دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الثاني

دلالة القرآن على أن السنة وحي الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2549 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الوجه الثاني من وجود دلالة القرآن على أن السنة وحي:

 

تكفل الله ببيان القرآن، وإخباره عن رسوله بأنه يبين للناس ما نُزل إليهم.
 
المقصود بهذا الوجه: الإثبات بأن للقرآن بيانًا تكفل الله به، وأنه جعل هذا البيان على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه من عنده سبحانه، خاصة وأن من هذا البيان الثابت عن رسوله ما لا يحتمل أن يكون محل اجتهادٍ منه، كتحديد عدد الصلوات وركعاتها ومواقيتها.
 
و تكفُّل الله ببيان القرآن جاء بقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:١٧-١٩]

 

قال ابن كثير:

 

"ثم إن علينا بيانه”: أي بعد حفظه وتلاوته نبيِّنُه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا.

 

وإخبارُه بأن رسوله مبين للقرآن جاء بقوله:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

 

قال القرطبي:

 

“لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ” في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك; فالرسول صلى الله عليه وسلم مبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة, وغير ذلك مما لم يفصله.

 

وسأكتفي هنا بهذا العرض المجمَل، لاشتراك هذا الوجه مع ما سيأتي في الطريق الثالث من طريق دلالة القرآن على حجية السنة، وسأفصل في ذلك الموضع -إن شاء الله تعالى.

 

الوجه الثالث من وجوه دلالة القرآن على أن السنة وحي:

 

الآيات الدالة على نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في مقامات معينة بأحكام وأخبار ليست مذكورة في نص القرآن. 

 

والاستدلال بهذه الآيات على درجتين:
الأولى: عدم انحصار الوحي في القرآن -وهذا مهم في الرد على المنكرين-.
الثانية: أن من سنة النبيصلى الله عليه وسلم ما هو وحي.

 

وسأكتفي بذكر أربعة مواضع من القرآن تدل على ذلك:

 

الموضع الأول: دلالة آيات الإخبار بنزول الملائكة في بدر:

 

جاء في سورة آل عمران أن النبي وعد صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن الله سيُمدّهم بثلاثة آلاف من الملائكة مُنزَلين، وذلك يوم بَدْر فقال:{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ}
 
ولا شك أن هذا الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لا يكون إلا بوحي، لأنه لا محل فيه للاجتهاد والتخمين، والإيحاء بهذا الخبر ليس مذكورًا في القرآن؛ وإنما هو مما أوحاه الله إلى النبي خارج النص القرآني.

 

قال الطاهر بن عاشور:

 

والمعنى: إذ تعِد المؤمنين بإمداد الله بالملائكة، فما كان قول النَّبي صلى الله عليه وسلم لهم تلك المقالة إلاّ بوعد أوحاه الله إليه أن يقوله.

 

الموضع الثاني: دلالة آيات تحويل القبلة:

 

من المعلوم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتوجه أولَ الإسلام في صلاته إلى الشام، حتى بعد هجرته إلى المدينة، مع تطلعه إلى أن تكون الكعبةُ قبلتَه، وما كان يمنعه من التحول إلى القبلة التي يتطلع إليها إلا أنه مأمور من الله بخلاف ذلك، حتى نزل عليه قول الله سبحانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة : ١٤٤]. والقبلة التي يرضاها هي الكعبة كما هو معلوم؛ فإن تتمة الآية {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والسؤال المتوجه هنا هو: أين الأمر الإلهيُّ له باستقبال القبلة السابقة للكعبة؟
 
ومن المعلوم أن هذا الأمر ليس مذكورًا في القرآن، فيكون هذا دليلًا على أن نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ليس منحصرًا في النص القرآني، والله أعلم.

 

وقد جرى لي موقف طريف مع أحد منكري السنة إنكارًا كلّيًا في دلالة هذه الآيات على المعنى المذكور، فحين سألته أين الأمر الأول باستقبال الشام فوجئتُ به يقول:
إن القبلة لم تتحول أصلًا، وإنما هذا قول السفهاء! يعني قول الله سبحانه {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا}[البقرة:١٤٢]
 
فقلت له: إن السفهاء لم يدّعوا تحوّل القبلة ابتداء وإنما كان سؤالهم وتشغيبهم في سبب التحول، فقالوا {مَا وَلاَّهُمْ} أي لأيّ شيء تولّوا وتحولوا؟ وهذا ظاهر جدًا، وبعد منازعة طويلة منه في ذلك، انتقل إلى المطالبة بأمر فرعي ليس متعلقًا بأصل الاستدلال، وهو الإثبات بأن القبلة كانت إلى الشام، فقلتُ له: ليس الشأن في أنها كانت إلى الشام أو إلى اليمن، وإنما الشأن في أنها كانت إلى غير الكعبة، وفي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان راغبًا في أن تكون إليها، ولم يمتنع من تحقيق رغبته إلا لأنه مأمور بخلافها، حتى نزل عليه قول الله (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فالسؤال متوجه إلى البحث عن الأمر الإلهي الأول باستقبال جهة لم تكن الكعبة أصالةً، وليس متوجهًا إلى تحديد تلك الجهة عينًا!
فلم يزد على تكرار سؤاله هاربًا من مأخذ الاستدلال الحقيقي، ولم يكن ذلك غريبًا لمن عرف حال القوم وما سلبهم الله من الفهم الصحيح.

 

الموضع الثالث: دلالة آيات سورة التحريم: 

 

قال الله تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التحريم: ٣]
وموضع الشاهد من الآية، قوله سبحانه: (وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) وقوله: (قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)
ومن المعلوم أن إنباء الله نبيه -بالوحي- بما نبّأت به زوجته ليس مذكورًا في نص القرآن، فدلّ ذلك على دلّت عليه الأمثلة السابقة من أنّ الوحي النازل على رسول الله أوسع مما حُفِظ بين الدفتين.

 

الموضع الرابع: دلالة فتح مكة مع آيات تحريمها:

 

من المعلوم أن الله سبحانه قد حرّم مكة، وجعلها آمنة، وسماها: المسجد الحرام، وذكر هذا في كتابه العزيز في مواضع كثيرة، منها قوله:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل ٩١]، ثم نجد أنه قد تواتر في نقل العامة والخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصر مكة بجيشه وسلاحه بعد أن نقض المشركون العهد معه، ثم فتحها ودخلها، وقد تواتر عنه أنه قام يوم فتحها في الناس قائلًا: (إن الله قد أحلّها لي ساعة من نهار) ثم نجد أن الله في كتابه أثنى على هذا الفتح بقوله (إذا جاء نصر الله والفتح) [النصر: ١].
 
والسؤال: أين ورد الإذن من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بفتح مكة بالسلاح بعد أن نصّ سبحانه على تحريمها في القرآن؟
والجواب: أن ذلك ليس مذكورًا في نص القرآن، بل المذكور الثناء على الفتح بعد أن وقع وتمّ، فالإذن بذلك-إذًا- مما أوحى الله لنبيه، والوحي أعم من أن يكون منحصرا فيما نزل من القرآن فقط.

 


 

المصدر:

  1. أحمد بن يوسف السيد، تثبيت حجية السنة ونقض أصول المنكرين، ص24
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#حجية-السنة
اقرأ أيضا
الاستعداد النفسي للانحراف: لماذا يتأثر بعض الناس بمحمد شحرور | مرابط
فكر مقالات

الاستعداد النفسي للانحراف: لماذا يتأثر بعض الناس بمحمد شحرور


ما سبب تأثر بعض الناس بمثل محمد شحرور مع ما يقدم من مناقضة صريحة لأصول الإسلام وقراءة عبثية لنصوص الشريعة وأحكامها لو طلب مني أن أحدد أهم سبب في ذلك فسأقول: هو الاستعداد النفسي للانحراف هو القابلية للانحراف لدى بعض الناس فعندهم استعداد نفسي ومقتض ذاتي فلو لم يتأثر بشحرور فسيتأثر بشخص آخر وفي هذا المقال يقف الكاتب على أهم عوامل الاستعداد النفسي للانحراف ومآلاتها

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1882
غموض النصوص الفلسفية | مرابط
اقتباسات وقطوف

غموض النصوص الفلسفية


إن الجملة اللغوية البسيطة فيها مسند ومسند إليه أو تصور وتصديق أو موضوع ومحمول أو موضوع وحكم أو محکوم عليه و محکوم به ونحوها وهي اصطلاحات متقاربة فالمراد أنك تجد في الجملة البسيطة كلمة تقدم تصورا عن موضوع ما وكلمة أخرى تقدم حكما تسنده إلى هذا الموضوع

بقلم: إبراهيم السكران
740
هل يخشى المسلمون الموت | مرابط
اقتباسات وقطوف

هل يخشى المسلمون الموت


مقتطفات من كتاب وطن الراشدين للكاتب عمرو عبد العزيز وهو من أهم مؤلفات الكاتب ويقدم فيه كما ذكر تصورا مبدأيا عن كليات عدة قضايا معاصرة يتوجب على كل مسلم تكوين تصور عنها مع التزام بإعادة ضبط النغمة السياسية والمجتمعية والمفاهيمية إلى الحالة الأولى لدولة الخلفاء الراشدين العظمى

بقلم: عمرو عبد العزيز
2129
عقيدة شاملة الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات

عقيدة شاملة الجزء الأول


تمتاز العقيدة الإسلامية بالشمول لكافة مناحي الحياة وكافة جوانب الإنسان وقد يقال أن إثبات هذه الشمولية يحتاج إلى بحث وتدقيق وتمحيص ولكننا نقول أن مجرد النظر إلى جنبات هذه العقيدة والشريعة يكفي للعيان وفي هذا المقال بجزئيه يكشف لنا الكاتب عباس محمود العقاد عن شمولية هذه العقيدة الساطعة

بقلم: عباس محمود العقاد
1974
الأسس الفكرية لليبرالية: الفردية ج2 | مرابط
فكر مقالات الليبرالية

الأسس الفكرية لليبرالية: الفردية ج2


الفردية هي السمة الأساسية الأولى لعصر النهضة وهي من أهم أسس وأعمدة الليبرالية وقد ارتبطت الحرية بالفردية ارتباطا وثيقا فأصبحت الفردية تعني استقلال الفرد وحريته ولكن الفردية نفسها لها أكثر من مفهوم مثل المفهوم البراجماتي والمفهوم التقليدي وفي هذا المقال يستعرض لنا المؤلف المفهومين وكلام رواد الليبرالية حولهما

بقلم: د عبد الرحيم بن صمايل السلمي
2168
شدة نفور الصحابة رضوان الله عليهم من البدع | مرابط
تفريغات

شدة نفور الصحابة رضوان الله عليهم من البدع


فقد كان إحساس الصحابة بالبدعة ونفورهم منها فوق كل تصور وعندما نعرض بعض النماذج المبتدعة في زمن الصحابة نحن الآن نراها من المستحبات وكانت عندهم من البدع لأن الأمر كما قالت عائشة رضي الله عنها: يا ويح لبيد كيف قال: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب فالذي عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى هذا النور وعاش بعده الزمان الغدر يكون من أشد الناس غربة لذلك فمحنة الصحابة في المعارك التي حدثت بينهم كانت شديدة كان الواحد منهم مع أخيه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم إخوة متحابين لا مشاكل...

بقلم: أبو إسحق الحويني
820