بين الإمام أحمد والكرابيسي

بين الإمام أحمد والكرابيسي | مرابط

الكاتب: عبد اللطيف بن عبد الله التويجري

2104 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الحمد لله، أمَّا بعد: فمن باب المُباحثة مع إخوتي الكرام حول قصة الإمام أحمد مع حسين الكرابيسي المشهورة، وشدة موقف الإمام أحمد منه كما جاء ذلك عنه بروايات كثيرة، وهنا في هذه الخاطرة القصيرة محاولة لتسليط المجهر حول هذه القصة وتداعياتها، والبحث عن ملابساتها وواقعها الزمني قبل الحكم عليها؛ ومثلُ هذه القضية تحتاج من الناقد التريثَ والتثبتَ قبل استصدار الحكم بَلْهَ التصورَ لحقيقة ما جرى، وألا يَجري فيه بنظره العقلي بعيدًا عن تقويم أهل العلم العارفين ممن شهد القضية واطلعَ على ملابساتها.
 

غضب الإمام أحمد على الكرابيسي

نعودُ لموضوعنا وكلام الإمام أحمد في أبي علي الكرابيسي، وهل صحيح أن الإمام أحمد لم يغضبْ على الكرابيسي ويشتدَّ عليه إلا بسبب قوله: "لفظي في القرآن مخلوق" فقط مع شناعتها وعظمها كما بيَّنه ابن تيمية في مواضع في المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى؟
 
من خلال نظرة سريعة في أطراف القضية يظهر أن غضب الإمام أحمد على حسين الكرابيسي لم يكن بسبب ذلك فقط كما أشار إليه الإمام ابن رجب في شرح علل الترمذي [806/2 ط: دار السلام المصرية] حيث ذكر جوانب أخرى من تصرفات الكرابيسي تبين حقيقة موقف الإمام أحمد منه.
 
منها: أن الكرابيسي ألف كتابًا سماه: "المدلسين" فلما عُرض على الإمام أحمد "ذمَّه ذمًّا شديدًا" وقال كلامًا مصلحيًا بديعًا جاء فيه: (هذا جمع للمخالفين ما لم يحسنوا أن يحتجوا به، حذِّروا عن هذا، ونهى عنه). قال ابن رجب مسببًا ذلك: (وقد تسلَّط بهذا الكتاب طوائفُ من أهل البِدع من المعتزلة وغيرهم في الطَّعن على أهل الحديث..). [شرح علل الترمذي، 807/2].
 
ومن اللَّفتات المهمة في هذا الموضوع: أن هذا الذَّم من الإمام أحمد للكرابيسي لم يكن من الإمام أحمد وحده فقط بل ذمَّه كذلك أبو ثور وغيره من العلماء، حتى قال الكرابيسي نفسه: (وقد سألني أبو ثور وابن عقيل، وحبيش أن أضرب على هذا الكتاب فأبيتُ عليهم. وقلت: بل أزيدُ فيه – ولجَّ في ذلك وأبى أن يرجعَ عنه)! كما نقله عنه الإمام ابن رجب في شرح العلل [807/2].
 
ونقل عن الإمام الكبير يحيى بن معين شدته عليه أيضًا كما نقله جعفر بن أبي عثمان الطيالسي قال: (سمعت يحيى بن معين، وقيل له: إن حسينًا الكرابيسي يتكلم في أحمد بن حنبل؛ فقال: ومن حسين الكرابيسي لعنه الله؟! إنما يتكلم في الناس أشكالهم؛ ينطل حسين، ويرتفع أحمد. قال جعفر: ينطل: يعني ينزل).
 
وقيل ليحيى بن معين: (إن حسينًا الكرابيسي يتكلم فِي أحمد بن حنبل قال: ما أحوجه أن يُضرب!). [تاريخ بغداد، 64/8 ط: دار الكتب العلمية] ولما تكلم ابن حبان في الثقات [189/8] عن أبي علي الكرابيسي قال: (ولكن أفسدهُ قلَّة عقله فسبحان من رفع من شاء بالعلم اليسير حتى صار علمًا يقتدى به ووضع من شاءَ معَ العلم الكثير حتى صار لا يُلتَفت إليه).
 

ليس الإمام أحمد وحده

فأنت ترى أن الشِّدة على حسين الكرابيسي ليست من الإمام أحمد فقط؛ بل إن أئمة الحفاظ والعلل قد تكلموا فيها واشتدت عباراتهم عليه بسبب تصرفاته وكلامه في الإمام أحمد حتى قدحت في روايته كما نبه عليه الذهبي بقوله: (مقت الناس حسينًا لكونه تكلم في أحمد) [ميزان الاعتدال، 544/1 ط: دار المعرفة].
 
وانظر كيف كان كلامه في الإمام أحمد سببًا لمقت (الناس) لتُعلَم منزلة أحمد، وأن القضية ليست مجرد وجهة نظر شخصية، والناس هنا ليسوا دهماء الناس بل هم من يمثل الوسط العلمي، ولذلك لا تجد من استنكر موقف الإمام أحمد من الكرابيسي وشدته عليه من أئمة ذاك الزمان.
 
ولم يكتفِ النقاد الكبار بعدم لوم الإمام أحمد على شدته هـذه؛ بل وافقوه حتى جاءت عباراتهم شديدة على الكرابيسي نفسه كما في كلام يحيى بن معين السابق وغيره من الأئمة، ومن ثم لا وجه لمن أنكر على الإمام أحمد شدته عليه من النقاد المعاصرين.
 

فتنة اللفظية

الأمر الآخر في تداعيات هذه المسألة: أن فتنة "اللفظية" انتشرت وأُظهرت على يد الكرابيسي وذلك سنة أربع وثلاثين ومئتين، فأراد الإمام أحمد قمعها في بداية ظهورها، جاء في سير أعلام النبلاء [290/11] لمؤرخ الإسلام الإمام الذهبي:

(أول من أظهر مسألة اللفظ حسين بن علي الكرابيسي، وكان من أوعية العلم، ووضع كتابًا في المدلسين، يحط على جماعة: فيه أن ابن الزبير من الخوارج. وفيه أحاديث يقوي به الرافضة، فأعلم أحمد، فحذر منه، فبلغ الكرابيسي، فتنمر، وقال: لأقولن مقالة حتى يقول ابن حنبل بخلافها، فيكفر. فقال: لفظي بالقرآن مخلوق."

تأمل قوله هنا: (لأقولن مقالة حتى يقول ابن حنبل بخلافها، فيكفر)! فهذا يدل على أن القصة فيها أخذ ورد وفيها فتنة واستثارة لأهل الحديث وأحمد؛ مما يحتِّم على الناقد ضرورة معرفة سياقاتها وأطرافها حتى تكتمل الصورة ويُعرف تداعياتها وأسبابها؛ والإمام الذهبي على جلالة قدرة وإعماله النقدي المشهور عَقِب الحكايات والقصص لم يعترض على كلام الإمام أحمد بل نظَّر لقوله وأيده قائلًا: (فلقد أحسن الإمام أبو عبد الله حيث منع من الخوض في المسألة من الطرفين، إذ كل واحد من إطلاق الخلقية وعدمها على اللفظ موهم، ولم يأت به كتاب ولا سنة، بل الذي لا نرتاب فيه أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق). [سير أعلام النبلاء، 290/11].
 
هذا الكلام الذهبي من الذهبي يعطي درسًا فيما يجب على الناقد، فأنت تعلم أن الإمام الذهبي لا يعتبر الإمام أحمد معصومًا لكنه أحسن في توجيه موقفه، وحَمَلَ كلامه على أحسن المحامل، وهذا هو المؤمل من الناقد الخبير.
 
ومراعاة كلام المتخصص جادة مسلوكة عند أهل العلم؛ فكيف إذا كان هذا المتخصص قد تَفرد بالإمامة فيه، وحين تَطرق العالم الرباني ابن جرير الطبري لفتنة "اللفظية" أعاد فيها الأمر للإمام أحمد، وقال: (ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله – يعني الإمام أحمد -؛ إذ لم يكن لنا إمامٌ نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع، وهو الإمام المتبع). [مجموع فتاوى ابن تيمية، 423/12].
 
كيف إذا عُلم أن الجهم قال في البداية أن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة كما قاله الإمام أحمد في الإبانة الكبرى لابن بطة [338/1] ولذلك جعل اللفظية شرًا من الجهمية في رواية.
 

خاتمة

وفي خاتمة هذه الخاطرة أردت أن أقدم أنموذجًا يُوضح أن قضايا الأعيان التي تُنقل عن الأئمة الكبار المشهود لهم بالمعرفة والدراية= ينبغي أن تُنظر في كامل سياقاتها ومناطاتها، لتكتمل النظرة الموضوعية تجاهها؛ خاصةً وأن القول قولهم وقد بلغوا فيه شأوًا عاليًا، ومن التجوز في المباحثة توهم أن الإمام أحمد لا يعرف عن الكرابيسي إلا ما نقل له المروذي فقط مع أن الروايات تعددت وتنوعت عن الإمام أحمد في مواقفه منه! أمَّا وضع المجهر وتضخيمه لقضية أو قضيتين وبناء التصور والحكم عليها وترك ما سوى ذلك مما يرشِّد نظرة الناقد فهذا قصورٌ لا يساعد على الإنصاف في قراءة الموقف، والله أعلم.

 


 

المصدر:

http://www.saaid.net/Doat/twijri/3.htm

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أحمد-بن-حنبل
اقرأ أيضا
ضرورة الحكمة | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضرورة الحكمة


كلام بديع لابن قيم الجوزية يتحدث فيه عن قيمة الحكمة وضرورة وجودها في كل شيء تقريبا وكيف يتحول الأمر من قمة الخير إلى قاع الشر إذا حرم الشيء وجود الحكمة فيه حتى لو كان ظاهره خيرا مثل العلم والقدرة والقوة فكل هذا يفصله عن الشر وجود الحكمة

بقلم: ابن القيم
2004
تفاسير المتأخرين | مرابط
فكر تفريغات

تفاسير المتأخرين


تفاسير المتأخرين هي تفاسير مهمة جدا بالنسبة إلينا لماذا؟ تفاسير المتأخرين تعاني مما نعانيه نحن من الواقع. فمن بعد ألف هجريا وألف ومائتين هجريا تجد أن التفاسير بدأت تثور معاني جديدة فمثلا: محمد عبده قد أثر تأثيرا كبيرا في رشيد رضا وفي المراغي وفي أبو زهرة مدرسة كاملة تأثرت به

بقلم: أحمد عبد المنعم
388
الدليل العقلي عند السلف ج1 | مرابط
أبحاث

الدليل العقلي عند السلف ج1


والحق أنهم -أي السلف- أيقنوا بغناء الدلائل الشرعية بالبراهين العقلية الفطرية وكفايتها عن الابتداع في دين الله وهذا جوهر الخلاف بينهم وبين مخالفيهم فإن المخالفين لما اعتقدوا أن الدلائل النقلية تعرى عن البراهين العقلية قادهم ذلك إلى ابتداع دلائل على مسائل الدين بل جمعوا بين الابتداع في الدلائل والإحداث في المسائل. ولو أنهم علموا أن دلائل القرآن العقلية لها صفة الثبات والاستمرارية إلى يوم الدين بحيث لا يفتقر في الاستدلال على أصول الدين إلى غيرها لما وقعوا في هذه المشاقة.

بقلم: عيسى بن محسن النعمي
365
عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الثاني | مرابط
تاريخ مقالات

عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الثاني


معركة عين جالوت كانت فاصلة جدا ليس في تاريخ الإسلام فقط بل في تاريخ العالم الإنساني بأكمله فشر التتار لم يقتصر على العالم الإسلامي وإنما وصل اجتياحهم إلى قلب أوروبا وأبادوا بلادا ومدنا كثيرة وأهلكوا الحرث والنسل ودمروا كل شيء وقف في طريقهم وكانت هذه الموقعة فاصلة لأن لها ما بعدها فإما أن يستكمل التتار احتلالهم للعالم بأسره عبر اجتياح مصر ومنها إلى إفريقيا بعد أن وصلوا إلى مناطق متقدمة في أوروبا وإما أن يتصدى لهم المسلمون وينتهي شرهم وهذا مقال هام يحدثنا عن المعركة وكل تفاصيلها بقلم راغب الس...

بقلم: راغب السرجاني
2278
التصور الإسلامي للنسوية: الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات النسوية

التصور الإسلامي للنسوية: الجزء الأول


تستعرض المؤلفة في هذا المقال بعض القواعد والأسس والكليات والأصول الدينية التي فيها رد ضمني على منطلقات التيار النسوي ومرتكزاته وأعمدته الفلسفية والفكرية سنرى هنا كيف تعامل الإسلام مع المرأة وما هي صورة المرأة في الإسلام هل فعلا هناك ظلم واقع عليها أم لا وهل هناك دونية أو نظرة استعلاء من قبل الرجل للمرأة في الإسلام أم لا وغير ذلك من التساؤلات والمرتكزات النسوية

بقلم: د وضحى بنت مسفر القحطاني
2348
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الأول ج1 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الأول ج1


وما يذكره العلماء من النصوص في الأسانيد الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة وأماراتها إنما هو شيء يسير من أشراط الساعة وذلك أن الإنسان إذا توفرت لديه جميع الشروط التي بتحققها يتحقق المشروط يعلم حينئذ أن الإنسان قد توفر فيه العلم اليقين في معرفة وقوع قيام الساعة

بقلم: عبد العزيز الطريفي
536