنه قول الحارث بن حلزة اليشكري: وهو الرب والشهيد عليهم أي: الحافظ الذي يحفظ عليهم أعمالهم ولا يفوته شيء منها, وكل هذا من صفات الربوبية؛ لأن الربوبية تقتضي عددًا من الصفات منها:

 

القِدم والبقاء والقيومية والتدبير والملك والجبروت والعظمة، وكذلك تقتضي الربوبية من الصفات السالبة المنفية: الوحدانية والغنى المطلق والمخالفة للحوادث، وأنه لا تأخذ سنة ولا نوم، فكل هذا تقتضيه الربوبية.

 

العلاقة بين توحيد الربوبية وغيره من أنواع التوحيد

والإيمان بالله سبحانه وتعالى بأنواع توحيده الثلاثة مترابطة بعضها يكمل بعضًا، فالربوبية من لوازمها توحيد العبودية الذي سبق، وكذلك توحيد الأسماء والصفات الذي سبق؛ لأن الربوبية تستلزم هذه المعاني التي ذكرناها، فلا يمكن أن يكون ربًا لما سواه إلا إذا كان قديما باقيًا موجودًا متصفًا بالصفات التي ذكرناها.

 

(بالربوبية وحدوه) أي: أثبتوها له وانفوها عما سواه، فهذا يجمع بين النفي والإثبات.

 

(فهو الذي تعنو له الوجوه) معناه: فهو وحده الذي تعنو له الوجوه، أي: يحشر الناس إليه يوم القيامة، فهو وحده الذي يقبض السماوات والأرضين بيمينه ويهزُّهن ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ولذلك قال الله تعالى: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" [الزمر:67]، وهذا هو غاية الربوبية، إذ غايتها إذعان الناس جميعًا إليه يوم القيامة بحيث لا يخالف أمره أي أحد، ولا يستطيع أحد أن يتأخر ولا أن يغيب ولا أن يعتذر بأي عذر من الأعذار، وهو سبحانه قبض السماوات والأرضين بيمينه وهزهن؛ فلذلك قال هنا: (فهو الذي تعنو له الوجوه).

 

ولذلك حين ذكر الله سبحانه وتعالى مشاهد القيامة قال: "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا" [طه:111]، وهذا يقتضي مذلة الوجوه لوجهه الكريم، ففي الدنيا إنما تذل له وجوه عباده الموحدين، فهم الذين يسجدون له، وأما يوم القيامة فتعنو له جميع الوجوه وتذل، فكل وجه يذل لوجه الله سبحانه وتعالى.

 

وهذا دليل على تمام ربوبيته، لكنه كذلك مثبت لأمر آخر، ومشهد من مشاهد القيامة، وهو أن تعنو جميع الوجوه لله سبحانه وتعالى، وهو المذكور في قوله: "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا" [طه:111]، وقد رتب الشيخ ذلك على الربوبية بقوله: (فهو الذي تعنو له الوجوه).

 

والوجوه جمع وجه، وهو ما يقابلك ممن واجهته، فيشمل ذلك وجوه الخلائق كلها بهائمها والجمادات والأموات، ولهذا تقول: هذا وجه الجبل، وهذا وجه الكتاب، وهذا وجه فلان. فالمقصود به ما يواجهك أيًا كان؛ ولذلك فهذا يشمل وجوه الكائنات الحية والجمادات وغيرها، فكل تلك الوجوه تعنو له.

 

الوساطة في الدعاء

ثم ذكر مسألة تتعلق بتوحيد العبادة فقال: [لا تجعلوا إذا دعوتم وسطا بينكم وبينه فهو خطأ]

 

فهذا نهي عن نوع من أنواع الشرك، وهو شرك الدعوة، فالشرك في الدعاء هو أن يدعو الإنسان أو يستغيث بغير الله سبحانه وتعالى، وهذا شرك قد سبق ذكره، لكن بعض الناس يزعم أنه لا يدعو أولئك لأنفسهم، وإنما يتقرب بهم إلى الله سبحانه وتعالى فيتوجه بهم إليه، وهذا يشمل أمرين:

 

الأمر الأول: وهو الاستغاثة بالمخلوق:

وذلك كدعاء الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء أو غير ذلك، فهذا قطعًا شرك صريح لقول الله تعالى: "ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ" [فاطر:13-14].

ومثله قوله تعالى: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا" [الإسراء:57].

ومثله قوله تعالى: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" [الزمر:36].

وقوله تعالى: "تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ" [الزمر:1-4].

 

فرد على هؤلاء، وجعل شركهم مثل شرك النصارى الذين يزعمون له ولدًا؛ لأن هؤلاء يزعمون أنهم يتوسطون إليه بأولئك الذين يدعونهم.

 

أما النوع الثاني: فهو التوسل:

والتوسل بالأشخاص بذكرهم في الدعاء معناه التوسط بهم إلى الله، كأن يقول الإنسان: أتوجه إليك بفلان أو بعمل فلان -مثلًا- فهذا لا خلاف في تحريمه، وأنه من الكبائر، وأنه إذا قصد به إضفاء صفة من صفات التأثير عليه يكون شركًا أيضًا.

 

وإذا لم يقصد به إضفاء صفة إليه وإنما هو لضعف علاقة الإنسان بالله، ولضعف ثقته بإيمانه، فهو أيضًا نقص في الإيمان ونقص حتى في العقل؛ ولذلك لم يختلف في تحريم التوسل بالأشخاص إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده، فقد سبق أنه اختلف في جواز التوسل بشخصه صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف فقهي ذكرنا أن الراجح فيه هو المنع، وأن الحديث الوارد في ذلك وإن صححه كثير من أهل الحديث إلا أن الراجح أنه لا يصح، أعني حديث الضرير، وذكرنا علله الأربع فيما سبق، فلذلك قال: (لا تجعلوا إذا دعوتم)، أي: إذا سألتموه، (وسطا).

 

قوله: (وسطا) جمع وسيط، والوسيط هو الذي يشفع، فهذا يشمل أمرين:

يشمل تحريم دعاء من دونه، وهذا شرك قطعًا، وهو شرك الدعوة، ويشمل كذلك تحريم التوسط والتوجه إليه بخلقه، فإنه لم يشرع ذلك ولم يعلمنا إياه، وهذا وإن كان يمكن ألا يصل إلى درجة الشرك -كما ذكرنا- لكنه نقص في الإيمان، ونقص في ثقة الإنسان وعلاقته بالله، ونقص في عقله أيضًا.

ومن يجعل بينه وبين الله واسطة ليشفع له ألا يعلم أن هذا الشافع محتاج إلى أن يتقرب إلى الله بالعمل بنفسه، فكيف يتقرب غيره بعمله؟! ولهذا رد الله تعالى هذا بقوله: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ" [الإسراء:57]، فهم أنفسهم يبتغون إلى الله سبحانه وتعالى الوسيلة، ويتقربون إليه فكيف يتقرب بهم.

 

قوله: (وسطا بينكم وبينه) أي: في الدعاء.

قوله: (فهو خطأ) أي: فهو إثم، والخطأ والخطء كلاهما اسم للإثم، والله سبحانه وتعالى يطلق الخطأ والخطء على الإثم مطلقًا حتى الشامل للشرك، فالشرك إحدى الكبائر، والخطأ بمعنى الذنب وهو يشمل الكبائر والصغائر.

 

والمقصود أنه قد يكون شركًا أكبر، كما إذا كان دعاء لمخلوق واستغاثة به، وقد يكون دون ذلك -أي: شركًا دون شرك- مثل التوسل به. والضمير هنا في قوله: (فهو خطا) يعود على الجعل المفهوم من الجملة السابقة، فإن قوله: (لا تجعلوا) يُفهم منها المصدر الذي هو الجعل، فلذلك قال: (فهو) أي: جعل وسيط من دونه، بينكم وبينه خطأ.

 

حديث الضرير في التوسل

وحديث الضرير الذي يستدل به مجيزو التوسل فيه علل.. وأول هذه العلل:

أن شعبة يرويه عن أبي جعفر غير منسوب وغير مسمى وإنما ذكر بكنيته، وأبو جعفر هذا قال الترمذي: (وليس الخطمي، فـ أبو جعفر الخطمي ثقة مدني معروف، ولكن أبو جعفر هذا لا يدرى من هو، والذين صححوا الحديث اعتمدوا على أن أبا جعفر هذا هو الخطمي.

 

العلة الثانية: أن النسائي أخرج هذا الحديث من وجه آخر في السنن فقال فيه: عن أبي جعفر عن عمارة بن زيد بن ثابت، بدل عمارة بن خزيمة بن ثابت، وهذه العلة ما وجدت من نبه عليها من الذين تكلموا على هذا الحديث، وقد بحثت عن عمارة بن زيد بن ثابت هذا فما وجدت له ذكرًا في كتب الرجال، إلا ذكرًا لا يبشر بخير، وهو أن مالكًا ذكر في موطئه أن فتية من العطار تعاطوا الخمر في أيام مروان حين كان أميرًا على المدينة لـمعاوية فقتلوا أحدهم بالسكاكين، فكتب مروان إلى معاوية فيهم فأمره أن يقتاد منهم، ولم يسم مالك القتيل لكن ابن حزم ذكر هذا الأثر في المحلى فسمى القتيل عمارة بن زيد بن ثابت، فقد قتل في معاقرة الخمر، قتله أصحابه فلا يصلح للاحتجاج به.

 

وعلى هذا فإن إسناد الحديث فيه اختلاف على الراوي أبي جعفر هذا، هل شيخه فيه عمارة بن زيد بن ثابت أو عمارة بن خزيمة بن ثابت؟ عمارة بن خزيمة بن ثابت لا إشكال فيه؛ لأنه ثقة من التابعين، وعمارة بن زيد بن ثابت هو الذي ذكرناه، ولا نعرف له ترجمة ولا ذكرًا إلا في هذه الواقعة.

 

والعلة الثالثة: أن فيه أن عثمان احتجب عنه، وما عرف عن أحد من الخلفاء الراشدين أنه احتجب، بل كان يأذن لكل من طرق إلا في أوقات الانشغال، وكان -كما في الصحيحين- يعلم الناس الوضوء على أبواب المسجد قبل الصلوات، وكان يصلي بالناس الصلوات الخمس وغيرها، وكما في الموطأ كان يأتي المسجد آخر الليل فيجلس في مؤخرة المسجد يعلم الناس القرآن، ومن هذا حاله كيف يكون محتجبًا عن الناس وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي من أمر أمتي شيئًا فاحتجب عنهم احتجب الله عنه يوم القيامة)، فلا يمكن أن يحتجب عن ذوي الحاجات من المسلمين.

 

العلة الرابعة: أن في هذا الحديث: (اللهم شفعني فيه وشفعه في)، كيف تشفع في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

 

فقد فسرها العلماء بأن معنى: (اللهم شفعني فيه): اللهم تقبل دعائي له بالإجابة، (وشفعه في) معناها: تقبل دعاءه لي بالشفاء، وهذا يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له فيكون التوسل بدعائه لا بشخصه، فيخرج الحديث عن محل الخلاف أصلًا.

 

فهذه أربع علل، ومع هذا فقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية ولكنه أجاب عنه بإجابات لا تقوى على رده؛ لأنه لم يتكلم عنه من ناحية الصناعة الحديثية، فضعف رده عليه، وقال: عن الإمام أحمد في هذا روايتان إحداهما بجواز التوسل بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخرى بعدمه، والأخرى هي الموافقة لقول الجمهور كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية.

 

التوسل بدعاء النبي

وعمومًا فإن المسألة مسألة خلاف فقهي، ولكن الأحوط فيها والأقرب للحق أن لا يفعل الإنسان هذا وإن كان السلف قد اختلفوا فيه، وليجتنبه بالكلية.

 

وقد تركه الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانوا يتوسلون بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته كما ثبت في كثير من الأحاديث، كما في حديث أنس وغيره أن أعرابيًا أتاه وهو على المنبر فقال: (يا رسول الله! هلكت المواشي وتقطعت السبل فادع الله لنا، فرفع يديه ودعا، فظهرت سحابة صغيرة من قبل سلع، فأبرقت وأرعدت ثم أمطرت أسبوعًا، فجاء ذلك الرجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: يا رسول الله! هلكت البهائم وانقطعت السبل فادع الله أن يصرفه عنا، أو فاستصح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم على الجبال والآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)، فانجابت تلك السحابة حتى رأوا الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان أبو طالب حيًا لسره هذا)، ويقصد بذلك قول أبي طالب في مدحه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

تلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

 

والمقصود بـ(يستسقى الغمام بوجهه): بدعائه وتوجهه إلى الله في ذلك، لا بشخصه. وعندما جاء عام الرمادة في خلافة عمر رضي الله عنه، وصلى عمر بالناس الاستسقاء توسل بـالعباس بن عبد المطلب فتقدم فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لتسقينا، وإذ قبضته إليك فإنا نتوسل إليك بعم نبينا، يا عباس قم فادع، فتقدم العباس فدعا وقال: اللهم إنه لم تنزل مصيبة إلا بذنب ولم ترفع إلا بتوبة، ودعا دعاءه البليغ المشهور، فرفع الله عنهم ما كانوا فيه.

 

فهذا دليل من فعل هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، حيث لم يتوسل عمر برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته بشخصه؛ لأنه لو كان التوسل بشخصه فإن جاهه لم يتأثر بموته صلى الله عليه وسلم ولم ينقص جاهه عند الله بعد أن مات، ولم تنقص كرامته على الله، بل ما زالت كرامته كما كانت، لكن إنما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته، وأما بعد موته فإنما يتوسلون بدعاء الأحياء الذين يتضرعون إلى الله؛ لأن المقصود بالدعاء أصلًا الضراعة إلى الله وإبداء الذلة والمسكنة بين يديه، وهذا إنما يمكن من الأحياء.

 

هذا ما يتعلق بقوله:  [واجتنبوا الشرك الجلي والخفي ولو بما فيه اختلاف السلف] فما فيه اختلاف السلف يشمل ثلاثة أمور من أنواع الشرك: فما يتعلق بشرك العبادة، ذكرنا أن بعضهم كان يدبر بعض الأمور فيلهى عن الصلاة، وأن بعضهم قال: طلبنا الإيمان أن يكون لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، ونحو ذلك.

 

وما يتعلق بشرك الدعوة ذكرنا فيه قضية التوسل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم. وما يتعلق بالشرك في التشريع طبعًا ليس لهم فيه اختلاف، وما يتعلق بشرك الطاعة قد يحصل من بعضهم شيء من هذا، ولكنه يرفعه ما عرف عنه من إيمان وضراعة إلى الله سبحانه وتعالى وتقرب إليه، فلا يمكن الاستدلال بحال بعض أولئك.

 

التوسل المشروع

أما التوسل الجائز فإننا ينبغي أن نعلم أن التوسل إلى الله سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين:

توسل واجب.
وتوسل جائز.

 

فالتوسل الواجب هو التقرب إلى الله بالعبادة، دليل وجوبه قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ" [المائدة:35]، والوسيلة في اللغة تطلق على الحاجة، ومنه قول الشاعر:

إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي

 

ويطلق على المحبة والعلاقة، ومنه قول الشاعر: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل

 

الوسائل جمع وسيلة، والوسيلة في الآية المقصود بها ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من صالح الأعمال، فهذا التوسل الواجب الذي بينه الله سبحانه وتعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها) وقد قال قبله: (وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).

 

النوع الثاني: التوسل الجائز: وهو التوسل في الدعاء، فالدعاء لا يجب منه أصلًا إلا قوله: "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" [الفاتحة:6]، في الفاتحة، ولكنه من تمام العبودية لله، وهو مخ العبادة، أو هو العبادة أصلًا.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الدعاء #الاستغاثة #التوسل
اقرأ أيضا
الوسواس القهري في باب العقيدة | مرابط
مقالات

الوسواس القهري في باب العقيدة


الوساوس القهري هو: تصورات كفرية على شكل أفكار قهرية تقفز فجأة إلى عقلك فهي أفكار لا تحتمل تجعل صاحبها يظن أنه قد هلك.. وبين يديكم 12 قاعدة لابد أن يحفظها المبتلى بالوسواس القهري في العقيدة بقلم الدكتور هيثم طلعت

بقلم: هيثم طلعت
601
لا تدري أيهن أقرب إلى الله؟ | مرابط
أباطيل وشبهات المرأة

لا تدري أيهن أقرب إلى الله؟


انتشر بين المسلمين اعتقاد شاذ واضح الفساد يقتضي ألا تحكم على أي إنسان استنادا إلى ظاهره ولسان حالهم: لا تحكم على فلان من ظاهره ربما يكون داخله عكس ذلك! والمثال الأشهر على السوشيال ميديا هو تلك الصورة -التي لا تخلو من سماجة- لمجموعة من النساء مختلفات الزي فترى بينهن المحجبة ونصف المحجبة والمتبرجة والكاسية العارية ثم تأتي العبارة الأشهر لا تدري أيهن أقرب إلى الله أقرب.. وبين يديكم رد على هذه الشبهة

بقلم: محمود خطاب
2511
مختصر قصة التتار الجزء الثاني | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة التتار الجزء الثاني


سلسلة مقالات مختصرة تضع أمامنا قصة التتار وكيف بدأت هجماتهم على بلاد المسلمين وكيف تغيرت الأوضاع في بلادنا الإسلامية إثر هذه الهجمات فانهار المدن وانفتحت البوابات وظهرت شخصيات قيادية وقفت في وجه هذا الإعصار التتري الرهيب سنقف على الكثير من الفوائد والعبر والمواقف الفارقة وسنعرف تاريخ أمتنا وما مرت به من محن فالمستقبل لا يصنعه من يجهل الماضي

بقلم: موقع قصة الإسلام
1344
صفات الخوارج في السنة النبوية | مرابط
مقالات

صفات الخوارج في السنة النبوية


الخوارج من الكلمات التي كثر تردادها في الآونة الأخيرة وإطلاقها على بعض الجماعات والتنظيمات بحق وباطل فكان لا بد من وقفة نتبين بها صفات الخوارج كما وردت في السنة النبوية حتى ننزل كل قوم منزلتهم اللائقة بهم حسب قربهم من هذه الأوصاف وبعدهم عنها ولم يأت في السنة النبوية تحذير من فرقة بعينها من فرق هذه الأمة إلا الخوارج فقد ورد فيها أكثر من عشرين حديثا بسند صحيح أو حسن وما ذلك إلا لضررهم الجسيم على الأمة والتباس أمرهم على الناس واغترارهم بهم إذ ظاهرهم الصلاح والتقوى ولأن مذهبهم ليس قاصرا على الآ...

بقلم: الشيخ عمار الصياصنة
1095
دين المؤتفكات: النسوية الجزء الثاني | مرابط
النسوية الجندرية

دين المؤتفكات: النسوية الجزء الثاني


إن الموجة الجندرية المتصاعدة في هذه الأيام والتي تدعو إلى عدم اعتبار الهوية الجنسية البيولوجية الذكر والأنثى وإنما تدعو إلى هوية جندرية جديدة مصنوعة قد يرى فيها الرجل أنه امرأة والعكس قد تشعر فيها المرأة أنها تريد أن تصبح رجلا وتؤدي دوره الاجتماعي كاملا أي أن الجنس لا دلالة له ومن حق الرجل والمرأة اختيار الدور الاجتماعي المفضل وفقا للهوية الجندرية وهذه الموجة التي تدعو إلى تقنين الشذوذ واللوطية وإطلاق الحريات الجنسية لم تصعد إلا على أكتاف الحركة النسوية ومبادئها وأفكارها التي آلت إلى الفلسف...

بقلم: عمرو عبد العزيز
2108
فقه الخلاف في حياة الصحابة | مرابط
تفريغات

فقه الخلاف في حياة الصحابة


ثمة اختلافات حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها اختلافات قريبة وقد كانت عقول الصحابة كبيرة وإيمانهم عال فكانوا يعذرون بعضهم في الخلافات التي يسوغ فيها الاختلاف.. وبين يديكم نماذج مختلفة تبين لنا فقه الخلاف في حياة الصحابة الكرام

بقلم: أبو إسحق الحويني
227