كان محمد علي شخصًا سيئ السمعة.. معروفًا بالقسوة وغلظ الكبد.. ترسله الدولة العثمانية لتأديب القرى التي تتأخر في دفع ما يُفرض عليها من المال، فيعسكر هو وأفراد حملته التأديبية حول القرية ينهبون ويسلبون ويفزعون الآمنين، حتى يرى أهل القرية أن الأفضل لهم أن يدفعوا الأموال المطلوبة -وإن أبهظتهم- خيرًا من الذل والفزع الذي يعانونه من محمد علي وأفراد حملته!
وكان محبًا للعظمة إلى حد الجنون.. صفات كلها صالحة! .. وليس بين يدي الآن ما يقطع بأن فرنسا هي التي تدخلت لدى السلطان لإرساله واليًا على مصر.. وإن كانت الظروف تشير إلى ذلك
ولكنه جاء على أي حال.. واليا من قبل الدولة العثمانية على مصر.. عام 1805 من الميلاد، أي بعد مغادرة الحملة الفرنسية بثلاث أعوام، كانت مصر في أثنائها قد عادت إلى حكم المماليك مع الولاء للسلطان.
احتضان فرنسا لمحمد علي
واحتضنته فرنسا احتضانا كاملًا لينفذ لها كل مخخطاتها!
أنشأت له جيشًا مدربا على أحدث الأساليب ومجهزًا بأحدث الأسلحة المتاحة يومئذ بإشراف سليمان باشا الفرنساوي! وأنشأت له أسطولا بحريا على أحدث طراز يومذاك، وأنشأت له ترسانة بحرية في دمياط، وأنشأت له القناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر..
هل كان هذا كله حبا في شخص محمد علي؟ أو حبا في مصر؟ .. إنما كان لتنفيذ المخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها إلى الرحيل.
لقد قام محمد علي بدور خطير في نقل مصر من المرتكز الإسلامي إلى شيء آخر يؤدي بها في النهاية إلى الخروج من الحيز الإسلامي.. سواء كان واعيًا تماما لهذا الدور، أو مستَغلا من قبل الصليبية لتنفيذه. والذي يغلب على حسنا -على ضوء التجربتين الأخيرتين، تجربة كمال أتاتورك وجمال عبد الناصر- أنه كان واعيا للدور وضالعا فيه.
ولكن يستوي أن يكون ضالغًا بوعي أو مستغلا مستغفلا.. فهو في الحالين يؤدي ذات الدور، ويؤدي الدور إلى ذات النتائج بصرف النظر عن النوايا الداخلية للمنفذين. ولكن يبقى شيء مؤكد في جميع الأحوال.. أن "المسلم" الحق لا يمكن بحال أن يقوم بمثل هذا الدور لا واعيًا ولا مستغفلًا، ﻷن إسلامه يمنعه أن يتلقى التوجيه من أعداء الإسلام
لكي نفهم حقيقة الدور الذي قام به محمد علي في خدمة أعداء الإسلام، ينبغي أن نفهم ماذا كان يريد الأعداء.
ماذا يريد الأعداء؟
لقد كانوا يريدون القضاء على الإسلام بصفة عامة، ولكنهم وضعوا في مخططهم أهدافا مرحلية معينة تمكنهم -في تصورهم- من القضاء الأخير على الإسلام.. من هذه الأهداف: القضاء على الدولة العثمانية، والقيام بتغريب العالم الإسلامي مع العناية الخاصة بتغير مصر -بلد الأزهر- وتصدير التغريب منها إلى بقية العالم الإسلامي.
فأما القضاء على الدولة العثمانية فالأمر فيه واضح، وأما عملية التغريب -عن طريق الغزو الفكري- فمهمتها الأولى قتل روح الجهاد الإسلامية ضد الصليبيين للقضاء على المقاومة المستمرة التي يلقاها الغزو الصليبي المسلح، وذلك بإزالة الحاجز العقدي الذي يذكر المسلم دائمًا بأنه مسلم وأعداؤه كفار يجب أن يجاهدهم ولا يسمح لهم باحتلال أرضه الإسلامية.
فإذا تغرب لم يعد هذا الحاجز قائمًا في نفسه، ولم يعد يثير عنده ما يثيره الإسلام في نفس المسلم. كما أن التغريب هو الذي يضمن تبعية العالم الإسلامي للغرب -بعد أن يخضع لعسكريا له- لأنه حين يتغرب، يحس أن انتماءه لم يعد للإسلام، وإنما للغرب، فلا يشعر برغبته في الانفصال عنه، وحتى إن رغب في يوم من الأيام أن يستقل ففي حدود التبعية العامة التي لا تخرجه من حوزة سادته، ومن النطاق الذي يضربه السادة حوله.
والآن قد أدركنا تخطيط الأعداء فننظر دور محمد علي بعد احتوائه من قبل فرنسا..
دور محمد علي بعد احتوائه من فرنسا
كانت الخطة الصليبية -التي اضطلعت فرنسا بتنفيذها في مصر- هي تكبير محمد علي وإغرائه بالاستقلال عن السلطان، فتنفصل بذلك قطعة من أرض المسلمين عن الدولة الإسلامية (وذلك يضعفها ولا شك) ثم يكون محمد علي نموذجا مغريا لغيره من الولاة، فيستقلون عن الدولة رغبة في السلطان الذاتي، فتتفكك عرى الدولة وتنهار.. وفي ذات الوقت كانت الخطة هي تغريب مصر -بعد استقلالها- لضمان تبعيتها الدائمة للغرب وانفصالها النهائي عن الإسلام.
وقام محمد علي بالدور المطلوب خير قيام! فإن الجيش الذي صنعته له فرنسا، وقام بتدريبه سليمان باشا الفرنساوي قد استخدمه محمد علي لا في محاولة الاستقلال عن الخلافة فحسب، بل في محاربة الخليفة نفسه! وقد كاد يتغلب على جيش الخليفة بالفعل لولا تدخل بريطانيا.. تظاهرا بالوقوف في صف الخليفة، وغيرة في الحقيقة من أن تستأثر فرنسا بصداقة السلطان، وبالنفوذ في مصر!
وفي الوقت نفسه لتخدم الهدف العام للصليبية بطريقة أخرى.. فقد أوقفت بريطانيا محمد علي عند حده في ظاهر الأمر، ومنعته من مهاجمة الخليفة، وفي الوقت ذاته ضمنت له الاستقلال الفعلي عن الخليفة، والاستئثار بحكم مصر حكما وراثيا ينتقل في ذريته، مع التبعية الإسمية للسلطان (هذا بينما تجمعت أوربا الصليبية كلها لتحطيم محمد علي في معركة نافارين لأنه نسي نفسه وتجرأ على مهاجمة دولة صليبية هي اليونان! فقد كبرته الصليبية وسلحته لمحاربة الإسلام فقط، فإذا فعل ذلك فله كل العون.. أما إذا هاجت أطماعه لحسابه الخاص، فمس أحد الصليبيين بسوء، فهنا يجب تأديبه بل تحطيمه تحطيمًا كاملًا إذا لزم الأمر)
أما الجانب الآخر من المهمة وهو عملية التغريب، فقد نفذها محمد علي بسياسة الابتعاث التي اتبعها، بإرسال الطلاب الشبان إلى أوروبا ليتعلموا هناك.. وكان هذا أخطر ما فعله في الحقيقة.. ﻷنه من هناك بدأ الخط العلماني يدخل ساحة التعليم، ومن ورائه ساحة الحياة في مصر الإسلامية. وقد يقول قائل إنه لم يكن أمامه من سبيل للنهوض بمصر إلا هذا السبيل! وهو قول مردود.
فلو كان في مكان محمد علي قائد مسلم واع، يريد أن ينهض بمصر الإسلامية -أي على أسس إسلامية وقاعدة إسلامية- فقد كان أمامه سبيل آخر، وهو النهوض بالأزهر -معقل العلم لا لمصر وحدها بل للعالم الإسلامي كله- برده إلى الصورة الزاهية التي كانت عليها المعاهد الإسلامية في عصور النهضة، حيث كانت تعلم العلم الشرعي والعلوم الدنيوية، وكان يتخرج فيها الأطباء والمهندسون والرياضيون والفلكيون والفيزيائيون والكيميائيون المسلمون الذين علموا العلم لأوروبا يوما من الأيام.
فإذا كانت بلاده -أو بلاد العالم الإسلامي جمعاء- تفتقر إلى المتخصصين في هذه العلوم، الذين يحتاج إليهم الأزهر لينهض بمهمته، ففي وسعه يومئذ أن يرسل أفرادا بأعيانهم، يختارون اختيارا دقيقًا، على أساس دينهم وتقواهم، وحصافتهم وزرانتهم، بعد أن يكونوا قد تجاوزوا سن الفتنة، وأحصنوا بالزواج فلا ينزلقون في مزالق الفساد الخلقي.
فيتخصصون في مختلف العلوم ويعودون ليدرسوا للطلاب في بيئتهم الإسلامية، فيظل الشباب محافظا على إسلامه، ويتزود من العلوم بما ينفض عنه تخلفه العلمي، ويعيد إليه الحاسة العلمية التي فقدها المسلمون خلال عصر التخلف الطويل.. وعندئذ تنهض مصر، بل ينهض العالم الإسلامي كله من طريق الأزهر الذي يؤمه الدارسون من جميع بلاد العالم الإسلامي.. ويكون هذا القائد المسلم قد أدى أجل خدمة للإسلام والمسلمين.
فهل فكر محمد علي على هذا النحو، أو هل كان فمينا أن يتجه هذه الوجهة؟ لو كان هذا لما اختاروه! ولما جاءوا به ليؤدي دوره "العظيم"! .. إنما كانت صياغته النفسية كلها والتوجيه الذي يتلقاه كله إلى الجانب الآخر.. جانب التغريب.
لذلك أرسل الشبان الصغار بأعداد متزايدة إلى أوروبا، وهم في سنة الفتنة، غير محصنين بشيء.. لينهلوا من العلم إن شاءوا، ومن الفساد إن شاءوا، أو من العلم والفساد معا في غالب الأحيان. ثم يعودوا، فيكونوا رأس الحربة المتجة إلى الغرب، الذي يجر بلاده كلها إلى هناك.
ولا عبرة بأنه كان يرسل مع كل بعثة إماما يؤمهم في الصلاة ويعلمهم أمور دينهم! فقد كان للصلاة حتى ذلك الوقت قداستها في حس المسلمين، ولا يتصور وجود مسلم لا يؤديها! أو هي في أقل الاعتبارات تقليد له قداسته، لا يمكن أن يخرج عليه مسلم! لذلك لم يكن يتصور أن تكون هناك مجموعة من المسلمين بغير إمام يؤمهم في الصلاة، ولا يمكن أن يقدم محمد علي على كسر ذلك التقليد المقدس في ذلك الحين.
ولكن ماذا فعل الأئمة؟
لقد كان رفاعة رافع الطهطاوي واحدا من أولئك الأئمة "العظام"! .. أو هكذا كان يوم ذهب إلى فرنسا.. ولكنه عاد وهو واحد من أئمة التغريب. استقبله أهله بالفرح يوم عاد من فرنسا بعد غيبة سنين.. فأشاح عنهم في ازدراء ووسمهم بأنهم فلاحون لا يتسحقون شرف استقباله.
ثم ألف كتابه الذي تحدث فيه عن أخبار باريز ودعا فيها إلى تحرير المرأة أي إلى السفور والاختلاط، وأزال عن الرقص المختلط وصمة الدنس، فقال إنه حركات رياضية موقعة على أنغام الموسيقى، فلا ينبغي النظر إليها على أنه عمل مذموم.
ولم يكن يتوقع بطبيعة الحا أن تستجيب الأمة الإسلامية في مصر إلى هذه الدعوة الطهطاوية في حينها، فقد كانت بقية الإسلام في نفوس المسلمين، كما كانت سيطرة التقاليد الإسلامية على كل جوانب الحياة، تبلغان من القوة إلى الحد الذي يجعل مثل تلك الدعوة في ذلك الوقت مثارا للسخرية ومثارا للاستنكار الشديد.
ولكن رأس الحربة كان يشير إلى الاتجاه.. الاتجاه إلى التغريب.
المصدر:
- محمد قطب، واقعنا المعاصر، ص191