دلالة التواتر على حجية السنة

دلالة التواتر على حجية السنة | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2253 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

إن إثبات صحة ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم “نصّاً” في شأن لزوم اتباع سنته يتطلب علمًا خاصّا بالرواة والأسانيد وقوانين علم الحديث، غير أن هناك أمورًا كثيرة ثبتت عنه بنقلٍ متواتر لا يتطلب ذلك العلم الخاص، ولا يختلف كلُّ من ينسب نفسه إلى شيء من العلم بالشرع في أنها ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وفيها ما يبلغ أعلى ما يمكن أن يبلغه التواتر عند عموم البشر مما لا ينازع فيه أحد إلا السفسطائيون وأشباههم، كالمنازعة في وجود شخص المسيح عليه السلام، وفي وجود فراعنة مصر في التاريخ، ونحو ذلك.

فإن ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه كان يصلي بالناس خمس صلوات في اليوم والليلة بسجود وركوع وقيام وقعود، وتكبير وتسليم، وأنه وقف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، وأنه رمى الجمار أيام التشريق ونحو ذلك مما شاهده الآف الناس وعملوه وعمله من بعدهم اقتداء بمشاهدتهم إياهم، كل ذلك يُعَد من أعلى ما يمكن أن يثبت عند البشر عن طريق التواتر. ولا سبيل لإنكار وقوع ذلك إلا بإلغاء اعتبار الخبر مصدراً للمعرفة, وفي ذلك تنكر للحقائق ولما يجده الإنسان من نفسه ضرورة.

 

كما قال ابن حزم في الإحكام عن الخبر الذي تنقله:

 

(كافّة بعد كافّة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به، وفي أنه حق مقطوع على غيبه؛ لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره، وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك، وبينا أن البرهان قائم على صحته، وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله، وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد، ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتآليف، ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ولا أنه مولود من امرأة).

 

وقال الغزالي في المستصفى:

 

(أَمَّا إثْبَاتُ كَوْنِ التَّوَاتُرِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، خِلَافًا لِلسُّمَنِيَّةِ حَيْثُ حَصَرُوا الْعُلُومَ فِي الْحَوَاسِّ وَأَنْكَرُوا هَذَا. وَحَصْرُهُمْ بَاطِلٌ،…،ثُمَّ لَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ فِي الدُّنْيَا بَلْدَةً تَسَمَّى بَغْدَادَ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا، وَلَا يُشَكُّ فِي وُجُودِ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ فِي وُجُودِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، بَلْ فِي الدُّوَلِ وَالْوَقَائِعِ الْكَبِيرَةِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ هَذَا مَعْلُومًا ضَرُورَةً لَمَا خَالَفْنَاكُمْ. قُلْنَا مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذَا فَإِنَّمَا يُخَالِفُ بِلِسَانِهِ أَوْ عَنْ خَبْطٍ فِي عَقْلِهِ أَوْ عَنْ عِنَادٍ، وَلَا يَصْدُرُ إنْكَارُ هَذَا مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ يَسْتَحِيلُ إنْكَارُهُمْ فِي الْعَادَةِ لِمَا عَلِمُوهُ وَعِنَادُهُمْ).

 

وإذا ثبت ذلك؛ فإن كثيرا مما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتواتر يُمكن أن نثبت به حجية السنة ومكانتها من وجوه متعددة سيأتي ذكرها بإذن الله.

 

تنبيه:

التواتر المقصود فيما سيأتي في الباب هو ما يسميه كثير من المتأخرين بالتواتر المعنوي، وإن كان قد يسمى عند بعض من تقدمهم تواترًا لفظيا، كما قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه:

 

(فأما التواتر فضربان، أحدهما: تواتر من طريق اللفظ، والآخر: تواتر من طريق المعنى.
فأما التواتر من طريق اللفظ: فهو مثل الخبر بخروج النبي من مكة إلى المدينة، ووفاته بها ودفنه فيها، ومسجده، ومنبره، وما روي من تعظيمه الصحابة وموالاته لهم ومباينته لأبي جهل وسائر المشركين، وتعظيمه القرآن وتحديهم به واحتجاجه بنزول، وما روي من عدد الصلوات وركعاتها وأركانها وترتيبها، وفرض الزكاة والصوم والحج ونحو ذلك .
وأما التواتر من طريق المعنى: فهو أن يروي جماعة كثيرون يقع العلم بخبرهم كل واحد منهم حكمًا غير الذي يرويه صاحبه إلا أن الجميع يتضمن معنى واحدًا فيكون ذلك المعنى بمنزلة ما تواتر به الخبر لفظًا، مثال ذلك ما روى جماعة كثيرون من عمل الصحابة بحبر الواحد والأحكام مختلفة والأحاديث متغايرة ولكن جميعها تتضمن العمل بخبر الواحد العدل، وهذا أحد طرق معجزات رسول اللهصلى الله عليه وسلم فإنه روي عنه تسبيح الحصى في يديه، وحنين الجذع إليه، ونبع الماء بين أصابعه، وجعله الطعام القليل كثيراً، ومجه الماء من فمه في المزاده فلم ينقصه الاستعمال، وكلام البهائم له، وما أشبه ذلك مما يكثر تعداده).

 

فهذا الذي سماه الخطيب لفظيا ضرب له بأمثلة هي عند كثير من المتأخرين من التواتر المعنوي.

 

أنواع الأخبار المتواترة المثبتة لحجية السنة ومكانتها في الإسلام:

 

يمكن تقسيم الأخبار المتواترة المثبتة لحجية السنة ومكانتها في الإسلام إلى أنواع:

 

النوع الأول: تواتر أخبار الغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

لقد اعتنى علماء المسلمين بتدوين الأخبار الغيبية التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتتبعوا ما وقع منها على مر التاريخ, وجعلوا ذلك من أهم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم, ولا ينازع أحد من أهل العلم بالأخبار والسير في وقوع ذلك منه, وقد كثرت الأحاديث التي دونها العلماء في هذا المعنى, ومن يطالع دلائل النبوة للبيهقي, والبداية والنهاية لابن كثير, وغيرهما من الكتب التي اعتنت بذكر دلائل النبوة من جهة الأثر والخبر, يجد عجبا من توارد هذه الأخبار وقوة أسانيدها.

 

وجه دلالة أحاديث الغيب على حجية السنة:
أن الله سبحانه وتعالى قد أخبر في كتابه أنه عالم الغيب وحده, وأنه لا يُطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول, فعلم بذلك أن ما يقوله صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب إنما هو من عند الله سبحانه وتعالى, وبالتالي فهو وحي من الله سبحانه وتعالى, وليس هذا الوحي مما ذكر في نص القرآن.

والعجيب أن منكري السنة يستدلون بوجود أخبار الغيب في كتب الحديث على إبطال السنة, وليس على كونها وحيًا, فهم يقولون إن الله ذكر في كتابه العزيز أن لا أحد يعلم الغيب إلا هو, ويذكر أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعلم الغيب لأحاديث الأخبار الغيبية التي يروونها في كتبهم, وبالتالي فالسنة باطلة.

وهذا استدلال فاسد, فإن الله قد أثبت في كتابه أنه يطلع رسله على الغيب, وليس معنى ذلك أنه يطلعهم على جميع الغيب, فإن هناك من الغيب ما اختص به الله سبحانه وتعالى وقد أبقت السنة على هذا الغيب الذي هو من خصوصية الله, كما ثبت في حديث جبريل في البخاري ومسلم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل).

 

النوع الثاني: تواتر الأحاديث القدسية عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ينسب فيها كلامًا لله سبحانه ليس مذكورا في القرآن.

 

لقد تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حدث بأحاديث عن ربه سبحانه وتعالى, وكان يصدّرها بقوله: (قال الله تعالى), أو يقول راويها عنه: (فيما يرويه عن ربه عز وجل).

وقد صح من هذه الأحاديث شيء كثير حتى بلغت في جمع بعض المعاصرين لها – وهو الشيخ مصطفى العدوي في كتابه: الصحيح المسند من الأحاديث القدسية- ١٨٥ حديثًا قدسيًا صحيحًا, ولسنا نستدل هنا على المنكرين بأفراد هذه الأحاديث وإنما بمجموعها الذي يفيد تواترًا معنويًا في نسبة النبي صلى الله عليه وسلم كلامًا إلى ربه سبحانه ليس مذكورًا في نص القرآن.

ووجه الدلالة منها على كون السنة وحيًا ظاهر, إذ لا سبيل إلى معرفة ما قاله الله سبحانه إلا بالوحي.

 

النوع الثالث: تواتر بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن.

 


 

المصدر:

  1. أحمد بن يوسف السيد، تثبيت حجية السنة، ص51
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#حجية-السنة
اقرأ أيضا
دعوى مظلومية المرأة | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات المرأة

دعوى مظلومية المرأة


اطلعت على بعض المقاطع المعدة بأسلوب درامي مؤثر يرسم صورة الأنثى كمظلومة تحت مظلة الإسلام وقد نجحت مثل هذه الرسائل في استمالة ضعيفات الإيمان إلى ظلمات الشك ثم الإلحاد وكثيرا ما يدخل المشككون في الإسلام من باب المرأة يستثيرون بذلك عواطف المسلمات اللاتي لم يعرفن دينهن حق المعرفة وفي الحقيقة فإن خطابهم التشكيكي هذا لا يعدو أن يكون غشا و تدليسا

بقلم: أحمد يوسف السيد
2896
الحلوى القاتلة: الإعلام الترفيهي والانحرافات الفكرية | مرابط
فكر الإلحاد ثقافة

الحلوى القاتلة: الإعلام الترفيهي والانحرافات الفكرية


الإعلام الترفيهي سلاح فكري ذو أثر شديد في نفوس المتلقين وفاعلية هذا الأثر تنجم من كونه يأتي من غير مظنته فليس هذا النوع من الإعلام مقصودا لمتطلب الأفكار الموافقة أو المخالفة ولم يكن حتى عهد قريب سوى آلة قتل للوقت وإلهاء عن الواقع وملء للفراغ ومن ثم تعود المتلقي أن يفتح حصونه أمامه مطمئنا لكونه يروح عن نفسه بما لا يستحق منه كثير تأمل ونظر وبما لا يتحد أفكاره ومسلماته فيفتح طواعية نوافذ لاوعيه لسيل دفاق من المؤثرات السمعية والبصرية

بقلم: ماهر أمير
720
باب الشهوة: تعس عبد الدرهم | مرابط
اقتباسات وقطوف

باب الشهوة: تعس عبد الدرهم


والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف فيبقى القلب مغمورا فيما يهواه ويخشاه غافلا عن الله رائدا غير الله ساهيا عن ذكره قد اشتغل بغير الله قد انفرط أمره قد ران حب الدنيا على قلبه كما روي في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطي رضي وإن منع سخط

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
497
صناعة الحياة | مرابط
فكر

صناعة الحياة


استثمار النفس وبناء المستقبل وصناعة الحياة كلمات نسمعها كثيرا ولا مشاحة في الاصطلاح ولكن ثمة ملحظ على أغلب من يردد هذه المصطلحات.. وهذا الملحظ هو أنهم يريدون بهذا الإطلاق المعنى المادي الدنيوي الخالص ويغفلون عما هو أهم وهو المستقبل الحقيقي بعد الموت ذلك المستقبل الأبدي الذي لا يفنى.

بقلم: د. طلال بن فواز الحسان
445
ليست السنة كلها تشريعا ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

ليست السنة كلها تشريعا ج2


إن تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية يمكن قبوله كإجراء فني اصطلاحي لفرز طبائع التصرفات النبوية وما يتصل بها من أحكام لكن المشكلة هو في تحقيق طبيعة الحدود الفاصلة بينهما وتحريك تلك الحدود ليخرج بعض ما كان محلا للتشريع عن أن يكون كذلك فليس صحيحا أن تخرج تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم من إطار الشريعة بذريعة صدور الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بتعدد أدواره الحياتية وإنما المحكم في تحديد ما يدخل في إطار التشريع منها وما يخرج هو الشريعة نفسها والتي كشفت عن هذه المسألة بدقة ووضوح

بقلم: عبد الله العجيري وفهد بن صالح العجلان
824
في مدح قوائم الكتب | مرابط
فكر ثقافة

في مدح قوائم الكتب


تختصر توصيات الكتب والقوائم المختصة الطريق على الراغب وتحميه من الإحباط الذي يواجهه كثير ممن يغامر في غابة العلوم بلا خارطة حين يكتشف ضخامة الكتب المتاحة وضآلة إمكاناته في قراءتها ماديا أو زمنيا فأنت تحتاج إلى مال قارون وعمر نوح -كما قال بعض الأساتذة- حتى يتسنى لك الإلمام بمطالعة ما يستحق من الكتب والعلوم إلا أن التوصيات والقوائم الحكيمة تخبرك أن أصول العلوم والكتب الجليلة في كثير من العلوم

بقلم: عبد الله الوهيبي
309