بالمساواة يتحقق العدل

بالمساواة يتحقق العدل | مرابط

من الأوهام الواقعة عند بعض الناس توهم أن المساواة والعدل شيء واحد، فإذا جاءت الشريعة بالتفريق بين شيئين في حكم، وإلغاء التسوية بينهما، توهم أن في هذا مخالفة للعدل، ككثير من الأحكام المتعلقة بالمؤمنين والكفار، أو الرجال والنساء، أو غير ذلك. والحق أن العدل إنما يكون في إعطاء كل ذي حق حقه، سواء اقتضى ذلك المساواة أو لا. فليس العدل ملازما ضرورة للمساواة، وقد يجامعه وقد يفارقه.

 

العدل هو مركزية الإسلام

 

وأنت إذا تأملت في واقع أحكام الشريعة وجدتها تتشوف في جميع مواردها إلى تحقيق قيمة العدل دون المساواة، وهو أمر يمكن ملاحظته من خلال استقراء أحكام الشريعة، بل هو أمر لاحظه من كان خارجا عن نسيج هذه الأمة، كلويس ميس، حيث ذكر أن القانون الوضعي الغربي يهتم بالمساواة، بينما يهتم الإسلام بتحقيق العدالة. (1)

 

فالعدل هو ما يمثل القيمة المركزية في الإسلام، وهو محل الثناء المطلق فيه، وبه تمدّح الله تبارك وتعالى ووصف به نفسه، وألزم به خلقه، بل حرم على نفسه العليّة وعلى خلقه تجاوزه بالظلم، أما المساواة فليس بهذا المقام، فالعدل حق كله، ومحمود كله، أما المساواة فلا يصح أن يثنى عليها بإطلاق.

 

ميزان المساواة

 

وليس معنى هذا أن المساواة ليست محمودة أو معتبرة بإطلاق، ولكن المقصود أنها إنما تكون معتبرة وممدوحة إذا كانت محققة للعدل أما إن خالفته فلا.

 

يؤكد هذا أن من طبيعة الشريعة التسوية بين المتماثلات والمغايرة بين المختلفات، فـ "التسوية بين المتماثلين والتفضل بين المختلفين هو من العدل والحكم الحسن الذي يوصف به الرب سبحانه وتعالى" (2)

 

فالشريعة تُبنى على أصول العدل وفق ثنائية التسوية والمغايرة، فالتسوية فيما كان متماثلا هو العدل، أما ما كان فيه تغاير يقتضي تغايرا في الحكم فمقتضى العدل عدم التسوية بينهما، بل إحكام المغايرة، وعليه، فليس من الصحيح إطلاق القول بأن كل مساواة ليست عدلا أو العكس، بل منه ما يكون كذلك، ومنه ما ليس كذلك.

 

فكرة المساواة والطعن في شريعة الإسلام

 

ومن أكثر مظاهر التغبيش والتشويه هو الاتكاء على فكرة المساواة للطعن في كثير من تشريعات الإسلام، والحقيقة أن مثل هذا التشويه صادر عن عقلية سطحية متعجلة، إذ العقل الإنساني يميل بطبعه إلى جعل المساواة قيمة معيارية مطلقة لسهولة ذلك بخلاء إعمال الذهن وكدّه في دراسة التعقيدات التي توجب التفاوت في فرض الواجبات ومنح الحقوق.

 

متى تصح المساواة

 

وبناء على ما سبق، فحين لا يكون ثمّ موجب معتبر للتفريق، فالأصل هو المساواة؛ لأن التفاضل بلا سبب، أو بسبب غير معتبر = ظلم، ومجانف لقاعدة العدل، فتأكيدنا على أن المساواة ليست بالضرورة موافقة للعدل، لا يعني التزهيد فيها، إذ إلغاء وصف المساواة بين شيئين يجب أن يكون مبنيا على سبب معتبر مؤثر.

 

وهذا يعني أن قاعدة المساواة تكون واسعة جدًا، إذ هو الأصل، فلا يجوز التمييز بلا سبب معتبر، وحين نقول بلا سبب معتبر، فنحن نربط بالأسباب الشرعية المعتبرة، وهذا يضيّق مجال التفكير في الأسباب الممكنة للتفاضل، فالأسباب الشرعية المؤثرة معروفة ومحددة، وهو ما يؤكد الأصل السابق ويكشف عن تمدد مساحة المساواة.

 

فالاختلاف الذي يحصل بين أحكام الرجل والمرأة إنما يكون في الأحوال التي يتحقق فيها وجود اختلاف مؤثر بين الجنسين يفرض هذا التفاوت، وأما في حال غياب هذه الأوصاف فالأصل هو المساواة بينهما، ولهذا نجد أنهما سيان في تكاليف الشريعة، وفي الجزاءات المتعلقة بها "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يعملون" "إنما النساء شقائق الرجال" (3) ويأتي التفاوت بينهما في حال وجود سبب معتبر يجب مراعاته ليتحقق العدل بينهما "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى".

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها لعلال الفاسي 12. وأحال قوله إلى كتابه (المدخل إلى دراسة الشريعة الإسلامية) والمكتوب بالفرنسية.
  2. منهاج السنة النبوية لابن تيمية 5-107
  3. أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن القطان، والألباني

 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص147
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
الضباب العقلي | مرابط
ثقافة

الضباب العقلي


إن قضاء الكثير من الوقت أمام شاشة التلفزيون يصيب العقل بنوع من الخمول فالشخص الذي يكثر من مشاهدة التلفزيون تجده ثقيلا بطيء الحركة ويميل بشدة إلى أحلام اليقظة ويتعب من إعماله لعقله وسرعان ما يفقد التركيز

بقلم: محمد علي فرح
208
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج2 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج2


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
247
إن الله خلق آدم على صورته | مرابط
اقتباسات وقطوف

إن الله خلق آدم على صورته


هذا الحديث النبوي الشريف إن الله خلق آدم على صورته أشكل على كثير من الناس وتأوله البعض على غير مراده فيما يخص صورة آدم عليه السلام وبين يديكم مقتطف من مختصر تاريخ ابن عساكر جاء فيه تفسير هذا الحديث والمراد بلفظ على صورته

بقلم: ابن عساكر
990
تحمل مسؤولية التكليف | مرابط
مقالات

تحمل مسؤولية التكليف


عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية على بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته.

بقلم: أحمد يوسف السيد
54
من براهين النبوة | مرابط
تعزيز اليقين

من براهين النبوة


وكان من حكمة الله سبحانه ورحمته أن أيد أنبياءه ورسله بالآيات والبراهين وعزز دعوتهم بالحجج والدلائل التي من شأنها أن تزيح عن الفطر حجب الشبهات وتنفي عن القلوب خبث الشهوات وتستنقذ العقول من الظلمات بإذن الله وذلك أولا بما جعل في مخلوقاته من الدلالة على خالقها وشهادتها بربوبيته وألوهيته وكماله وحكمته وفي ذلك برهان الأنبياء على ما يدعون إليه من التوحيد والإيمان بالبعث ثم بما خص به أنبياءه من الآيات القولية والحسية الدالة على صدق نبوتهم

بقلم: سعود العريفي
212
أصول الأصول: مراجعة لكتاب غمرات الأصول | مرابط
مناقشات

أصول الأصول: مراجعة لكتاب غمرات الأصول


إذا كانت العروض قواعد تنظم الشعر وعلم أصول الفقه قواعد تنظم النظر في الفقه الشرعي فإن هذا الكتاب الصادر حديثا في معرض الكتاب 1435ه يطمح أن يكون مساهمة في بناء القواعد التي تنظم النظر في علم أصول الفقه ذاته فهو بمثابة بحث في علم أصول أصول الفقه ولذا وبغض النظر عن الترجيحات الداخلية للمؤلف التي قد يخالف بعضها القارئ إلا أن فكرة الكتاب والشواهد العزيزة التي وقع عليها المؤلف واستخرجها من بطون الموسوعات الأصولية ووظفها ببراعة تجعله كتابا نسيج وحده

بقلم: إبراهيم السكران
1844