دلالة الدقيق من الخلق على الله

دلالة الدقيق من الخلق على الله | مرابط

الكاتب: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

2894 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

دلالة الدقيق من الخلق على الله مقال من كتاب الحيوان للجاحظ

 

أوصيك أيها القارئ المتفهم، وأيها المستمع المنصت المصيخ، ألا تحقر شيئا أبدا لصغر جثته، ولا تستصغر قدره لقلة ثمن. ثم اعلم أن الجبل ليس بأدل على الله من الحصاة، ولا الفلك المشتمل على عالمنا هذا بأدل على الله من بدن الإنسان. وأن صغير ذلك ودقيقه كعظيمه وجليله.


ولم تفترق الأمور في حقائقها، وإنما افترق المفكرون فيها، ومن أهمل النظر، وأغفل مواضع الفرق، وفصول الحدود. فمن قبل ترك النظر، ومن قبل قطع النظر، ومن قبل النظر من غير وجه النظر، ومن قبل الإخلال ببعض المقدمات، ومن قبل ابتداء النظر من جهة النظر، واستتمام النظر مع انتظام المقدمات- اختلفوا.

 

فهذه الخصال هي جماع هذا الباب، إلا ما لم نذكره من باب العجز والنقص، فإن الذي امتنع من المعرفة من قبل النقصان الذي في الخلقة باب على حدة.


وإنما ذكرنا باب الخطأ والصواب، والتقصير والتكميل. فإياك أن تسيء الظن بشيء من الحيوان لاضطراب الخلق، ولتفاوت التركيب، ولأنه مشنوء في العين، أو لأنه قليل النفع والرد؛ فإن الذي تظن أنه أقلها نفعا لعله أن يكون أكثرها ردا، فإلا يكن ذلك من جهة عاجل أمر الدنيا، كان ذلك في آجل أمر الدين. وثواب الدين وعقابه باقيان، ومنافع الدنيا فانية زائلة؛ فلذلك قدمت الآخرة على الأولى.

 

فإذا رأيت شيئا من الحيوان بعيدا من المعاونة، وجاهلا بسبب المكانفة [1] ، أو كان مما يشتد ضرره، وتشتد الحراسة منه، كذوات الأنياب من الحيات والذئاب وذوات المخالب من الأسد والنمور، وذوات الإبر والشعر من العقارب والدبر، فاعلم أن مواقع منافعها من جهة الامتحان، والبلوى. ومن جهة ما أعد الله عز وجل للصابرين، ولمن فهم عنه، ولمن علم أن الاختيار والاختبار لا يكونان والدنيا كلها شر صرف أو خير محض؛ فإن ذلك لا يكون إلا بالمزواجة بين المكروه والمحبوب، والمؤلم والملذ، والمحقر والمعظم، والمأمون والمخوف.

 

فإذا كان الحظ الأوفر في الاختبار والاختيار. وبهما يتوسل إلى ولاية الله عز وجل، وآبد [2] كرامته، وكان ذلك إنما يكون في الدار الممزوجة من الخير والشر، والمشتركة والمركبة بالنفع والضر، المشوبة باليسر والعسر- فليعلم موضع النفع في خلق العقرب، ومكان الصنع في خلق الحية، فلا يحقرن الجرجس [3] والفراش والذر والذبان ولتقف حتى تتفكر في الباب الذي رميت إليك بجملته، فإنك ستكثر حمد الله عز وجل على خلق الهمج والحشرات وذوات السموم والأنياب، كما تحمده على خلق الأغذية من الماء والنسيم.


فإن أردت الزراية والتحقير، والعداوة والتصغير، فاصرف ذلك كله إلى الجن والإنس، واحقر منهم كل من عمل عملا من جهة الاختيار يستوجب به الاحتقار، ويستحق به غاية المقت من وجه، والتصغير من وجه.

 

فإن أنت أبغضت من جهة الطبيعة، واستثقلت من جهة الفطرة ضربين من الحيوان: ضربا يقتلك بسمه، وضربا يقتلك بشدة أسره [4] لم تلم. إلا أن عليك أن تعلم أن خالقهما لم يخلقهما لأذاك، وإنما خلقهما لتصبر على أذاهما، ولأن تنال بالصبر الدرجة التي يستحيل أن تنالها إلا بالصبر.

والصبر لا يكون إلا على حال مكروه. فسواء عليك أكان المكروه سبعا وثابا، أو كان مرضا قاتلا، وعلى أنك لا تدري لعل النزع [5] ، والعلز [6] والحشرجة، أن يكون أشد من لدغ حية، وضغمة [7] سبع. فإلا تكن له حرقة كحرق النار وألم كألم الدهق [8] ، فلعل هناك من الكرب ما يكون موقعه من النفس فوق ذلك.


وقد عمنا أن الناس يسمون الانتظار لوقع السيف على صليف [9] العنق جهد البلاء؛ وليس ذلك الجهد من شكل لذع النار، ولا من شكل ألم الضرب بالعصا.


فافهم فهمك الله مواقع النفع كما يعرفها أهل الحكمة وأصحاب الأحساس الصحيحة.

 

ولا تذهب في الأمور مذهب العامة، وقد جعلك الله تعالى من الخاصة، فإنك مسؤول عن هذه الفضيلة، لأنها لم تجعل لعبا، ولم تترك هملا. واصرف بغضك إلى مريد ظلمك، لا يراقب فيك إلا ولا ذمة، ولا مودة، ولا كتابا ولا سنة. وكلما زادك الله عز وجل نعمة ازداد عليك حنقا، ولك بغضا.

 

وفر كل الفرار واهرب كل الهرب، واحترس كل الاحتراس، ممن لا يراقب الله عز وجل؛ فإنه لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون لا يعرف ربه مع ظهور آياته ودلالاته، وسبوغ آلائه، وتتابع نعمائه، ومع برهانات رسله، وبيان كتبه؛ وإما أن يكون به عارفا وبدينه موقنا، وعليه مجترئا، وبحرماته مستخفا.

 

فإن كان بحقه جاهلا فهو بحقك أجهل، وله أنكر. وإن كان به عارفا وعليه مجترئا فهو عليك أجرأ، ولحقوقك أضيع ولأياديك أكفر.

 

فأما خلق البعوضة والنملة والفراشة والذرة والذبان والجعلان، واليعاسيب والجراد- فإياك أن تتهاون بشأن هذا الجند، وتستخف بالآلة التي في هذا الذرء [10] ؛ فربت أمة أجلاها عن بلادها النمل، ونقلها عن مساقط رؤوسها الذر، وأهلكت بالفأر، وجردت بالجراد، وعذبت بالبعوض، وأفسد عيشها الذبان، فهي جند إن أراد الله عز وجل أن يهلك بها قوما بعد طغيانهم وتجبرهم وعتوهم؛ ليعرفوا أو ليعرف بهم أن كثير أمرهم، لا يقوم بالقليل من أمر الله عز وجل.

 

وفيها بعد معتبر لمن اعتبر، وموعظة لمن فكر، وصلاج لمن استبصر، وبلوى ومحنة، وعذاب ونقمة، وحجة صادقة، وآية واضحة، وسبب إلى الصبر والفكرة. وهما جماع الخير في باب المعرفة والاستبانة، وفي باب الأجر وعظم المثوبة.

 


 

  1. المكانفة: المعاونة «القاموس: كنف».
  2. آبد: دائم «القاموس: أبد».
  3. الجرجس: البعوض الصغار «القاموس: جرجس».
  4. الأسر: الشد والعصب وشدة الخلق والخلق «القاموس: أسر».
  5. يقال: هو في النزع: أي قلع الحياة «القاموس: نزع».
  6. العلز: هلع يصيب المحتضر «القاموس: علز».
  7. الضغمة: العضة «القاموس: ضغم».
  8. الدهق: خشبتان يغمز بهما الساق «القاموس: دهق».
  9. صليف العنق: عرضه «القاموس: صلف».
  10. الذرء: النسل والخلق «القاموس: ذرأ».
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الجاحظ
اقرأ أيضا
مخالفة المرجئة لأهل السنة والجماعة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر تفريغات

مخالفة المرجئة لأهل السنة والجماعة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص


أجمع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان درجات وشعب يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وأن المؤمنين يتفاوتون بحسب علمهم وعملهم وان بعضهم أكمل إيمانا من بعض وليس إيمان جبريل وأبي بكر وعمر كإيمان آحاد الناس وهذا خلاف عقيدة المرجئة وهو ما يوضحه الكاتب في المقال

بقلم: محمد صالح المنجد
1122
الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج3 | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

الأصول الكلية التي يقوم عليها الإيمان بوجود الله وكماله ج3


ليس المراد بالأصول في هذا السياق الأدلة العقلية التي يستند إليها المؤمنون في إثبات وجود الله وكماله وإنما المراد بها المعاني الكلية التي يتأسس من مجموعها الإيمان الصحيح السالم من النقص والعيب في التصديق بأن الله موجود وأنه الخالق للكون المدبر له والمتصرف في شؤونه والمتصف بصفات الكمال والجلال

بقلم: د سلطان العميري
1996
الإنسان الغربي.. وحالة فقدان المعنى واليقين | مرابط
اقتباسات وقطوف

الإنسان الغربي.. وحالة فقدان المعنى واليقين


المجتمعات الغربية مجتمعات فقدت المعنى ومن قبل فقدت الميتافيزيقا وأي يقين معرفي فسقف الإنسان هو السقف المادي. والهدف من العالم المادي هو الاستهلاك ومزيد الاستهلاك ومن الواضح أن الاستهلاك لا يصلح أن يكون هدفا في الحياة الإنسانية لأن الإنسان كائن مركب نبيل يحتاج إلى شيء آخر غير هذا السقف المادي

بقلم: عبد الوهاب المسيري
310
استشرفها الشيطان | مرابط
المرأة

استشرفها الشيطان


ربط المؤلف -مؤلف كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة- بين عورة المرأة -كما فهمها هو- واستشراف الشيطان وجعل الاستشراف مبنيا على كشف المرأة لعورتها أو التقصير في سترها في حين أن الحديث صريح في أن الاستشراف مربوط بخروج المرأة من غير التعرض لقضية التبرج والتقصير في ستر العورة وهذا ما فهمه العلماء من الحديث.

بقلم: د. عادل بن حسن الحمد
447
ابن تيمية والعقل | مرابط
اقتباسات وقطوف

ابن تيمية والعقل


ينظر كثير من الناس إلى كتاب درء تعارض العقل والنقل على أنه كتاب عقيدة للرد على الرازي والأشاعرة فقط والصحيح أنه -بالإضافة إلى ذلك- كتاب في المنهج منهج تلقي النصوص وتفسيرها وفهمها ومنهج للفهم العقلي بشكل عام فأساس الخلل الذي لحق بكثير من علماء الإسلام هو تخليهم عن المنهج الذي كان يسير عليه علماء الإسلام منذ الصحابة في فهم النصوص وقصدت فيه الرد على أهل الكلام بعامة والرازي بخاصة في قانونهم الذي أسموه القانون الكلي في التأويل

بقلم: د راشد العبد الكريم
456
العلمانيون ووهم الاستقلال الفكري | مرابط
العالمانية

العلمانيون ووهم الاستقلال الفكري


من المفارقات العجيبة أن أصحاب الفكر العلماني مع دعواهم الاستقلال الفكري ودعوتهم إلى التحرر من سلطة أي مرجعية إلا أنهم في حقيقة حالهم إنما يبنون مقولاتهم ومشاريعهم على مسلمات ليس لهم فيها جهد مستقل بل هم فيها مقلدون ومجرد صدى لما يطرح من مقولات وتحولات واتجاهات في الفكر الغربي فهم في حقيقة الأمر إنما تركوا مرجعية إلى مرجعية وانتقلوا من القطيعة مع التراث الإسلامي إلى الاستمداد من الفكر الغربي.

بقلم: عبد الله القرني
347