موقف الصحابة من الصحابي معاوية بن أبي سفيان ج2

موقف الصحابة من الصحابي معاوية بن أبي سفيان ج2 | مرابط

الكاتب: د سلطان العميري

3664 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

ثم إنه قد روى عنه عدد من الصحابة الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد جمع أبو نعيم الأصفهاني عددًا منهم فقال عن معاوية: "حدث عنه من الصحابة: عبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وجرير والنعمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ووائل بن حجر وعبد الله بن الزبير"(1)، وقد أحصى بعض الباحثين ثلاثًا وعشرين صحابيًا رووا عن معاوية الحديث، وبعض هذه الأسانيد جاءت في البخاري ومسلم(2)، وقد نص عدد من العلماء من أهل الاستقراء على أنه ليس هناك أحد من الصحابة والتابعين كان يتهم معاوية بالكذب وفي هذا يقول ابن تيمية عن معاوية وعمرو ابن العاص:

 

"ولم يتهمهم أحد من أوليائهم -لامحاربوهم، ولاغير محاربيهم- بالكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله، مأمونون عليه في الرواية عنه"(3).


فلو كان معاوية كافرًا أو فاسقًا أو منافقًا أو مقدوحًا في دينه وأمانته فكيف استساغ أولئك النفر من الصحابة الرواية عنه؟! وكيف صدقوه في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
 
ويدل حال الصحابة على أنهم كانوا لا يسكتون عن أي مخالفة تقع في الدين سواء كانت من معاوية أو من غيره، وقد اختلف أبو ذر -رضي الله عنه- مع معاوية في اكتناز المال، وشدد أبو ذر على معاوية حتى شكاه إلى عثمان، فهل من المعقول أن يكون معاوية متاجرًا في بيع الأصنام في زمن عثمان -كما جاء في القصة التي يعتمد عليها الطاعنون- أو كافرًا أو منافقًا أو شاربًا للخمر أو مستهترًَا بدين الله ثم يترك أبو ذر وغيره من الصحابة كل ذلك ويقف معه في قضية أقل منها وهي اكتناز المال؟! ألا يدل اختلافهم ذلك على أن أبا ذر وغيره من الصحابة لم يجدوا عند معاوية ما يوجب له الفسق والكفر وإلا لبادروا على إعلان النكير عليه؟!
 
ولما اجتمع معاوية ابن أبي سفيان بكبار الصحابة في آخر أيام خلافته، وهم ابن عمر وابن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر والحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، ليأخذ منهم الإقرار بولاية العهد لابنه يزيد، أنكروا ذلك عليه ولم يؤيدوه على فعله ورأيه(4)، وهذا يدل على أن الصحابة لو كانوا يرون عند معاوية ما يخالف الدين لما سكتوا عنه ولأظهروا المخالفة له، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث.

 

كيف تعامل الصحابة مع أخطاء معاوية ؟


والتقريرات والدلائل العقلية السابقة لا تعني أن الصحابة كانوا يرون معاوية مبرأ من الخطأ، ولكنَّ أخطاءه عندهم لا تصل إلى الكفر والنفاق والفسق والقدح في ديانته.
 
فليس هناك شك في العقل أن عليًا ومن معه من الصحابة كانوا يرون أن معاوية مخطئًا في قتاله لعلي، وكثير من الصحابة كان يرى هذا الرأي خاصة بعد قتل عمار بن ياسر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية! عمار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النار»(5).
 
ولكنهم لم يبالغوا في الحكم على معاوية ولم يصدروا أحكاما جائرة، فلم يحكموا عليه بالكفر ولا بالفسق ولا بالنفاق ولا بالقدح في الدين، وإنما عدوه مجتهدًا متأولًا.
 
ومن أمثلة مواقف الصحابة من أخطاء معاوية: ما ذكره المسور بن مخرمة رضي الله عنه -وهو من صغار الصحابة- أن معاوية قال له: "يا مِسْوَر! ما فعل طعنُك على الأئمة؟ قال: دَعْنا من هذا وأحسن. قال: لا والله! لَتُكلِّمَنِّي بذات نَفسكَ بالذي تعيبُ عَلَيَّ! قال مسور: فلم أترك شيئا أعيبُه عليه إلا بيَّنت له. فقال: لا أبرأ من الذنبِ! فهل تَعُدُّ لنا يا مِسْوَر ما نَلِي من الإصلاح في أمر العامة -فإن الحسنة بعشر أمثالها- أم تعُدُّ الذنوبَ وتَترُكُ الإحسان؟! قال: ما نَذكرُ إلا الذنوب! قال معاوية: فإنَّا نعترفُ لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تُغفر؟ قال: نعم! قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحقَّ مني؟! فوالله ما ألي من الإصلاح أكثرَ مما تَلي، ولكن والله لا أُخيَّر بين أمرين: بين الله وبين غيره؛ إلا اخترتُ الله على ما سواه، وإني لَعَلَى دينٍ يُقبَلُ فيه العمل؛ ويُجزى فيه بالحسنات؛ ويُجزى فيه بالذنوب؛ إلا أن يعفوَ اللهُ عنها.
 
قال: فخَصَمَني! قال عروة: فلم أسمَع المِسْوَر ذَكَرَ معاويةَ إلا صلَّى عليه"(6). فهذا الأثر يدل على أن الأخطاء التي ذكرها المسور في معاوية ليست أخطاء كبيرة توجب الكفر أو النفاق أو الفسق، ولو كانت كذلك لما أقره المسور على أنها مغفورة بالحسنات والأعمال الصالحة
 
وكذلك عائشة -رضي الله عنها- أنكرت على معاوية قتله حجر بن عدي وأصحابه من أهل العراق، ولكن معاوية بين لها حجته وتأوله، وأنه خشي أن يحدث فتنة في الناس بإعلانه القوى على إمامته، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»(7)، وقال لها: «وأما حجر وأصحابه فإنني تخوفت أمرا وخشيت فتنة تكون تهراق فيها الدماء وتستحل فيها المحارم وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل بي ما يشاء، قالت: تركتك والله تركتك والله تركتك والله»(8).
 
وهذا الموقف الإعذاري الذي اتخذته عائشة من معاوية هو الموقف نفسه الذي اتخذه أبو بكر وعمر من خالد حين قتل مالك بن نويرة مع أنه أعلن إسلامه، فمع أنهم حكموا بخطئه وأنكروا فعله إلا أنهم لم يفسقوه ولم يكفروه ولم يقدحوا في دينه، ومستندهم في ذلك موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- من أسامة وخالد بن الوليد حينا قتلا من أعلن إسلامه.
 
مع أنه لا بد من التنبيه على أن قتل معاوية لحجر بن عدي -رضي الله عنه- اشتمل على ملابسات كثيرة جدًا، والقصة تحتاج إلى قدر كبير من التحقيق، وليس من قصد البحث تحقيق الكلام فيها، وإنما قصده تحقيق مواقف الصحابة مما وقع فيه معاوية من إزهاق الدم المسلم.


موقف تلاميذ الصحابة من معاوية


ثم إذا انتقلنا إلى تلاميذ الصحابة وتلاميذ تلاميذهم من التابعين وأتباعهم، وهم الأعلم بمواقف الصحابة والأكثر فقها لآرائهم وأصول مذهبهم والأعمق في تصور عقيدتهم، وهم الأشد حرصا على اتباع الصحابة والتمسك بما كانوا عليه من دين، وهم كذلك أعداد كبيرة جدًا، وقد عاش كثير منهم بعد انتهاء دولة بني أمية.
 
فإنا لو رجعنا إلى مواقفهم من معاوية نجدهم أطبقوا على الثناء عليه والإعلان عن حبه وتقديره واعتقاد عدالته وحسن سيرته، فمن المستبعد عقلاً أن تتوارد هذه الأعداد الغفيرة على عقيدة خلاف ما تلقوه من الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن المستبعد عقلاً أن تتوارد هذه الأعداد الغفيرة على كتمان الحق الذي تلقوه من الصحابة؟!


تعليق أخير:


فهذه الشواهد التاريخية والدلالات العقلية تُكوِّن لدينا ترسانة علمية صلبة في التعامل مع معاوية -رضي الله عنه-، وتكشف لنا عن حقيقة نظرة الصحابة إليه وتعاملهم معه، وهي لا شك ستعين القارئ في تاريخ معاوية على فهم كثير من النصوص الشرعية التي جاءت في حقه، وتعينه على توسيع أفقه في التعامل مع مشاهد سيرته، ولا يجوز في موازين المنهجية العلمية القفز عليها أو تجازوها ما لم نقدم عنها جوابًا مقنعًا.
 
وتعاملات الصحابة تلك تمثل عقبة كبيرة أمام القادحين في معاوية لإقناع المسلمين برأيهم؛ إذ كيف يقتنع المسلمون بأن معاوية كان كافرًا أو منافقًا أو فاسقًا أو فاسد الديانة وهم يعلمون مواقف الصحابة معه؟!
 
ولا بد من التنبيه في ختام هذه الورقة التقريرية المختصرة أنه لم يكن القصد منها استيعاب كل ما يتعلق بمعاوية -رضي الله عنه- من النصوص الشرعية وغيرها، وإنما القصد دراسة وتحليل مواقف الصحابة فقط.
 
ولا بد من التنبيه على أن الغالين في ذم معاوية قد ذكروا أخبارًا وآثارًا عديدة تدل في ظاهرها على أن الصحابة كانوا يقدحون في معاوية ويذمونه، ولكن هذه الأخبار كلها ليست صحيحة ولا ثابتة، وقد قام عدد من الباحثين المعاصرين برصد تلك التهم والأخبار وقاموا بدراستها حديثيًا وتاريخيًا وأثبتوا بطلانها وخطأها، ومن أجمع البحوث التي قامت بذلك كتاب (سل السنان في الذبِّ عن معاوية ابن أبي سفيان)، فقد جمع فيه كل ما أثير ضد معاوية وأجاب عنها جوابًا مفصَّلاً. ثم إن ما كان منها صحيحًا فإنه لا يدل على مقدار الحكم الجائر الذي وصفوا به معاوية!!

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. معرفة الصحابة، أبو نعيم [5/2497].

  2. انظر: سل السنان في الذب عن معاوية ابن أبي سفيان [15].

  3. مجموع الفتاوى، ابن تيمية [35/66].

  4. انظر خبر ذلك في: تاريخ خليفة خياط [213-214].

  5. أخرجه: البخاري [2657].

  6. أخرجه: معمر في الجامع -المطبوع مع مصنف عبدالرزاق [20717]، وابن سعد في الطبقات [1/123]، وقال ابن عبدالبر عن هذا الأثر: "وهذا الخبر من أصح ما يروى من حديث ابن شهاب" الاستيعاب في معرفة الأصحاب [3/1422]، وصححه عدد من العلماء.

  7. أخرجه: مسلم [4904].

  8. أخرجه: ابن عساكر في تاريخه [12/230]

 

المصدر:

  1. http://iswy.co/e121dd
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
حين يتشاغل الناس | مرابط
اقتباسات وقطوف

حين يتشاغل الناس


عن أنس بن سيرين قال: بلغنا بالكوفة أن مسروقا كان يفر من الطاعون فأنكر ذلك محمد وقال: انطلق بنا إلى امرأته فلنسألها فدخلنا عليها فسألناها عن ذلك فقالت: كلا والله ما كان يفر ولكنه كان يقول: أيام تشاغل فأحب أن أخلو للعبادة فكان يتنحى فيخلو للعبادة قالت: فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه قالت: وكان يصلي حتى تورم قدماه

بقلم: إبراهيم السكران
307
بين المتقاعسين والسباقين | مرابط
تفريغات

بين المتقاعسين والسباقين


وحتى تنجلي صورة الذين يعيشون خارج العصر على الوجه المطلوب فإني سأعرض لمقارنة بين أشخاص يعيشون عصرهم بوعي وكفاءة وسميتهم: السباقين وبين الذين يعيشون خارج العصر وسميتهم: بالمتقاعسين وبعض هذه المعاني قد يتكرر في موضع آخر لكني سأذكرها في سياق هذه المقارنة حتى تترسخ في العقول والنفوس

بقلم: د عبد الكريم بكار
312
الانشغال عما هو أهم | مرابط
فكر مقالات

الانشغال عما هو أهم


من المقولات الدارجة التي توجه لمن يأمر ببعض الأحكام الشرعية أو ينهى عنها أن ما تفعله هو انشغال عما هو أهم وهو إغراق في الجزئيات على حساب الكليات ودوران في الهوامش على حساب المركز ونحو ذلك هذه المقولة تنكر العناية أو الاهتمام بموضوعات معينة كالأمر بالحجاب والنهي عن الاختلاط المحرم والحث على الصلوات في المساجد والمحافظة على السنن والإنكار على بعض المحرمات بأن هذا كله انشغال بالجزئيات مع ضرورة العناية بالكليات والأصول الكبرى وفي هذا المقال رد على الأمر

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان
2224
مرحلة ما قبل الزواج: تحدي الشهوات | مرابط
مقالات

مرحلة ما قبل الزواج: تحدي الشهوات


نحن نعيش في زمن ربما لم يمر على البشرية منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى يومنا هذا زمن مثله من ناحية طبيعة انتشار الشهوات وبواعثها والتفنن في الدعوة إليها بشتى صور الدعاية والإعلامن حتى صارت الإباحيات صنعة متكاملة لها أهلها ومنتجوها وممثلوها وشركاتها ومصانعها ومخرجوها ومروجوها وأصبحت تجارة ضخمة تدخل أموالا طائلة على عرابيها.

بقلم: أحمد يوسف السيد
452
الغلو نبتة سلفية | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

الغلو نبتة سلفية


يقولون: أن الغلو هو نبتة سلفية أو ظاهرة سلفية أو منتج سلفي أو غيرها من عبارات تصاغ للتعبير عن فكرة واحدة وهي: أن السلفية سبب لظهور الغلو وهي التي تتحمل تبعاته وآثاره وذلك أن الغلاة ينتسبون إلى السلفية ويستدلون بأصول السلفية ويستندون إلى رموزها ومقولاتها وهذا يعني أن المشكلة في السلفية نفسها وبين يديكم مقال هام للرد على هذه الفرية

بقلم: فهد بن صالح العجلان وعبد الله بن صالح العجيري
686
زهد أبي هريرة رضي الله عنه | مرابط
مقالات

زهد أبي هريرة رضي الله عنه


حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا كثير حدثنا جعفر حدثنا يزيد بن الأصم قال: سمعت أبا هريرة يقول: المكثرون في النار إلا من قال هكذا وهكذا وأشار بكفيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ثم قال: وقليل ما هم قال يزيد: إن لم أكن سمعته من أبي هريرة وأشار بإصبعيه إلى أذنيه وإلا فصمتا

بقلم: أحمد بن حنبل
966