ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الجزء الثاني

ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: محمد صالح المنجد

1188 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الإيمان بالقضاء والقدر يورث التَّسليم لحكم الله

وكذلك يكون بالقضاء والقدر إيمانًا به يسلم العبد من الاعتراض على أحكام الله الشَّرعية، ولا يعترض بكلمة ولا يفعل، مثل النِّياحة فلماذا تحصل النِّياحة؟ لما تُقطِّع شعرها، وتشقُّ ثوبها، وتضرب وجهها، تخمش خدها؟ لو أنَّ هناك إيمان قوي بعقيدة القضاء والقدر فإذا مات ولدها تقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، أمَّا التَّقطيع والضَّرب واللطم والكلام الكفري الذي يقع منهم الكلام الكفري فيناقض ذلك.

ثُمَّ أنَّ بالإيمان بالقضاء والقدر يَجدُّ الإنسان فيه ويعزم في أموره، ويأخذ بالنافع ويحصِّل الأسباب المفيدة؛ لأنَّه يعلم أنَّ نبيه صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل" [رواه مسلم: 6945]. رواه مسلم.

ولذلك فإنَّ العبد يشكر ربَّه على ما أنعم به عليه من اندفاع نقمة أو حصول نعمة وأنَّ هذا قضاء من الله تعالى، فيرضى به العبد وتمتلأ نفسه بالرِّضا عن ربِّه والرِّضا باب الله الأعظم، وجنَّة الدُّنيا ومستراح العابدين، بل إنَّه يفرح بالقدر "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" [يونس: 58].

عندما يكون هذا القدر إيمان بالله وهداية، فإذا قدَّر الله لك الهداية تفرح به، وكذلك تحصل الاستقامة على المنهج في السَّرَّاء والضَّرَّاء، وعدم اليأس من انتصار الحق، مثل هذا الزَّمان الذي نحن فيه الآن من كثرة الأعداء وقوتهم وتسلُّطهم وضعف المسلمين وتأخُّرهم، هناك مَن يقول: لا فائدة فقد ضاقت ولا مخرجٌ ولا نصرٌ، فإذا آمنَّا بقضاء الله وقدره وأنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير، وكما أنَّه جعل الدولة لهم يقلبها عليهم ويجعلها للمسلمين، عدم اليأس من انتصار الحق، "وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" [آل عمران: 140].

فتكون الدَّولة للكفَّار مرَّة وللمسلمين مرَّة "وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" [آل عمران: 140]. ثم يحصل أيضًا للعبد في هذا الجانب رضا، بمعنى أنَّه لا يتمنَّى أن يحدث غير الذي حدث إذا كان مؤمنًا بالقضاء والقدر، ويعلم أنَّ كلَّ قضاء الله له خير، ولا يتأسفنَّ على شيء فات وانتهى، فليس مقدَّرًا لك، بل ربَّما الإنسان يكتشف أحيانًا أنَّ ما فاته كان خيرًا له، فمثلا: رجل ذهب ليحجز للسر فوجد الطائرة ممتلئة، وحاول أن يجد واسطات ألحَّ عليهم ولكن لا فائدة، فأقلعت الطائرة فانفجرت واحترقت، فعرف وسُرَّ بأنَّه قُدِّر عليه أنَّه لا يُقلع فيها.

 

تجري الأمور على حكم القضاء    وفي طَيِّ الحوادث محبوب ومكروه
ورُبَّما سرَّني ما كنت أحذره    ورُبَّما ما ساءني ما كنت أرجوه

فيكتشف الإنسان أحيانًا قصر نظره، أنَّه كان يسعى في أشياء وليست من مصلحته، وتارك أشياء هي من مصلحته، وكذلك يكتسب عِزَّة النَّفس والقناعة والتَّحرر من رقِّ المخلوقين في مثل قضية الرِّزق، وأنَّ الرِّزق عند الله ولن يموت حتى يستوفي رزقه، وأنَّ الله هو حسبه وهو الرَّزاق ولو قدَّر له شيئًا من الرِّزق فلابد أن يَصِله، ولا يستطيع إنسان أن يقطع زرق فلان، ولا يقول بعض النَّاس لا تقطع رزق فلان فليس بصحيح، لكن لا تكن سببًا في قطع شيء معين، لكن ممكن يأتيه غيره، فيفصله من العمل ويُرزق ذاك بعمل آخر في شركة أخرى، فالرِّزق سيأتي، وما يفعله بعض النَّاس هو أن يكون سبب في قطع شيء أو حصول شيء وذلك مجرد سبب، وإلَّا فالله هو الذي سخَّر هذا ليجد له عملًا، وقدَّر على هذا وجرت الأحداث بأن يفصله من عمله، ولذلك الإنسان إذا رُزق القناعة لم يكن ليلتفت.

رأيت القناعة كنزَ الغني    فصرت بأذيالها ممتسك
فلا ذا يراني على بابه    ولا ذا يراني به منهمك
وصرت غنيًا بلا درهم    أمرُّ على الناس شبه الملك

كما ذكر الشَّافعي رحمه الله تعالى.
فإذًا الفوائد كثيرة، والنَّعيم الذي حصل لعدد من النَّاس بسبب الإيمان بهذه العقيدة والسُّرور كبير، بحيث يتأمل الإنسان فيها، ويريد أن يأخذ من هذه العقيدة ما يُنعش به نفسه، ويُسرُّ به في حياته، حتى قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر" [جامع العلوم والحكم:  195].
وهذا يدخل في كلام شيخ الإسلام رحمه الله: "إنَّ في الدُّنيا جنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" [ المستدرك على مجموع فتاوى1/153].

وبعض الكفار لما خالطوا  بعض المسلمين، بل بعض البادية والأعراب صار عندهم نوع من الدهشة لاستقرار هذا العقيدة في نفوس المسلمين، كما قال هذا الكاتب إنسيبود لي مؤلف كتاب رياح على الصحراء وكتاب الرَّسول، وألَّف أربعة عشر كتابًا آخر في مقالة بعنوان: عشت في جنَّة الله، قال: إنَّه في عام 1918م، وليت ظهر العالم الذي عرفته طيلة حياتي وهي مند شطرا أفريقيا الشِّمالية الغربية، عشت بين الأعراب في الصَّحراء قضيت سبعة أعوام أتقنت لغة البدو وارتديت زيَّهم وأكلت من طعامهم، واتخذت مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغنامًا، أنام كما ينامون في الخيام، وتعمقت في فهم الإسلام حتى أني ألَّفت كتابًا عن محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرُّحل المسلمين من أمتع سنين حياتي وأحفلها بالسلام والاطمئنان والرضا بالحياة.

وقد تعلَّمت من عرب الصَّحراء كيف أتغلَّب على القلق فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر -لاحظ العبارة هذه التي قالها الشَّخص هذا الذي كان كافر- يقول: فهم بوصفهم مسلمين الأعراب يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا على العيش بأمان، وأخذ الحياة مأخذًا لينًا سهلًا، لا يتعجلون أمرًا ولا يلقون بأنفسهم في القلق، إنهم يؤمنون بأن ما قُدِّر يكون، وأنَّ الفرد منهم لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وليس معنى هذا أنَّهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي، ودعني أضرب لك مثلًا مما أعنيه: هبت ذات يوم عاصفة عاتية حملت رمال الصحراء، وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط ورمت بها في وادي الرَّون في فرنسا، وكانت العاصفة حارة شديدة الحرارة حتى أحسست، كأن شعر رأسي يتزعزع من منابته لفرط وطأة الحر، وأحسست من فرط القيض كأنَّني مدفوع إلى الجنون.

ولكن العرب بهذه العاصفة العاتية الغبار لم يشكو إطلاقًا فقد هزُّوا أكتافهم وقالوا كلمتهم المأثورة: قضاء مكتوب، لكنهم ما أن مرَّت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير فذبحوا صغار الخراف قبل أن يود القيض بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء، فعلوا هذا كله في صمت وهدوء دون أن تبدوا منهم شكوى، فقال رئيس القبيلة وهو الشيخ: لم نفقد الشَّيء الكثير فقد كنا خليقين بأن نفقد كل شيء، ولكن حمدًا لله وشكرًا فإنَّ لدينا نحوًا من أربعين في المائة من ماشيتنا وفي استطاعتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد، وقال هذا الكاتب أيضًا: وثمة حادثة أخرى فقد كنا نقطع الصَّحراء بالسَّيارة يومًا فانفجر أحد الإطارات وكان السَّائق قد نسي استحضار إطار احتياطي يتولاني الغضب وانتابني القلق والهم وسألت صحبي من الأعراب ماذا عسى أن نفعل، فذكروني بأن الاندفاع في الغضب لن يُجدي فتيلًا بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطَّيش والحُمق.

ركبنا السَّيارة وتجري على ثلاث إطارات ليس إلا ثم كفت على السَّير بنفاذ البنزين فلم تثر ثائرة أحد منهم، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يذرعون الطَّريق سيرًا على أقدامهم، قال في نهاية تجربته: قد أقنعتني الأعوام السَّبعة التي قضيتها في الصَّحراء بين الأعراب الرُّحل أنَّ المُلتاثين ومرضى النَّفوس والسَّكيرين الذين تحفل بهم أمريكا وأوروبا ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السَّرعة أساسًا لها، إنني لم أُعاني شيئًا من القلق قط وأنا أعيش في الصَّحراء، بل هنالك في جنَّة الله وجدت السَّكينة والقناعة والرِّضا، ختم كلامه بقوله: وخلاصة القول إنني بعد انقضاء سبعة عشر عامًا على مغادرتي الصَّحراء ما زلت اتخذ مواقف العرب المسلمين الأعراب حيال قضاء الله، فأقابل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال والسَّكينة، وأفلحت هذه الطِّباع التي اكتسبتها من أولئك البدو في تهدئة أعصابي أكثر مما تُفلح آلاف المسكنات والعقاقير، فاليوم يصرف أطباء النَّفس المسكنات والعقاقير، ولو يوجد أطباء قلوب يصرفون أشياء تؤدي بهؤلاء إلى الإيمان بعقيدة القضاء والقدر إذًا اكتفينا العقاقير والمسكنات، وكان العلاج أجدى وأنفع وأحسن، وبدون آثار جانبية مُضرَّة بل هي التي تضع الإنسان على الصِّراط المستقيم.


 

المصدر:

https://almunajjid.com/courses/lessons/323

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الإيمان-بالقدر
اقرأ أيضا
ظاهرة الليبراليين الفقهاء | مرابط
فكر مقالات الليبرالية

ظاهرة الليبراليين الفقهاء


ومن طريف أمر فقهائنا الليبراليين أنهم حين يلجون مسائل الدين القطعية وأصول الإسلام الكلية يتعاملون معها بنسبية الحقيقة وتعدد التفسيرات ورفض الوصاية وقبول كافة الاجتهادات مما يغيب معه حق واحد واضح في هذه القطعيات وحين ينزلون إلى المسائل الفروعية الفقهية الاجتهادية يتعاملون معها بوثوقية عالية وقطعية جازمة وحسم تام يرمي كل من يشكك في بعض حيثيات الحكم بالتشدد والانغلاق والفهم البليد

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1783
صحبة البطالين | مرابط
اقتباسات وقطوف

صحبة البطالين


مقتطف ماتع لابن الجوزي رحمه الله يتحدث فيه عن قيمة الوقت وعن حياة البطالين وصحبتهم وكيف أنه يحاول الهروب منهم ومن لقائهم بشتى الطرق حتى إذا وجد أنه لا مفر جهز بعض الأعمال البسيطة التي لا تحتاج إلى جهد ولا فكر ولا حضور قلب ليقوم بها في أوقات حضورهم فلا يضيع وقته معهم ولا يستمع إلى أحاديثهم التي لا تخلو من غيبة

بقلم: ابن الجوزي
2501
قصة الحروب الصليبية الجزء الثاني | مرابط
تاريخ

قصة الحروب الصليبية الجزء الثاني


الحروب الصليبية هي سلسلة الحروب التي شنها المسيحيون الأوربيون على الشرق الأوسط للاستيلاء على بيت المقدس ومنذ أن انتصرت القوات الإسلامية على القوات البيزنطية في معركتي اليرموك وأجنادين في عام 13 هجريا منذ ذلك الوقت والإسلام يهاجم الصليبيين ويفتح أراضيهم وظل الصليبيون يترقبون الفرصة والزمن المناسب للأخذ بالثأر ورد الفعل وهكذا كانت أحسن الفرص للانتهاز في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي والمقال الذي بين يدينا يقف بنا على أهم مراحل الحروب الصليبية وأبرز أحداثها ونتائجها

بقلم: موقع قصة الإسلام
1996
من أبواب العقل والراحة | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أبواب العقل والراحة


باب عظيم من أبواب العقل والراحة: وهو طرح المبالاة بكلام الناس واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل بل هو باب العقل كله والراحة كلها من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وإن ألمتها في أول صدمة

بقلم: ابن حزم
204
قصص وعبر للنساء ج3 | مرابط
تفريغات المرأة

قصص وعبر للنساء ج3


تفريغ لمحاضرة تأتي ضمن سلسلة من الرسائل النسائية يبدأها الدكتور نبيل العوضي بالرسالة الأولى بعنوان: قصص وعبر وكل قصة من هذه القصص تحمل عبرة فإن من النساء بل من الناس عموما من تمر عليه القصص فلا يعتبر والسعيد من اتعظ بغيره نبدأ هذه القصص لا للتسلية ولا لقضاء الأوقات ولا للطرف ولا للهزل إنما نقص هذه القصص للعبرة

بقلم: د نبيل العوضي
387
هل أخطأ نساخ القرآن في كتابة بعض كلماته؟ | مرابط
أباطيل وشبهات

هل أخطأ نساخ القرآن في كتابة بعض كلماته؟


قالوا: النص القرآني تعرض للتغيير والتحريف الذي طرأ عليه بسبب خطأ الرواة والنساخ واستدلوا لذلك بما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ أفلم يتبين للذين آمنوا فقيل له: إنها أفلم ييأس الذين آمنوا الرعد: ٣١ فقال: إني أرى الكاتب كتبها وهو ناعس.. وبين يديكم رد على هذه الشبهة بقلم الدكتور منقذ السقار.

بقلم: منقذ السقار
607