بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة

بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة | مرابط

الكاتب: عبد الوهاب المسيري

327 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

في الغرب يتحدثون عن "حقوق المرأة" في الوقت الذي تتصاعد فيه معدلات الإباحية والعري، ومحاصرة المرأة بمعايير تؤكد أهمية جسدها وتختزلها تماما فيه. في مقال متميز للأستاذ مصطفى المرابط بعنوان "صناعة الأنوثة" جاء فيه أن الصورة النمطية التي يتم تثبيتها تختزل المرأة في جسدها، لم يعد يُكتفى بتشيؤ هذا الجسد (أي تحويلها إلى شيء) إنما جعله في خدمة الشيء، حيث يقدم طعما للترويج لسلعة أو منتوج. فالجسد يقدم تارة على أنه مادة للاستهلاك وتارة أخرى وسيلة للاستهلاك.

وتبلغ عملية التنميط ذروتها عندما يفرض نموذج للجسد يستحيل تحقيقه..فعمليات التنحيف التي يخضع لها هذا الجسد بالرياضة والحمية، إضافة إلى عمليات التجميل المكثفة قد أوصلت بعض العارضات إلى حافة الموت، مثلما حصل مع العارضة البرازيلية أنا نيكول رستون (18 سنة) التي توفيت عشية مهرجان عرض الأزياء بباريس، بسبب نظام حمية صارم (وزنها 40 كلغ وطولها 1.74م) مما حمل الجهات المسؤولة في إسبانيا على منع مشاركة عارضات يقل وزنهن عن نحو 50 كلغ، وقد سبق لدراسة نشرتها الجمعية الطبية البريطانية أن بينت أن نسبة الدهون لدى العارضات والممثلات تتراوح بين 10% و15% بينما المعدل عند النساء في صحة جيدة يتراوح بين 22 و26%

ثم يضيف الأستاذ المرابط قائلًا: إن صناعة الأنوثة (تروج) لجسد متخيل لا صلة له بالواقع، فيمارس على المرأة سلطة قاهرة لا حيلة لها في ردها أو دفعها. إنه شكل من أشكال الاستبداد، الذي أسميه بالاستبداد الناعم مقابل الاستبداد الكثيف أو الصلب. فإذا كان الاستبداد الكثيف عملية تتم من الخارج من خلال الإنسان وضبطه ومراقبته وإرغامه وحبس أنفاسه، فإن الاستبداد الناعم عملية تتم من الداخل من خلال الامتثال الطوعي لمعايير ونماذج تم غرسها وتثبيتها بواسطة الثقافة الرمزية.

ثم يذكر الأستاذ المرابط بعض الأرقام التي تعكس حجم الأغلال التي ترفل فيها المرأة، وتكشف أيضًا عن أساليب الاستبداد الناعم الذي يأسر المرأة ويستعبدها، فيشير إلى تضاعف الاستثمارات في صناعة العطور النسائية وأدوات التجميل في فرنسة ثم يضيف قائلًا: إن تنوع وانتشار وسائل التجميل يعكس حجم الهوس الذي يسكن المرأة: فمن اللباس إلى الأصباغ مرورا بجراحات التجميل وتفنيات الحمية، كلها وسائل تتسارع لمقاومة آثار الزمن على الجسد وإخفائها وتغيير عيوب الخلقة، ليبدو هذا الجسد أكثر جاذبية وإغراض.

فالمرأة حسب ليبوفتسكي في ظل هذه الثقافة تقدم للنظر، إنها ديكور لتزيين فضاءات الرجل، فالجسد أصبح مادة أولية كالعجيبة التي تستعمل لتشكل ما يرغب فيه الإنسان من أحجام وأشكال، أو كاللوحة التي يستعملها الفنان للاشتغال عليها بصباغته لإنتاج رسومات وألوان تسر الناظرين. إن الجسد/النموذج لا يقدم كما هو، بل يتم تغليفه بشكل جذاب، كما تغلف الهدايا، ثم إنه يتم توريته وراء حجاب المساحيق وتحويرات الجراحة التجميلية.

إن أكبر عدو لهذا الجسد/النموذج هو الزمن، لأن آثاره تؤذن بانتهاء صلاحيته، لذلك تعمل صناعة الأنوثة ما في وسعها لابتكار أسلحة مقاومة ضد فعل الزمن، فبالإضافة إلى المساحيق والمواد التجميلية المتنوعة التي تعمل على التمويه من خلال عمليتي الإخفاء والإظهار، هناك العمليات التجميلية التي تخضع هذا الجسد للشد والجذب والقطع والزرع.

ويورد الأستاذ المرابط في دراسته بعض الإحصائيات عن عمليات التجميل فيقول: في عامي 1981 و1989 بلغت العمليات الجراحية التجميلية نحو 80% وهو ما يقدره بعضهم بـ: 1.5 مليون عملية في السنة، ومنذ 1960 تضاعف عدد المختصين 5 مرات، وفي فرنسة تضاعف مرتين خلال عشر سنوات، ففي أوربة يبلغ إجمالي سوق الجراحة التجميلية نحو 1.5 مليار يورو خلال سنة 2006، ومن المنتظر أن ينمو بنسبة 14% سنويا حتى 2010. أما في الولايات المتحدة فيقدر عدد العمليات خلال سنة 2002 بـ 1.6 مليون عملية، وف بريطانية سًجل نمو في هذا الميدان منذ سنة 1995 بـ 10% كل سنة، ويقدر سوق الجراحة التجميلية بنحو 250 مليون يورو حسب موقع البي بي سي.

ثم يشير بعد ذلك إلى تقنيات التنحيف أو الحمية، فيصفها بأنها تخضع الجسد لظروف جد قاسية ليستجيب لشروط الجسد النموذجي.. وقد "نشرت الجمعية الطبية البرطانية تقريرا في الموضوع، حيث دق ناقوس الخطر بتسجيله الفروقات المتنامية بين الجسد/المثال، الذي تبشر به وسائل الإعلام ومؤسسات الموضة، وبين الجسد/الواقع، مما يدفع المرأة إلى الانخراط في عملية نحت جسدها وإعادة ترسيمه ليتناسب والنموذج، متوسلة بكل الوسائل التي تبتكرها صناعة الأنوثة".. لقد أسرت مؤسسة صناعة الأنوثة المرأة واختزلتها في جسدها، وتبرز مؤسسة الموضة، إحدى أهم مؤسسات صناعة الأنوثة، بوصفها أخطر وسيلة ابتكرها الإنسان لاستلاب المرأة وتشييئها.

إن مؤسسة الموضة تكشف لنا أن المرأة غير موجودة لذاتها، أي كائنا طبيعيا (بيوثقافي) إنما كائنا اصطناعيا متخيلا تمت هندسته في الذهن


المصدر:
عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج ص138

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تحرير-المرأة #حضارة-الجسد
اقرأ أيضا
دلالة الاختراع | مرابط
اقتباسات وقطوف

دلالة الاختراع


من أعظم الأدلة على وجود الله سبحانه وتعالى دلالة الاختراع التي تشير إلى وجود خالق أو مخترع لهذا الكون الضخم المتناسق على الرغم من دقة تفاصيله وتنظر إلى سلامة هذا الاختراع من أي نقص ويدخل في هذا وجود النبات والحيوان والإنسان والكواكب والأفلاك وغيرها

بقلم: ابن رشد
2274
قصص وعبر للنساء ج1 | مرابط
تفريغات المرأة

قصص وعبر للنساء ج1


تفريغ لمحاضرة تأتي ضمن سلسلة من الرسائل النسائية يبدأها الدكتور نبيل العوضي بالرسالة الأولى بعنوان: قصص وعبر وكل قصة من هذه القصص تحمل عبرة فإن من النساء بل من الناس عموما من تمر عليه القصص فلا يعتبر والسعيد من اتعظ بغيره نبدأ هذه القصص لا للتسلية ولا لقضاء الأوقات ولا للطرف ولا للهزل إنما نقص هذه القصص للعبرة

بقلم: د نبيل العوضي
447
قصة العلمانية المؤسلمة | مرابط
مقالات العالمانية

قصة العلمانية المؤسلمة


يستعرض المقال عددا من الرؤى التجديدية في الفكر السياسي كما يعرضها بعض المعاصرين ويفحصها جميعا من خلال مقارنتها ب المضمون العلماني ليكشف عن وجه الاختلاف الذي تفترق فيه هذه الرؤى عن المضمون العلماني حين نفحص هذا الوعاء نجد أن المبادئ العامة أمور كلية فطرية متفق عليها بين جميع الناس فلا وجود لمنظومة فكرية ذات بال تقول إنها ترفض الحرية أو العدالة أو المساواة وإنما الخصومة والنزاع دائما في التفصيلات والتشريعات الجزئية

بقلم: د فهد بن صالح العجلان
2408
ظهور العقيدة في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

ظهور العقيدة في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد


إذا سألنا هنا عن نشأة العقيدة الإلهية فليس سؤالنا منشأ هذه الضرورة الكامنة في العقل الباطن والتي هي من الأوليات التي لا يسأل عن مصدرها وإنما السؤال عن العوامل والملابسات التي تكون قد رفعت هذه الحقيقة إلى مستوى الوعي المتيقظ ثم لم تكتف بإبرازها أمام العقل قضية نظرية بل حولتها إلى فكرة حية ملهبة للمشاعر وطبعت موضوعها بطابع خاص يجعله ذاتا علوية تتوجه إليها القلوب بالرغبة والرهبة والدعاء والخضوع

بقلم: محمد عبد الله دراز
2004
الأدب مع الله | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

الأدب مع الله


وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله وخطابهم وسؤالهم كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به وهنا يذكر لنا ابن قيم الجوزية رحمه الله نماذج من خطاب الأنبياء والرسل مع الله تعالى وكيف تتجلى فيها معالم وملامح الأدب الكبير حتى في أدق التفاصيل

بقلم: ابن قيم الجوزية
2232
الرسالة القرآنية | مرابط

الرسالة القرآنية


ثم تأتي الرسالة من رب الكون إلى هذا الإنسان .. وكان أولى به أن ينظر -أول ما ينظر- إلى مرسلها ويسأل -أول ما يسأل- عن مصدرها حتى يتحقق منه يقينا. ذلك أن الإنسان عندما يتوصل عادة بأي رسالة أرضية بشرية فإنه ينظر بادئ النظر إلى اسم المرسل من هو؟ حتى إذا استقر في ذهنه اسمه قرأ الرسالة حينئذ لأنه على قدر المرسل عند المرسل إليه تكون قيمة الرسالة

بقلم: فريد الأنصاري
251