بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة

بين حضارة الجسد وحركات تحرير المرأة | مرابط

الكاتب: عبد الوهاب المسيري

80 مشاهدة

تم النشر منذ 3 أشهر

في الغرب يتحدثون عن "حقوق المرأة" في الوقت الذي تتصاعد فيه معدلات الإباحية والعري، ومحاصرة المرأة بمعايير تؤكد أهمية جسدها وتختزلها تماما فيه. في مقال متميز للأستاذ مصطفى المرابط بعنوان "صناعة الأنوثة" جاء فيه أن الصورة النمطية التي يتم تثبيتها تختزل المرأة في جسدها، لم يعد يُكتفى بتشيؤ هذا الجسد (أي تحويلها إلى شيء) إنما جعله في خدمة الشيء، حيث يقدم طعما للترويج لسلعة أو منتوج. فالجسد يقدم تارة على أنه مادة للاستهلاك وتارة أخرى وسيلة للاستهلاك.

وتبلغ عملية التنميط ذروتها عندما يفرض نموذج للجسد يستحيل تحقيقه..فعمليات التنحيف التي يخضع لها هذا الجسد بالرياضة والحمية، إضافة إلى عمليات التجميل المكثفة قد أوصلت بعض العارضات إلى حافة الموت، مثلما حصل مع العارضة البرازيلية أنا نيكول رستون (18 سنة) التي توفيت عشية مهرجان عرض الأزياء بباريس، بسبب نظام حمية صارم (وزنها 40 كلغ وطولها 1.74م) مما حمل الجهات المسؤولة في إسبانيا على منع مشاركة عارضات يقل وزنهن عن نحو 50 كلغ، وقد سبق لدراسة نشرتها الجمعية الطبية البريطانية أن بينت أن نسبة الدهون لدى العارضات والممثلات تتراوح بين 10% و15% بينما المعدل عند النساء في صحة جيدة يتراوح بين 22 و26%

ثم يضيف الأستاذ المرابط قائلًا: إن صناعة الأنوثة (تروج) لجسد متخيل لا صلة له بالواقع، فيمارس على المرأة سلطة قاهرة لا حيلة لها في ردها أو دفعها. إنه شكل من أشكال الاستبداد، الذي أسميه بالاستبداد الناعم مقابل الاستبداد الكثيف أو الصلب. فإذا كان الاستبداد الكثيف عملية تتم من الخارج من خلال الإنسان وضبطه ومراقبته وإرغامه وحبس أنفاسه، فإن الاستبداد الناعم عملية تتم من الداخل من خلال الامتثال الطوعي لمعايير ونماذج تم غرسها وتثبيتها بواسطة الثقافة الرمزية.

ثم يذكر الأستاذ المرابط بعض الأرقام التي تعكس حجم الأغلال التي ترفل فيها المرأة، وتكشف أيضًا عن أساليب الاستبداد الناعم الذي يأسر المرأة ويستعبدها، فيشير إلى تضاعف الاستثمارات في صناعة العطور النسائية وأدوات التجميل في فرنسة ثم يضيف قائلًا: إن تنوع وانتشار وسائل التجميل يعكس حجم الهوس الذي يسكن المرأة: فمن اللباس إلى الأصباغ مرورا بجراحات التجميل وتفنيات الحمية، كلها وسائل تتسارع لمقاومة آثار الزمن على الجسد وإخفائها وتغيير عيوب الخلقة، ليبدو هذا الجسد أكثر جاذبية وإغراض.

فالمرأة حسب ليبوفتسكي في ظل هذه الثقافة تقدم للنظر، إنها ديكور لتزيين فضاءات الرجل، فالجسد أصبح مادة أولية كالعجيبة التي تستعمل لتشكل ما يرغب فيه الإنسان من أحجام وأشكال، أو كاللوحة التي يستعملها الفنان للاشتغال عليها بصباغته لإنتاج رسومات وألوان تسر الناظرين. إن الجسد/النموذج لا يقدم كما هو، بل يتم تغليفه بشكل جذاب، كما تغلف الهدايا، ثم إنه يتم توريته وراء حجاب المساحيق وتحويرات الجراحة التجميلية.

إن أكبر عدو لهذا الجسد/النموذج هو الزمن، لأن آثاره تؤذن بانتهاء صلاحيته، لذلك تعمل صناعة الأنوثة ما في وسعها لابتكار أسلحة مقاومة ضد فعل الزمن، فبالإضافة إلى المساحيق والمواد التجميلية المتنوعة التي تعمل على التمويه من خلال عمليتي الإخفاء والإظهار، هناك العمليات التجميلية التي تخضع هذا الجسد للشد والجذب والقطع والزرع.

ويورد الأستاذ المرابط في دراسته بعض الإحصائيات عن عمليات التجميل فيقول: في عامي 1981 و1989 بلغت العمليات الجراحية التجميلية نحو 80% وهو ما يقدره بعضهم بـ: 1.5 مليون عملية في السنة، ومنذ 1960 تضاعف عدد المختصين 5 مرات، وفي فرنسة تضاعف مرتين خلال عشر سنوات، ففي أوربة يبلغ إجمالي سوق الجراحة التجميلية نحو 1.5 مليار يورو خلال سنة 2006، ومن المنتظر أن ينمو بنسبة 14% سنويا حتى 2010. أما في الولايات المتحدة فيقدر عدد العمليات خلال سنة 2002 بـ 1.6 مليون عملية، وف بريطانية سًجل نمو في هذا الميدان منذ سنة 1995 بـ 10% كل سنة، ويقدر سوق الجراحة التجميلية بنحو 250 مليون يورو حسب موقع البي بي سي.

ثم يشير بعد ذلك إلى تقنيات التنحيف أو الحمية، فيصفها بأنها تخضع الجسد لظروف جد قاسية ليستجيب لشروط الجسد النموذجي.. وقد "نشرت الجمعية الطبية البرطانية تقريرا في الموضوع، حيث دق ناقوس الخطر بتسجيله الفروقات المتنامية بين الجسد/المثال، الذي تبشر به وسائل الإعلام ومؤسسات الموضة، وبين الجسد/الواقع، مما يدفع المرأة إلى الانخراط في عملية نحت جسدها وإعادة ترسيمه ليتناسب والنموذج، متوسلة بكل الوسائل التي تبتكرها صناعة الأنوثة".. لقد أسرت مؤسسة صناعة الأنوثة المرأة واختزلتها في جسدها، وتبرز مؤسسة الموضة، إحدى أهم مؤسسات صناعة الأنوثة، بوصفها أخطر وسيلة ابتكرها الإنسان لاستلاب المرأة وتشييئها.

إن مؤسسة الموضة تكشف لنا أن المرأة غير موجودة لذاتها، أي كائنا طبيعيا (بيوثقافي) إنما كائنا اصطناعيا متخيلا تمت هندسته في الذهن


المصدر:
عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج ص138

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#تحرير-المرأة #حضارة-الجسد
اقرأ أيضا
التغريب: الأهداف والأساليب ج3 | مرابط
فكر تفريغات أبحاث

التغريب: الأهداف والأساليب ج3


التغريب مصطلح يطلق على الانسياق وراء الحضارة الغربية سواء في الاعتقاد أو الاقتصاد أو غير ذلك وقد سعى الغرب في تغريب الأمة الإسلامية بشتى الوسائل والتي منها: الاستعمار العسكري والفكري ونشر مدارس التغريب في بلاد المسلمين والابتعاث ولكون التغريب يشكل خطرا على المسلمين في دينهم وجب مواجهته بشتى السبل والتي منها: التمسك بالإسلام الحق وفضح مدارس التغريب ونشر العلم الشرعي وما أشبه ذلك

بقلم: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
1816
شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1 | مرابط
تفريغات

شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1


قال المؤلف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك ففعلت فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت قال: خشيتك يا رب أو قال: مخافتك فغفر له

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
345
شبهة: ما الحكمة من زواج السيدة عائشة في سن صغير؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: ما الحكمة من زواج السيدة عائشة في سن صغير؟


هل صحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- دخل بالسيدة عائشة وهي 9 سنوات؟ وإذا كان صحيحا فما الحكمة وراء زواجها في سن صغيرة.. يتكرر هذا السؤال كثيرا وإليكم الإجابة الشافية من الدكتور حسام الدين حامد.

بقلم: حسام الدين حامد
118
بين الحق والباطل | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين الحق والباطل


مقتطف للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني يلفت فيه الأنظار إلى ما دواخل النفس الإنسانية للمسلم وكيف يتصارع الحق والباطل ولماذا تنتهي المعركة أحيانا بفوز الباطل وأحيانا أخرى بفوز الحق ويشير إلى حقيقة هذا الصراع وتجلياته في القرآن الكريم

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
1847
صناعة الخطوات | مرابط
فكر

صناعة الخطوات


ليست المشكلة فقط في تهوين الحرام والعلاقة المحرمة.. بل في صناعة خطوات شيطانية مقترحة لكل زوج أو زوجة شعرا بالظلم!! كم من زوج أو زوجة شعرا بالإهمال أو الظلم من الطرف الآخر لكنهم لم يفكرا ولو للحظة بالخيانة!! اليوم يفتحون أذهانهم على هذا البدليل المفسد للدنيا والآخرة!!

بقلم: د. أيمن خليل البلوي
131
تطويل الطريق | مرابط
فكر

تطويل الطريق


قراءة واحدة صادقة لكتاب الله تصنع في العقل المسلم ما لا تصنعه كل المطولات الفكرية بلغتها الباذخة وخيلائها الاصطلاحي قراءة واحدة صادقة لكتاب الله كفيلة بقلب كل حيل الخطاب الفكري المعاصر رأسا على عقب هذا القرآن حين يقرر المسلم أن يقرأه بتجرد فإنه لا يمكن أن يخرج منه بمثل ما دخل عليه هذا القرآن يقلب شخصيتك ومعاييرك وموازينك وحميتك وغيرتك وصيغة علاقتك بالعالم والعلوم والمعارف والتاريخ

بقلم: إبراهيم السكران
7668