دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الثاني

دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2687 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

الوجه الثاني من وجود دلالة القرآن على أن السنة وحي:

 

تكفل الله ببيان القرآن، وإخباره عن رسوله بأنه يبين للناس ما نُزل إليهم.
 
المقصود بهذا الوجه: الإثبات بأن للقرآن بيانًا تكفل الله به، وأنه جعل هذا البيان على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه من عنده سبحانه، خاصة وأن من هذا البيان الثابت عن رسوله ما لا يحتمل أن يكون محل اجتهادٍ منه، كتحديد عدد الصلوات وركعاتها ومواقيتها.
 
و تكفُّل الله ببيان القرآن جاء بقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:١٧-١٩]

 

قال ابن كثير:

 

"ثم إن علينا بيانه”: أي بعد حفظه وتلاوته نبيِّنُه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا.

 

وإخبارُه بأن رسوله مبين للقرآن جاء بقوله:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

 

قال القرطبي:

 

“لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ” في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك; فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة, وغير ذلك مما لم يفصله.

 

وسأكتفي هنا بهذا العرض المجمَل، لاشتراك هذا الوجه مع ما سيأتي في الطريق الثالث من طريق دلالة القرآن على حجية السنة، وسأفصل في ذلك الموضع -إن شاء الله تعالى.

 

الوجه الثالث من وجوه دلالة القرآن على أن السنة وحي:

 

الآيات الدالة على نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في مقامات معينة بأحكام وأخبار ليست مذكورة في نص القرآن. 

 

والاستدلال بهذه الآيات على درجتين:
الأولى: عدم انحصار الوحي في القرآن -وهذا مهم في الرد على المنكرين-.
الثانية: أن من سنة النبيصلى الله عليه وسلم ما هو وحي.

 

وسأكتفي بذكر أربعة مواضع من القرآن تدل على ذلك:

 

الموضع الأول: دلالة آيات الإخبار بنزول الملائكة في بدر:

 

جاء في سورة آل عمران أن النبي وعد صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن الله سيُمدّهم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنزَلين، وذلك يوم بَدْر فقال:{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ}
 
ولا شك أن هذا الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لا يكون إلا بوحي، لأنه لا محل فيه للاجتهاد والتخمين، والإيحاء بهذا الخبر ليس مذكورًا في القرآن؛ وإنما هو مما أوحاه الله إلى النبي خارج النص القرآني.

 

قال الطاهر بن عاشور:

 

والمعنى: إذ تعِد المؤمنين بإمداد الله بالملائكة، فما كان قول النَّبي صلى الله عليه وسلم لهم تلك المقالة إلاّ بوعد أوحاه الله إليه أن يقوله.

 

الموضع الثاني: دلالة آيات تحويل القبلة:

 

من المعلوم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتوجه أولَ الإسلام في صلاته إلى الشام، حتى بعد هجرته إلى المدينة، مع تطلعه إلى أن تكون الكعبةُ قبلتَه، وما كان يمنعه من التحول إلى القبلة التي يتطلع إليها إلا أنه مأمور من الله بخلاف ذلك، حتى نزل عليه قول الله سبحانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة : ١٤٤]. والقبلة التي يرضاها هي الكعبة كما هو معلوم؛ فإن تتمة الآية {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والسؤال المتوجه هنا هو: أين الأمر الإلهيُّ له باستقبال القبلة السابقة للكعبة؟
 
ومن المعلوم أن هذا الأمر ليس مذكورًا في القرآن، فيكون هذا دليلًا على أن نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ليس منحصرًا في النص القرآني، والله أعلم.

 

وقد جرى لي موقف طريف مع أحد منكري السنة إنكارًا كلّيًا في دلالة هذه الآيات على المعنى المذكور، فحين سألته أين الأمر الأول باستقبال الشام فوجئتُ به يقول:
إن القبلة لم تتحول أصلًا، وإنما هذا قول السفهاء! يعني قول الله سبحانه {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا}[البقرة:١٤٢]
 
فقلت له: إن السفهاء لم يدّعوا تحوّل القبلة ابتداء وإنما كان سؤالهم وتشغيبهم في سبب التحول، فقالوا {مَا وَلاَّهُمْ} أي لأيّ شيء تولّوا وتحولوا؟ وهذا ظاهر جدًا، وبعد منازعة طويلة منه في ذلك، انتقل إلى المطالبة بأمر فرعي ليس متعلقًا بأصل الاستدلال، وهو الإثبات بأن القبلة كانت إلى الشام، فقلتُ له: ليس الشأن في أنها كانت إلى الشام أو إلى اليمن، وإنما الشأن في أنها كانت إلى غير الكعبة، وفي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان راغبًا في أن تكون إليها، ولم يمتنع من تحقيق رغبته إلا لأنه مأمور بخلافها، حتى نزل عليه قول الله (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فالسؤال متوجه إلى البحث عن الأمر الإلهي الأول باستقبال جهة لم تكن الكعبة أصالةً، وليس متوجهًا إلى تحديد تلك الجهة عينًا!
فلم يزد على تكرار سؤاله هاربًا من مأخذ الاستدلال الحقيقي، ولم يكن ذلك غريبًا لمن عرف حال القوم وما سلبهم الله من الفهم الصحيح.

 

الموضع الثالث: دلالة آيات سورة التحريم: 

 

قال الله تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التحريم: ٣]
وموضع الشاهد من الآية، قوله سبحانه: (وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) وقوله: (قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)
ومن المعلوم أن إنباء الله نبيه -بالوحي- بما نبّأت به زوجته ليس مذكورًا في نص القرآن، فدلّ ذلك على دلّت عليه الأمثلة السابقة من أنّ الوحي النازل على رسول الله أوسع مما حُفِظ بين الدفتين.

 

الموضع الرابع: دلالة فتح مكة مع آيات تحريمها:

 

من المعلوم أن الله سبحانه قد حرّم مكة، وجعلها آمنة، وسماها: المسجد الحرام، وذكر هذا في كتابه العزيز في مواضع كثيرة، منها قوله:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل ٩١]، ثم نجد أنه قد تواتر في نقل العامة والخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصر مكة بجيشه وسلاحه بعد أن نقض المشركون العهد معه، ثم فتحها ودخلها، وقد تواتر عنه أنه قام يوم فتحها في الناس قائلًا: (إن الله قد أحلّها لي ساعة من نهار) ثم نجد أن الله في كتابه أثنى على هذا الفتح بقوله (إذا جاء نصر الله والفتح) [النصر: ١].
 
والسؤال: أين ورد الإذن من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بفتح مكة بالسلاح بعد أن نصّ سبحانه على تحريمها في القرآن؟
والجواب: أن ذلك ليس مذكورًا في نص القرآن، بل المذكور الثناء على الفتح بعد أن وقع وتمّ، فالإذن بذلك-إذًا- مما أوحى الله لنبيه، والوحي أعم من أن يكون منحصرا فيما نزل من القرآن فقط.

 


 

المصدر:

  1. أحمد بن يوسف السيد، تثبيت حجية السنة ونقض أصول المنكرين، ص24
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#حجية-السنة
اقرأ أيضا
مشروعية الرخصة | مرابط
اقتباسات وقطوف

مشروعية الرخصة


مقتطف للإمام الشاطبي يتحدث فيه عن مشروعية الرخصة حيث أراد الله جل وعلا أن يخفف على المكلفين ويرفق بهم فالأخذ بالرخصة إذن موافق لقصده وعلى الجانب الآخر من يرفض الأخذ مطلقا بالرخصة واقع فيما نهى عنه القرآن وما نهى عنه الرسول وهذا ما يقف عليه الشاطبي في هذا المقتطف

بقلم: الشاطبي
1412
حقيقة التخاطر | مرابط
أباطيل وشبهات

حقيقة التخاطر


عقيدة التخاطر تقوم على فكرة وحدة الوجود وغيرها من العقائد الفاسدة للديانات القديمة وادعاء لإمكانية معرفة الغيب الذي هو ركن من أركان الدين وحاول بعضهم أسلمة هذه العقيدة بنصوص لا تدل على ذلك

بقلم: قاسم اكحيلات
314
ارتباط أعمال القلوب وأعمال الجوارح | مرابط
اقتباسات وقطوف

ارتباط أعمال القلوب وأعمال الجوارح


ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان فمركب الإيمان القلب ومركب الإسلام الجوارح فهذه كلمات مختصرة في...

بقلم: ابن القيم
763
الحلوى القاتلة: الإعلام الترفيهي والانحرافات الفكرية | مرابط
فكر الإلحاد ثقافة

الحلوى القاتلة: الإعلام الترفيهي والانحرافات الفكرية


الإعلام الترفيهي سلاح فكري ذو أثر شديد في نفوس المتلقين وفاعلية هذا الأثر تنجم من كونه يأتي من غير مظنته فليس هذا النوع من الإعلام مقصودا لمتطلب الأفكار الموافقة أو المخالفة ولم يكن حتى عهد قريب سوى آلة قتل للوقت وإلهاء عن الواقع وملء للفراغ ومن ثم تعود المتلقي أن يفتح حصونه أمامه مطمئنا لكونه يروح عن نفسه بما لا يستحق منه كثير تأمل ونظر وبما لا يتحد أفكاره ومسلماته فيفتح طواعية نوافذ لاوعيه لسيل دفاق من المؤثرات السمعية والبصرية

بقلم: ماهر أمير
720
كيف تقرأ كتابا ج4 | مرابط
تفريغات

كيف تقرأ كتابا ج4


أحد الشباب كان في المذاكرة أيام الجامعة يذاكر وكان الكتاب ضخما فيه ما هب ودب فكان يستخدم الألوان اللون الأصفر للأشياء المهمة جدا قانون يجب حفظه الشيء الأزرق أقل أهمية الشيء الأحمر أقل شيء ويترك الباقي بياضا أو يرقمه فيجعل للشيء المهم جدا رقم واحد وللمتوسط رقم اثنين وما يمكن تأجيله في المذاكرة رقم ثلاثة فإذا وجد وقتا قرأه وإلا تركه

بقلم: محمد صالح المنجد
562
مسالك النقد التيمي للمذهب الأشعري | مرابط
مناظرات مناقشات

مسالك النقد التيمي للمذهب الأشعري


يعد ابن تيمية من أشهر العلماء الذين قاموا بنقد المذهب الأشعري ومن أكثرهم توغلا في تتيع تفاصيله بالنقض والاعتراض. وقد سلك في نقده للمذهب الأشعري عددا من المسالك المنهجية هي أشبه بالمداخل العلمية الكبرى التي يجب أن تحاكم إليها كل المذاهب العقدية.

بقلم: د. سلطان العميري
672