بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة

بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة | مرابط

الكاتب: عبد الوهاب المسيري

267 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

في الغرب يتحدثون عن "حقوق المرأة" في الوقت الذي تتصاعد فيه معدلات الإباحية والعري، ومحاصرة المرأة بمعايير تؤكد أهمية جسدها وتختزلها تماما فيه. في مقال متميز للأستاذ مصطفى المرابط بعنوان "صناعة الأنوثة" جاء فيه أن الصورة النمطية التي يتم تثبيتها تختزل المرأة في جسدها، لم يعد يُكتفى بتشيؤ هذا الجسد (أي تحويلها إلى شيء) إنما جعله في خدمة الشيء، حيث يقدم طعما للترويج لسلعة أو منتوج. فالجسد يقدم تارة على أنه مادة للاستهلاك وتارة أخرى وسيلة للاستهلاك.

وتبلغ عملية التنميط ذروتها عندما يفرض نموذج للجسد يستحيل تحقيقه..فعمليات التنحيف التي يخضع لها هذا الجسد بالرياضة والحمية، إضافة إلى عمليات التجميل المكثفة قد أوصلت بعض العارضات إلى حافة الموت، مثلما حصل مع العارضة البرازيلية أنا نيكول رستون (18 سنة) التي توفيت عشية مهرجان عرض الأزياء بباريس، بسبب نظام حمية صارم (وزنها 40 كلغ وطولها 1.74م) مما حمل الجهات المسؤولة في إسبانيا على منع مشاركة عارضات يقل وزنهن عن نحو 50 كلغ، وقد سبق لدراسة نشرتها الجمعية الطبية البريطانية أن بينت أن نسبة الدهون لدى العارضات والممثلات تتراوح بين 10% و15% بينما المعدل عند النساء في صحة جيدة يتراوح بين 22 و26%

ثم يضيف الأستاذ المرابط قائلًا: إن صناعة الأنوثة (تروج) لجسد متخيل لا صلة له بالواقع، فيمارس على المرأة سلطة قاهرة لا حيلة لها في ردها أو دفعها. إنه شكل من أشكال الاستبداد، الذي أسميه بالاستبداد الناعم مقابل الاستبداد الكثيف أو الصلب. فإذا كان الاستبداد الكثيف عملية تتم من الخارج من خلال الإنسان وضبطه ومراقبته وإرغامه وحبس أنفاسه، فإن الاستبداد الناعم عملية تتم من الداخل من خلال الامتثال الطوعي لمعايير ونماذج تم غرسها وتثبيتها بواسطة الثقافة الرمزية.

ثم يذكر الأستاذ المرابط بعض الأرقام التي تعكس حجم الأغلال التي ترفل فيها المرأة، وتكشف أيضًا عن أساليب الاستبداد الناعم الذي يأسر المرأة ويستعبدها، فيشير إلى تضاعف الاستثمارات في صناعة العطور النسائية وأدوات التجميل في فرنسة ثم يضيف قائلًا: إن تنوع وانتشار وسائل التجميل يعكس حجم الهوس الذي يسكن المرأة: فمن اللباس إلى الأصباغ مرورا بجراحات التجميل وتفنيات الحمية، كلها وسائل تتسارع لمقاومة آثار الزمن على الجسد وإخفائها وتغيير عيوب الخلقة، ليبدو هذا الجسد أكثر جاذبية وإغراض.

فالمرأة حسب ليبوفتسكي في ظل هذه الثقافة تقدم للنظر، إنها ديكور لتزيين فضاءات الرجل، فالجسد أصبح مادة أولية كالعجيبة التي تستعمل لتشكل ما يرغب فيه الإنسان من أحجام وأشكال، أو كاللوحة التي يستعملها الفنان للاشتغال عليها بصباغته لإنتاج رسومات وألوان تسر الناظرين. إن الجسد/النموذج لا يقدم كما هو، بل يتم تغليفه بشكل جذاب، كما تغلف الهدايا، ثم إنه يتم توريته وراء حجاب المساحيق وتحويرات الجراحة التجميلية.

إن أكبر عدو لهذا الجسد/النموذج هو الزمن، لأن آثاره تؤذن بانتهاء صلاحيته، لذلك تعمل صناعة الأنوثة ما في وسعها لابتكار أسلحة مقاومة ضد فعل الزمن، فبالإضافة إلى المساحيق والمواد التجميلية المتنوعة التي تعمل على التمويه من خلال عمليتي الإخفاء والإظهار، هناك العمليات التجميلية التي تخضع هذا الجسد للشد والجذب والقطع والزرع.

ويورد الأستاذ المرابط في دراسته بعض الإحصائيات عن عمليات التجميل فيقول: في عامي 1981 و1989 بلغت العمليات الجراحية التجميلية نحو 80% وهو ما يقدره بعضهم بـ: 1.5 مليون عملية في السنة، ومنذ 1960 تضاعف عدد المختصين 5 مرات، وفي فرنسة تضاعف مرتين خلال عشر سنوات، ففي أوربة يبلغ إجمالي سوق الجراحة التجميلية نحو 1.5 مليار يورو خلال سنة 2006، ومن المنتظر أن ينمو بنسبة 14% سنويا حتى 2010. أما في الولايات المتحدة فيقدر عدد العمليات خلال سنة 2002 بـ 1.6 مليون عملية، وف بريطانية سًجل نمو في هذا الميدان منذ سنة 1995 بـ 10% كل سنة، ويقدر سوق الجراحة التجميلية بنحو 250 مليون يورو حسب موقع البي بي سي.

ثم يشير بعد ذلك إلى تقنيات التنحيف أو الحمية، فيصفها بأنها تخضع الجسد لظروف جد قاسية ليستجيب لشروط الجسد النموذجي.. وقد "نشرت الجمعية الطبية البرطانية تقريرا في الموضوع، حيث دق ناقوس الخطر بتسجيله الفروقات المتنامية بين الجسد/المثال، الذي تبشر به وسائل الإعلام ومؤسسات الموضة، وبين الجسد/الواقع، مما يدفع المرأة إلى الانخراط في عملية نحت جسدها وإعادة ترسيمه ليتناسب والنموذج، متوسلة بكل الوسائل التي تبتكرها صناعة الأنوثة".. لقد أسرت مؤسسة صناعة الأنوثة المرأة واختزلتها في جسدها، وتبرز مؤسسة الموضة، إحدى أهم مؤسسات صناعة الأنوثة، بوصفها أخطر وسيلة ابتكرها الإنسان لاستلاب المرأة وتشييئها.

إن مؤسسة الموضة تكشف لنا أن المرأة غير موجودة لذاتها، أي كائنا طبيعيا (بيوثقافي) إنما كائنا اصطناعيا متخيلا تمت هندسته في الذهن


المصدر:
عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج ص138

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تحرير-المرأة #حضارة-الجسد
اقرأ أيضا
التضليل والخداع في تسمية العلمانية | مرابط
العالمانية

التضليل والخداع في تسمية العلمانية


إمعانا في التضليل والخداع سماها الفكر الغربي بالعلمانية وهو اصطلاح يوحي بأن لها صلة بالعلم حتى ينخدع الآخرون بصواب الفكرة واستقامتها فمن الذي يقف في وجه دعوة تقول للناس إن العلم أساسها وعمادها ومن هنا انطلى الأمر على بعض السذج وأدعياء العلم فقبلوا المذهب منبهرين بشعاره دون أن ينتبهوا إلى حقيقته وأبعاده

بقلم: حمود الرحيلي
777
العجيبة الثامنة ج2 | مرابط
فكر مقالات

العجيبة الثامنة ج2


المكتبة الإسلامية هي عجيبة العجائب ذهب جلها ولم يبق منها إلا قلها وهذا الذي بقى هو الأقل الأقل وهو على ذلك شيء عظيم ففي مكتبات إسطنبول كما نقلوا أكثر من مئتي ألف مخطوطة جلبها العثمانيون من العواصم العربية والإسلامية وفي شمالي إفريقيا مئتا ألف مخطوط في مكتبات القيروان وفاس وحواضر الشمال الإفريقي المسلم وفي مصر ثمانون ألف مخطوط وفي موريتانيا واليمن وغيرهما

بقلم: علي الطنطاوي
830
المثالية الزائدة | مرابط
اقتباسات وقطوف

المثالية الزائدة


لدنيا ليست كما تظن والناس أيضا ليسوا كما تتخيل ففيهم الكاذب على الله والخائن للناس وفيهم الظالم والجبار والمرتشي وشاهد الزور وفيهم القاتل والسارق إلى غير ذلك مما هو كفيل بعقلنة نظرتك للحياة هذا كله لا إشكال فيه بل الإشكال عند الذين يسبب لهم ذلك صدمة في مثاليتهم

بقلم: م أحمد حسن
480
بدايات حركة السفور وتحرير المرأة | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

بدايات حركة السفور وتحرير المرأة


فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات وصرت مأسورات عندهم فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر

بقلم: محمد جلال كشك
609
استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية | مرابط
تفريغات

استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية


الحل الصهيوني للمسألة اليهودية مثلا هو الحل الاستعماري عندك يهود زيادة إما تحرقهم أو ترسلهم فلسطين وهكذا تحل قضية الأقليات في المجتمعات المدنية عندك بضائع أرسلها للمستعمرات وهكذا أوروبا حلت مشاكلها عن طريق تصديرها للشرق وأسست مجتمعات مدنية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
495
الإسلام واللغة العربية | مرابط
اقتباسات وقطوف لسانيات

الإسلام واللغة العربية


وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ثم منها ما هو واجب على الأعيان ومنها ما هو واجب على الكفاية

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
529