دلالة التواتر على حجية السنة

دلالة التواتر على حجية السنة | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2172 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن إثبات صحة ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم “نصّاً” في شأن لزوم اتباع سنته يتطلب علمًا خاصّا بالرواة والأسانيد وقوانين علم الحديث، غير أن هناك أمورًا كثيرة ثبتت عنه بنقلٍ متواتر لا يتطلب ذلك العلم الخاص، ولا يختلف كلُّ من ينسب نفسه إلى شيء من العلم بالشرع في أنها ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وفيها ما يبلغ أعلى ما يمكن أن يبلغه التواتر عند عموم البشر مما لا ينازع فيه أحد إلا السفسطائيون وأشباههم، كالمنازعة في وجود شخص المسيح عليه السلام، وفي وجود فراعنة مصر في التاريخ، ونحو ذلك.

فإن ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه كان يصلي بالناس خمس صلوات في اليوم والليلة بسجود وركوع وقيام وقعود، وتكبير وتسليم، وأنه وقف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، وأنه رمى الجمار أيام التشريق ونحو ذلك مما شاهده الآف الناس وعملوه وعمله من بعدهم اقتداء بمشاهدتهم إياهم، كل ذلك يُعَد من أعلى ما يمكن أن يثبت عند البشر عن طريق التواتر. ولا سبيل لإنكار وقوع ذلك إلا بإلغاء اعتبار الخبر مصدراً للمعرفة, وفي ذلك تنكر للحقائق ولما يجده الإنسان من نفسه ضرورة.

 

كما قال ابن حزم في الإحكام عن الخبر الذي تنقله:

 

(كافّة بعد كافّة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به، وفي أنه حق مقطوع على غيبه؛ لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره، وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك، وبينا أن البرهان قائم على صحته، وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله، وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد، ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتآليف، ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ولا أنه مولود من امرأة).

 

وقال الغزالي في المستصفى:

 

(أَمَّا إثْبَاتُ كَوْنِ التَّوَاتُرِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، خِلَافًا لِلسُّمَنِيَّةِ حَيْثُ حَصَرُوا الْعُلُومَ فِي الْحَوَاسِّ وَأَنْكَرُوا هَذَا. وَحَصْرُهُمْ بَاطِلٌ،…،ثُمَّ لَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ فِي الدُّنْيَا بَلْدَةً تَسَمَّى بَغْدَادَ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا، وَلَا يُشَكُّ فِي وُجُودِ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ فِي وُجُودِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، بَلْ فِي الدُّوَلِ وَالْوَقَائِعِ الْكَبِيرَةِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ هَذَا مَعْلُومًا ضَرُورَةً لَمَا خَالَفْنَاكُمْ. قُلْنَا مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذَا فَإِنَّمَا يُخَالِفُ بِلِسَانِهِ أَوْ عَنْ خَبْطٍ فِي عَقْلِهِ أَوْ عَنْ عِنَادٍ، وَلَا يَصْدُرُ إنْكَارُ هَذَا مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ يَسْتَحِيلُ إنْكَارُهُمْ فِي الْعَادَةِ لِمَا عَلِمُوهُ وَعِنَادُهُمْ).

 

وإذا ثبت ذلك؛ فإن كثيرا مما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتواتر يُمكن أن نثبت به حجية السنة ومكانتها من وجوه متعددة سيأتي ذكرها بإذن الله.

 

تنبيه:

التواتر المقصود فيما سيأتي في الباب هو ما يسميه كثير من المتأخرين بالتواتر المعنوي، وإن كان قد يسمى عند بعض من تقدمهم تواترًا لفظيا، كما قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه:

 

(فأما التواتر فضربان، أحدهما: تواتر من طريق اللفظ، والآخر: تواتر من طريق المعنى.
فأما التواتر من طريق اللفظ: فهو مثل الخبر بخروج النبي من مكة إلى المدينة، ووفاته بها ودفنه فيها، ومسجده، ومنبره، وما روي من تعظيمه الصحابة وموالاته لهم ومباينته لأبي جهل وسائر المشركين، وتعظيمه القرآن وتحديهم به واحتجاجه بنزول، وما روي من عدد الصلوات وركعاتها وأركانها وترتيبها، وفرض الزكاة والصوم والحج ونحو ذلك .
وأما التواتر من طريق المعنى: فهو أن يروي جماعة كثيرون يقع العلم بخبرهم كل واحد منهم حكمًا غير الذي يرويه صاحبه إلا أن الجميع يتضمن معنى واحدًا فيكون ذلك المعنى بمنزلة ما تواتر به الخبر لفظًا، مثال ذلك ما روى جماعة كثيرون من عمل الصحابة بحبر الواحد والأحكام مختلفة والأحاديث متغايرة ولكن جميعها تتضمن العمل بخبر الواحد العدل، وهذا أحد طرق معجزات رسول اللهصلى الله عليه وسلم فإنه روي عنه تسبيح الحصى في يديه، وحنين الجذع إليه، ونبع الماء بين أصابعه، وجعله الطعام القليل كثيراً، ومجه الماء من فمه في المزاده فلم ينقصه الاستعمال، وكلام البهائم له، وما أشبه ذلك مما يكثر تعداده).

 

فهذا الذي سماه الخطيب لفظيا ضرب له بأمثلة هي عند كثير من المتأخرين من التواتر المعنوي.

 

أنواع الأخبار المتواترة المثبتة لحجية السنة ومكانتها في الإسلام:

 

يمكن تقسيم الأخبار المتواترة المثبتة لحجية السنة ومكانتها في الإسلام إلى أنواع:

 

النوع الأول: تواتر أخبار الغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

لقد اعتنى علماء المسلمين بتدوين الأخبار الغيبية التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتتبعوا ما وقع منها على مر التاريخ, وجعلوا ذلك من أهم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم, ولا ينازع أحد من أهل العلم بالأخبار والسير في وقوع ذلك منه, وقد كثرت الأحاديث التي دونها العلماء في هذا المعنى, ومن يطالع دلائل النبوة للبيهقي, والبداية والنهاية لابن كثير, وغيرهما من الكتب التي اعتنت بذكر دلائل النبوة من جهة الأثر والخبر, يجد عجبا من توارد هذه الأخبار وقوة أسانيدها.

 

وجه دلالة أحاديث الغيب على حجية السنة:
أن الله سبحانه وتعالى قد أخبر في كتابه أنه عالم الغيب وحده, وأنه لا يُطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول, فعلم بذلك أن ما يقوله صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب إنما هو من عند الله سبحانه وتعالى, وبالتالي فهو وحي من الله سبحانه وتعالى, وليس هذا الوحي مما ذكر في نص القرآن.

والعجيب أن منكري السنة يستدلون بوجود أخبار الغيب في كتب الحديث على إبطال السنة, وليس على كونها وحيًا, فهم يقولون إن الله ذكر في كتابه العزيز أن لا أحد يعلم الغيب إلا هو, ويذكر أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعلم الغيب لأحاديث الأخبار الغيبية التي يروونها في كتبهم, وبالتالي فالسنة باطلة.

وهذا استدلال فاسد, فإن الله قد أثبت في كتابه أنه يطلع رسله على الغيب, وليس معنى ذلك أنه يطلعهم على جميع الغيب, فإن هناك من الغيب ما اختص به الله سبحانه وتعالى وقد أبقت السنة على هذا الغيب الذي هو من خصوصية الله, كما ثبت في حديث جبريل في البخاري ومسلم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل).

 

النوع الثاني: تواتر الأحاديث القدسية عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ينسب فيها كلامًا لله سبحانه ليس مذكورا في القرآن.

 

لقد تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حدث بأحاديث عن ربه سبحانه وتعالى, وكان يصدّرها بقوله: (قال الله تعالى), أو يقول راويها عنه: (فيما يرويه عن ربه عز وجل).

وقد صح من هذه الأحاديث شيء كثير حتى بلغت في جمع بعض المعاصرين لها – وهو الشيخ مصطفى العدوي في كتابه: الصحيح المسند من الأحاديث القدسية- ١٨٥ حديثًا قدسيًا صحيحًا, ولسنا نستدل هنا على المنكرين بأفراد هذه الأحاديث وإنما بمجموعها الذي يفيد تواترًا معنويًا في نسبة النبي صلى الله عليه وسلم كلامًا إلى ربه سبحانه ليس مذكورًا في نص القرآن.

ووجه الدلالة منها على كون السنة وحيًا ظاهر, إذ لا سبيل إلى معرفة ما قاله الله سبحانه إلا بالوحي.

 

النوع الثالث: تواتر بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن.

 


 

المصدر:

  1. أحمد بن يوسف السيد، تثبيت حجية السنة، ص51
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#حجية-السنة
اقرأ أيضا
ضغط اللحظة الراهنة | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

ضغط اللحظة الراهنة


كان القلق ناتجا من هبوب موجة استنكارات عنيفة من المثقفين الغربيين عن حال المعجزات التي ما عادت جذابة للعقل الغربي فهي لديهم أقرب لفكر الخرافات والأساطير التي تجاوزها الزمان فما عادت مستساغة في زمن تأليه العقل وتقديس الفكر المادي التجريبي غدت معه المعجزات مادة تندر واستهجان من رجالات الغرب هذا المزاج الغربي صاحبه حال إلحاد وجحود عن الدين لدى أوساط كثير من المثقفين المسلمين بما عزز في وعي كثير من المؤلفين ضرورة تقديم خطاب عقلاني مناسب يحفظون فيه الدين الإسلامي من سياط النقد الغربي ويحمون شباب...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2016
حفظ اللسان وفضل الصمت | مرابط
مقالات

حفظ اللسان وفضل الصمت


حدثنا يونس بن عبد الرحيم العسقلاني حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله عن عبد الله بن علي عن سليمان بن حبيب حدثني أسود بن أصرم المحاربي رضي الله عنه قال: قلت: أوصني يا رسول الله قال: أتملك يدك قال: قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي قال: أتملك لسانك قال: فما أملك إذا لم أملك لساني قال: فلا تبسط يدك إلا إلى خير ولا تقل بلسانك إلا معروفا

بقلم: ابن أبي الدنيا
610
ما بين الإيمان والفكر | مرابط
فكر مناقشات

ما بين الإيمان والفكر


كتاب لا يبحث في أعيان وأفراد الخلل والتخلف الفكري المعاصر في شتى الحقول ولا يبحث في قضايا الإيمان والعقيدة بل يبحث في القناة التي تربط بينهما وهو وجه بديع جديد من البحث العلمي والفكري وعنوان هذا الكتاب يوحي فعلا بموضوع بحثه وهو ينبوع الغواية الفكرية للشيخ عبد الله العجيري وفي هذا المقال مراجعة للكتاب ومحتواه بقلم إبراهيم السكران

بقلم: إبراهيم السكران
1993
علمانية الحكم الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات العالمانية

علمانية الحكم الجزء الأول


امتدت العلمانية إلى كل مجالات الحياة تقريبا بداية من الحكم مرورا بالاقتصاد وصولا إلى الأخلاق والشعور بل وحتى عالم الفن والأدب والكتابة اجتاحته العلمانية كذلك وفي هذا المقال يفصل لنا الكاتب سفر الحوالي علمانية الحكم وبداياتها في القرون الوسطى في ظل تمتع الكنيسة بسلطاتها الكبيرة رغم ذلك كان الحكم علمانيا حتى لو كان ظاهريا تحت مظلة الكنيسة

بقلم: د سفر عبد الرحمن الحوالي
2095
ضرر الذنوب في القلب | مرابط
اقتباسات وقطوف

ضرر الذنوب في القلب


ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر ولا بد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب

بقلم: ابن القيم
285
العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

العلم


مقتطفات متفرقة عن أربعة من العلماء يظهر فيها قدر العلم عندهم وحقيقته التي قد يغفل عنها الكثير من الناس فليس العلم أبدا هو كثرة الرواية أو كثرة الحفظ ولا يكون العلم علما إلا إذا أثمر طاعة وانقيادا إلى الله عز وجل وهربا من الهوى والبدعة وأصحابهما

بقلم: مجموعة علماء
1527