جمالية الأمومة

جمالية الأمومة | مرابط

الكاتب: فريد الأنصاري

187 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

الأمومة في الإسلام مفهوم خاص، وكذلك سائر مفاهيم الأسرة، كالأبوة، والبنوة، والعمومة والخؤولة ... إلخ.

يخطئ من يظن أن تلك المصطلحات كما وردت في النصوص الشرعية، من كتاب وسنة؛ هي بالمعنى البيولوجي التناسلي فقط! كلا! إنها مفاهيم تعبدية! فالأبوة بالمعنى الجنسي، أو الأمومة بالمعنى التناسلي؛ كلاهما مفهوم بيولوجي له دلالة جنسية، يشترك فيها بالتساوي الإنسان مع سائر البهائم، والحيوانات الأهلية والوحشية!

إن المفاهيم الأسرية في الإسلام لها دلالة متفرعة عن مفهوم (الرَّحِم) بمعناه الإسلامي. و(الرحم) مصطلح قرآني أصيل، مشتق من (الرحمة)، يدل على معنى ديني مقدس في الإسلام. وهو الرابطة التعبدية التي تربط الناس فيما بينهم؛ بعلاقات تناسلية مبنية على مبادئ الشريعة. فلا يدخلها من الفروع والأصول إلا من كان نتاج عقد شرعي كامل!

ومن هنا فقَدَ الزاني مفهومَ (الأبوة) لما وُلِدَ له في الحرام؛ فلم يكن (أبا) بهذا الاعتبار! ولذلك لم يَجُزْ أن يلحق ابن الزنى بأبيه البيولوجي في أي شيء؛ نسبا وإرثا! لأن الأب في الإسلام إنما هو من كان له ولد شرعي من عقد شرعي.

والأصل في ذلك أن الله تعالى جعل الرحم، التي هي رابطة الأسرة في الإسلام؛ مَعْنىً تعبديا، لا يجوز انتهاكه بتغيير أو تبديل، ولا بقطع صلة؛ أي قطع العلاقات بين الفروع والأصول، عموديا أو أفقيا. بل جعل صلتها عملا تعبديا كسائر العبادات الأخروية المقرِّبة من الله تعالى. وجعل رتبتها التعبدية مقرونة في القرآن بتقوى الله ذاته جل وعلا. وذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء:١).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه من الحديث القدسي: (قال الله تعالى: أنا خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، ومن بتَّهَا بتَتُّه!) (١) ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: (الرَّحِمُ شُجْنَةٌ من الرحمن. قال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته!) (٢) والشُّجْنَةُ هنا: القرابة المشتبكة كاشتباك العروق والأغصان. وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله!) (٣) فتجاوز مفهوم (الرحم) أن يكون مجرد غشاء من اللحم في بطن المرأة لحمل الجنين، بل تعدى هذا المفهوم للدلالة على العلاقة التعبدية بين أفراد الأسرة من الأصول والفروع عموديا وأفقيا. وهذا سر القوة والصمود في بقاء الأسرة -بالمعنى الإسلامي- عبر التاريخ، رغم كل أشكال التذويب الثقافي، الذي تعرض له المسلمون في كل مكان!

إن الرحم نفسها بالمعنى البيولوجي، أي الغشاء الجنيني، هي راجعة في الاشتقاق اللغوي إلى معنى (الرحمة)؛ لما تتسم به الأم من هذا المعنى العظيم كلما حملت؛ فكانت لذلك مورد العطف والحنان! وإنما الرحمة من الله الرحمن الرحيم. هو جل وعلا يخلق ما يشاء كما يشاء.

وللدكتور عبد الوهاب المسيري تحليل دقيق للحركة النسوية في العالم العربي، يرجع به في نهاية المطاف إلى فضح الرغبة الغربية في تدمير نظام الأسرة الإسلامي؛ لما ذكرنا من اعتبارات. يقول: (والعالم الغربي الذي ساند الدولة الصهيونية -التي تحاول تفكيك العالم العربي والإسلامي سياسيا وحضاريا- يساند بنفس القوة حركات التمركز حول الأنثى في بلادنا (...) فالعالم الغربي الذي أخفق في عملية المواجهة العسكرية المباشرة مع العالم الثالث، اكتشف أن هذه المواجهة مكلفة وطويلة، ولا طاقة له بها؛ ومن ثم فالتفكيك هو البديل العملي الوحيد. كما أدرك العالم الغربي أن نجاح مجتمعات العالم الثالث في مقاومته يعود إلى تماسكها، الذي يعود بدوره إلى وجود بناء أسري قوي، لا يزال قادرا على توصيل المنظومات القيمية، والخصوصيات القومية إلى أبناء المجتمع؛ ومن ثم يمكنهم الاحتفاظ بذاكرتهم التاريخية، وبوعيهم بثقافتهم وهويتهم وقيمهم (...) وإذا كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع؛ فإن الأم هي اللبنة الأساسية في الأسرة؛ ومن هنا تركيز النظام العالمي الجديد على قضايا الأنثى! فالخطاب المتمركز حول الأنثى هو خطاب تفكيكي (...) وهو خطاب يهدف إلى توليد القلق، والضيق والملل، وعدم الطمأنينة في نفس المرأة، عن طريق إعادة تعريفها! بحيث لا يمكن أن تتحقق هويتُها إلا خارج إطار الأسرة! وإذا انسحبت المرأة من الأسرة تآكلت الأسرة وتهاوت! وتهاوى معها أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماري والهيمنة الغربية!) (١)

ومن ثَمَّ حازت الأم في الشبكة الأسرية موقعا مركزيا، لا يدانيها فيه أحد. ولذلك قال الله تبارك وتعالى في القرآن العظيم: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان:١٤). فهو وإن وصى الإنسان بوالديه معا؛ إلا أنه خص الأم بذكر وظيفتها البيولوجية والنفسية والتربوية؛ فكان لها بذلك خصوص تمييز، لا يلحقه الأب. وهو صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك) (٢).

ومن هنا كان للأمومة جمالية خاصة في الإسلام، تتحقق على المستوى التربوي في تنشئة الفتاة، وإعدادها النفسي؛ لتملأ الوجدان الاجتماعي كله بالحب والحنان؛ مما يرسي نوعا من التوازن السيكولوجي في الأجيال، ويقوي النسيج الاجتماعي للأمة.


المصدر:
فريد الأنصاري، سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة، ص44

الإشارات المرجعية:

  1. رواه أحمد، وأبو داود والترمذي والحاكم عن عبد الرحمن بن عوف، كما رواه الحاكم عن أبي هريرة. وصححه الألباني. انظر حديث رقم: ٤٣١٤ في صحيح الجامع.
  2. رواه البخاري
  3. رواه مسلم.
  4. مقال د. عبد الوهاب المسيري: "ما بين حركة تحرير المرأة، وحركة التمركز حول الأنثى: رؤية معرفية" منشور بمجلة المنعطف المغربية، ص:٩٣. عدد مزدوج: ١٥ - ١٦ - ١٤٢١/ ٢٠٠٠.
  5. متفق عليه.
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الأمومة
اقرأ أيضا
التنكيت على الطقس؟ | مرابط
مقالات

التنكيت على الطقس؟


يقول الدكتور إياد قنيبي: مع استمرار الشتاء أكثر من المتوقع هذا الفصل والحمد لله سمعت من اثنين من الإخوة عبارات لم أرتح لها فاستفتيت صديقا لي من أهل العلم فيهما وأود مشاركتكما الفائدة.. وهذا مقال موجز فيه تعليق على إشكالية التنكيت على الطقس.

بقلم: د. إياد قنيبي
262
تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق | مرابط
تاريخ

تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق


والإسلام قد رفع حال المرأة الاجتماعي وشأنها رفعا عظيما بدلا من خفضها خلافا للمزاعم المكررة على غير هدى والقرآن قد منح المرأة حقوقا إرثية أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوربية كما أثبت ذلك حينما بحثت في حقوق الإرث عند العرب أجل أباح القرآن الطلاق كما أباحته قوانين أوربة التي قالت به ولكنه اشترط أن يكون للمطلقات متاع بالمعروف...

بقلم: جوستاف لوبون
158
فعل الرب التبصير والتغيير وفعل الشيطان التحسير والتعيير! | مرابط
مقالات

فعل الرب التبصير والتغيير وفعل الشيطان التحسير والتعيير!


العبد إذا انتبه إلى تماديه في دركات التقصير أو استمع إلى موعظة أزعجت قلبه عن رقدة الغفلة فإن فعل الشيطان معه هو التحسير والتعيير حتى يكبله عن مسالك التدارك بآصار الكآبة والحزن واليأس ولا يزال به حتى يوقعه في أعظم مما كان عليه وهو التنكر لنعم الله الدينية ولطفه بعبده وكرمه ورحمته فيجحد الموجود حسرة على المفقود فيجمع بين الشرين!

بقلم: كريم حلمي
194
نحن مثلكم ننتقد الدين | مرابط
فكر مقالات

نحن مثلكم ننتقد الدين


في عالمنا الإسلامي -العربي منه وغير العربي- مخلوقات غريبة تريد أن تجمع بين المتناقضات ولا تريد مع ذلك أن يعترض على تناقضها معترض يريدون أن يقولوا لإخوانهم الذين كفروا من أهل الغرب: إنما نحن مثلكم ننتقد الدين كما تنتقدون ولا نلتزم به كما أنكم لا تلتزمون ولا نترك فرصة للسخرية منه ومن المستمسكين به إلا اهتبلناها كما تهتبلون ونرى كما ترون أنه من حق الأديب والفنان أن ينتقد قيم المجتمع ومعتقداته ويدعو إلى نبذها لأنه لا يكون أديبا أو فنانا مبدعا إلا إذا فعل كل هذا بحرية كاملة كما تفعلون

بقلم: الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس
502
التحذير من الاختلاف | مرابط
اقتباسات وقطوف

التحذير من الاختلاف


مقتطف لابن قيم الجوزية من كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين يدور حول الاختلاف وقد أخبرنا الرسول أنه سيقع اختلاف كبير في هذه الأمة كما ذم الشرع سلوك المختلفين وحذر من اتباع سبيلهم وأرشدنا الحق تبارك وتعالى إلى مآلات هذا الأمر من الفرقة والشتات وفي هذا الاقتباس يقدم لنا ابن القيم خلاصة الأمر

بقلم: ابن القيم
910
التربية وضياع الأبناء | مرابط
تفريغات

التربية وضياع الأبناء


جاءني أحد الآباء يبكي بدموع حارة وقد مات ابنه ويريد أن يعرف: هل تسبب هو في ضياعه قال: كان ابني من الصالحين من الذين يحافظون على الصلوات ويحفظون القرآن وفجأة بدأت أحواله تتغير وبدأ يكثر السهر وبدأ يلازم الشارع أكثر من لزومه للبيت وبدأت طباعه تتغير والطيور على أشكالها تقع فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه فكم فاسقا أردى مطيعا حين آخاه

بقلم: خالد الراشد
275