دلالة الدقيق من الخلق على الله

دلالة الدقيق من الخلق على الله | مرابط

الكاتب: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

3010 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

دلالة الدقيق من الخلق على الله مقال من كتاب الحيوان للجاحظ

 

أوصيك أيها القارئ المتفهم، وأيها المستمع المنصت المصيخ، ألا تحقر شيئا أبدا لصغر جثته، ولا تستصغر قدره لقلة ثمن. ثم اعلم أن الجبل ليس بأدل على الله من الحصاة، ولا الفلك المشتمل على عالمنا هذا بأدل على الله من بدن الإنسان. وأن صغير ذلك ودقيقه كعظيمه وجليله.


ولم تفترق الأمور في حقائقها، وإنما افترق المفكرون فيها، ومن أهمل النظر، وأغفل مواضع الفرق، وفصول الحدود. فمن قبل ترك النظر، ومن قبل قطع النظر، ومن قبل النظر من غير وجه النظر، ومن قبل الإخلال ببعض المقدمات، ومن قبل ابتداء النظر من جهة النظر، واستتمام النظر مع انتظام المقدمات- اختلفوا.

 

فهذه الخصال هي جماع هذا الباب، إلا ما لم نذكره من باب العجز والنقص، فإن الذي امتنع من المعرفة من قبل النقصان الذي في الخلقة باب على حدة.


وإنما ذكرنا باب الخطأ والصواب، والتقصير والتكميل. فإياك أن تسيء الظن بشيء من الحيوان لاضطراب الخلق، ولتفاوت التركيب، ولأنه مشنوء في العين، أو لأنه قليل النفع والرد؛ فإن الذي تظن أنه أقلها نفعا لعله أن يكون أكثرها ردا، فإلا يكن ذلك من جهة عاجل أمر الدنيا، كان ذلك في آجل أمر الدين. وثواب الدين وعقابه باقيان، ومنافع الدنيا فانية زائلة؛ فلذلك قدمت الآخرة على الأولى.

 

فإذا رأيت شيئا من الحيوان بعيدا من المعاونة، وجاهلا بسبب المكانفة [1] ، أو كان مما يشتد ضرره، وتشتد الحراسة منه، كذوات الأنياب من الحيات والذئاب وذوات المخالب من الأسد والنمور، وذوات الإبر والشعر من العقارب والدبر، فاعلم أن مواقع منافعها من جهة الامتحان، والبلوى. ومن جهة ما أعد الله عز وجل للصابرين، ولمن فهم عنه، ولمن علم أن الاختيار والاختبار لا يكونان والدنيا كلها شر صرف أو خير محض؛ فإن ذلك لا يكون إلا بالمزواجة بين المكروه والمحبوب، والمؤلم والملذ، والمحقر والمعظم، والمأمون والمخوف.

 

فإذا كان الحظ الأوفر في الاختبار والاختيار. وبهما يتوسل إلى ولاية الله عز وجل، وآبد [2] كرامته، وكان ذلك إنما يكون في الدار الممزوجة من الخير والشر، والمشتركة والمركبة بالنفع والضر، المشوبة باليسر والعسر- فليعلم موضع النفع في خلق العقرب، ومكان الصنع في خلق الحية، فلا يحقرن الجرجس [3] والفراش والذر والذبان ولتقف حتى تتفكر في الباب الذي رميت إليك بجملته، فإنك ستكثر حمد الله عز وجل على خلق الهمج والحشرات وذوات السموم والأنياب، كما تحمده على خلق الأغذية من الماء والنسيم.


فإن أردت الزراية والتحقير، والعداوة والتصغير، فاصرف ذلك كله إلى الجن والإنس، واحقر منهم كل من عمل عملا من جهة الاختيار يستوجب به الاحتقار، ويستحق به غاية المقت من وجه، والتصغير من وجه.

 

فإن أنت أبغضت من جهة الطبيعة، واستثقلت من جهة الفطرة ضربين من الحيوان: ضربا يقتلك بسمه، وضربا يقتلك بشدة أسره [4] لم تلم. إلا أن عليك أن تعلم أن خالقهما لم يخلقهما لأذاك، وإنما خلقهما لتصبر على أذاهما، ولأن تنال بالصبر الدرجة التي يستحيل أن تنالها إلا بالصبر.

والصبر لا يكون إلا على حال مكروه. فسواء عليك أكان المكروه سبعا وثابا، أو كان مرضا قاتلا، وعلى أنك لا تدري لعل النزع [5] ، والعلز [6] والحشرجة، أن يكون أشد من لدغ حية، وضغمة [7] سبع. فإلا تكن له حرقة كحرق النار وألم كألم الدهق [8] ، فلعل هناك من الكرب ما يكون موقعه من النفس فوق ذلك.


وقد عمنا أن الناس يسمون الانتظار لوقع السيف على صليف [9] العنق جهد البلاء؛ وليس ذلك الجهد من شكل لذع النار، ولا من شكل ألم الضرب بالعصا.


فافهم فهمك الله مواقع النفع كما يعرفها أهل الحكمة وأصحاب الأحساس الصحيحة.

 

ولا تذهب في الأمور مذهب العامة، وقد جعلك الله تعالى من الخاصة، فإنك مسؤول عن هذه الفضيلة، لأنها لم تجعل لعبا، ولم تترك هملا. واصرف بغضك إلى مريد ظلمك، لا يراقب فيك إلا ولا ذمة، ولا مودة، ولا كتابا ولا سنة. وكلما زادك الله عز وجل نعمة ازداد عليك حنقا، ولك بغضا.

 

وفر كل الفرار واهرب كل الهرب، واحترس كل الاحتراس، ممن لا يراقب الله عز وجل؛ فإنه لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون لا يعرف ربه مع ظهور آياته ودلالاته، وسبوغ آلائه، وتتابع نعمائه، ومع برهانات رسله، وبيان كتبه؛ وإما أن يكون به عارفا وبدينه موقنا، وعليه مجترئا، وبحرماته مستخفا.

 

فإن كان بحقه جاهلا فهو بحقك أجهل، وله أنكر. وإن كان به عارفا وعليه مجترئا فهو عليك أجرأ، ولحقوقك أضيع ولأياديك أكفر.

 

فأما خلق البعوضة والنملة والفراشة والذرة والذبان والجعلان، واليعاسيب والجراد- فإياك أن تتهاون بشأن هذا الجند، وتستخف بالآلة التي في هذا الذرء [10] ؛ فربت أمة أجلاها عن بلادها النمل، ونقلها عن مساقط رؤوسها الذر، وأهلكت بالفأر، وجردت بالجراد، وعذبت بالبعوض، وأفسد عيشها الذبان، فهي جند إن أراد الله عز وجل أن يهلك بها قوما بعد طغيانهم وتجبرهم وعتوهم؛ ليعرفوا أو ليعرف بهم أن كثير أمرهم، لا يقوم بالقليل من أمر الله عز وجل.

 

وفيها بعد معتبر لمن اعتبر، وموعظة لمن فكر، وصلاج لمن استبصر، وبلوى ومحنة، وعذاب ونقمة، وحجة صادقة، وآية واضحة، وسبب إلى الصبر والفكرة. وهما جماع الخير في باب المعرفة والاستبانة، وفي باب الأجر وعظم المثوبة.

 


 

  1. المكانفة: المعاونة «القاموس: كنف».
  2. آبد: دائم «القاموس: أبد».
  3. الجرجس: البعوض الصغار «القاموس: جرجس».
  4. الأسر: الشد والعصب وشدة الخلق والخلق «القاموس: أسر».
  5. يقال: هو في النزع: أي قلع الحياة «القاموس: نزع».
  6. العلز: هلع يصيب المحتضر «القاموس: علز».
  7. الضغمة: العضة «القاموس: ضغم».
  8. الدهق: خشبتان يغمز بهما الساق «القاموس: دهق».
  9. صليف العنق: عرضه «القاموس: صلف».
  10. الذرء: النسل والخلق «القاموس: ذرأ».
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الجاحظ
اقرأ أيضا
هل أسقط ابن مسعود الفاتحة من مصحفه | مرابط
أباطيل وشبهات

هل أسقط ابن مسعود الفاتحة من مصحفه


قالوا: اختلف الصحابة في قرآنية أهم سور القرآن وهي سورة الفاتحة فلم يكتبها ابن مسعود من مصحفه كما نقل عنه ذلك التابعي ابن سيرين بقوله: إن أبي بن كعب وعثمان كانا يكتبان فاتحة الكتاب والمعوذتين ولم يكتب ابن مسعود شيئا منهن وبين يديكم الرد على هذه الشبهة

بقلم: د منقذ بن محمود السقار
2449
الأعمال تشفع لصاحبها | مرابط
مقالات

الأعمال تشفع لصاحبها


الأعمال تشفع لصاحبها عند الله وتذكر به إذا وقع في الشدائد قال تعالى عن ذي النون فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون وفرعون لما لم تكن له سابقة خير تشفع له وقال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل قال له جبريل آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.

بقلم: ابن القيم
493
ظلم المنقبات في البيئة المختلطة | مرابط
فكر مقالات المرأة

ظلم المنقبات في البيئة المختلطة


جلست مع بعض قريباتي وطلبت منهن المقارنة بين الدراسة والعمل في بيئة مختلطة وفي بيئة غير مختلطة كنت أستمع لهن وأغذي النقاش فقط بالأسئلة المفتوحة وكنت أدون بعض ما أسمع أعترف لكم أنني ومع كل قراءاتي حول هذا الموضوع فإنني وقفت أمام براهينهن وحججهن والتفاصيل الواقعية التي يذكرنها موقف الجاهل كنت كأنني صحفي يقرأ في المستصفى للغزالي كانت جلسة مبهرة سأعرض هاهنا بعض ماتعلمته منهن

بقلم: إبراهيم السكران
835
شبح الحروب الصليبية الجزء الأول | مرابط
تاريخ مقالات

شبح الحروب الصليبية الجزء الأول


إذا أردنا أن نقف على الأسباب الحقيقية للعداء البغيض الذي تحمله أوروبا ويحمله الغرب تجاه الإسلام علينا أن نرجع عدة خطوات إلى الخلف إلى الماضي الذي شكل معالم المدنية الأوروبية وتشربه الرجل الأبيض وتوارثه مع مرور الوقت سنقف هنا أمام الحروب الصليبية لندرك أثرها على الهوية الأوروبية فيما يخص الإسلام فكما يقول المؤلف: يمكننا أن نقول من غير أن نوغل في المبالغة أن أوروبة ولدت من روح الحروب الصليبية لقد كانت ثمة قبل ذلك الزمن أنكلو سكسون وجرمان وفرنسيون ونورمان وإيطاليون ودنماركيون وسلاف ولكن في أثن...

بقلم: محمد أسد
2172
مخرجاتك مدخلاتك | مرابط
مقالات

مخرجاتك مدخلاتك


من أوجه الشبه بين الإنسان والحاسوب أن كلا منهما له مدخلات ومخرجات وصندوق معالجة والقاعدة المهمة في كليهما أن المخرجات من جنس المدخلات فلن يعالج الحاسوب أي بيانات لم يتعرف عليها وبالتالي لن يعطيك أي مخرجات بلا مدخلات.. ومع الإنسان الأمر ذاته في ذاته!!

بقلم: د. جمال الباشا
374
السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج2 | مرابط
مناقشات

السلفية السائلة: مفهوم السلفية في مسارب ما بعد السلفية ج2


حين بدأت بمطالعة كتاب ما بعد السلفية كنت حريصا على أن تتخلق في نفسي انطباعاتي الذاتية عن الكتاب بعيدا عن ضغط تأثير انطباعات الآخرين خصوصا وأنا أعلم أن الكتاب سيكون كتابا جدليا بامتياز وسيحدث جدلا في المشهد الفكري والشرعي بشكل عام وفي الداخل السلفي بخاصة والذي ستتشكل فيه بؤر ممانعة ذاتية طبعية من النقد والمراجعة فبعض النفوس قد لا تحتمل النقد وبعضها قد تحتمله ولكن لا تحتمل أن يكون معلنا وأجدني -بحمد الله- كما أجد غيري ميالا إلى استيعاب الممارسة النقدية واسع الصدر لها بل داعيا ومرحبا بها كونها...

بقلم: عبد الله العجيري
1378