سنة الله في إهلاك الظالمين والمكذبين

سنة الله في إهلاك الظالمين والمكذبين | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

722 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

سنة الله في إهلاك المكذبين من الأمم السابقة

وكانت سنة الله عز وجل في إهلاك الظالمين السابقين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهلكهم بخارقة، وكان المؤمنون لا يرفعون سيفًا ولا يشتبكون في قتال، فلما حدثت هذه الخطورة على بيت الله الحرام طبقت هذه السنة الإلهية حتى في غياب المؤمنين.

وهذا ما كان يحدث أيضًا مع الأنبياء السابقين قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنوح عليه السلام -على سبيل المثال- لما كذبه قومه وشعر أنه لا أمل في إيمانهم دعا الله عز وجل عليهم، كما صور الله عز وجل ذلك في كتابه الكريم فقال: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، قال تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [القمر:11-13]، فلم يحدث لقاء بين المؤمنين وبين الكافرين، وإنما جاء الطوفان وحمل الله عز وجل المؤمنين في السفينة، وكانت النجاة بهذه الخارقة.

ولوط عليه السلام أيضًا لما كذبه قومه قال: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء:169]، فجاءت الأوامر من الله عز وجل: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر:65]. ثم بعد أن خرج لوط عليه السلام من القرية الظالمة قال الله عز وجل: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر:74].

وحتى بنو إسرائيل الذين حملهم الله عز وجل أمانة إقامة دولة وإنشاء أمة لما أحيط بهم في أرض مصر وانقطع أمل موسى عليه السلام في إيمان فرعون وقومه قال موسى عليه السلام كما قال الله عز وجل في كتابه: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88]، فجاء الأمر الإلهي: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الدخان:23]، ولم يحدث لقاء بين قوم موسى وبين فرعون، ولم يؤمر قوم موسى بقتال فرعون وجنوده، وإنما أمروا بالخروج من مصر إلى غيرها، فانطلق موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر، فلما وصلوا إلى هناك فقد بنو إسرائيل الأمل في النجاة؛ لأنهم رأوا جيوش فرعون من ورائهم.

والله عز وجل يصور هذا الموقف في كتابه الكريم فيقول: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62]، فالكلمة الوحيدة المؤمنة التي قيلت في مثل هذا الموقف هي كلمة موسى عليه السلام، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، وأما بقية القوم فإنهم اضطربوا اضطرابًا شديدًا لما رأوا جيش فرعون، ومع ذلك قال الله عز وجل: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ [الشعراء:63-65]، ولم يكن هناك ضحايا ولا شهداء، وكل بني إسرائيل نجوا مع كونهم قالوا: (إنا لمدركون)، ثم قال عز وجل: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ [الشعراء:66]، فشق البحر وأهلك فرعون عليه لعنة الله ومن معه من الجنود.

وكانت حادثة الفيل هي آخر الحوادث التي نصر فيها الدين بخارقة، وما زالت سنة إهلاك الظالمين باقية: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم:13]، وهذا الكلام لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ [إبراهيم:13] مطلق، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14]، فأي أمة تخاف مقام الله عز وجل وتخاف وعيده عز وجل فلا بد أن تمكن في النهاية، ولا بد أن يهلك الظالمون لها، فهي سنة ماضية إلى يوم القيامة.


سنة الله في إهلاك الظالمين بعد بعثة النبي

ولكن مع بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرت طريقة الإهلاك، فقد كان الظالمون في السابق يهلكهم الله بخوارق، وأما في رسالة الإسلام فالسنة هي: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

فلا بد أن يقدم المسلمون العمل والعمل الخالص لله عز وجل الصحيح على منهاج النبوة، فإذا قدموا العمل الصالح أنزل الله عز وجل ما يشبه الطير الأبابيل، فينزل بركة ورحمة وأمنًا وتأييدًا وتوفيقًا على المؤمنين، وسخطًا ونقمة وعذابًا وهلاكًا على الكافرين، ولكن بغير عمل لن تنزل الطير الأبابيل، وبغير جهد وبذل وعطاء لن ترمى حجارة من سجيل. هذه السنة الجديدة الخاصة بأمة الإسلام، وهي سنة ماضية إلى يوم القيامة لا تبديل لها ولا تحويل، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

وكثير من الناس أحبطوا من رؤية الظالمين يتمكنون من رقاب المؤمنين، وجلسوا ينتظرون نزول الطير الأبابيل، ويراقبون الموقف من بعد، ومستحيل أن تنزل الطير الأبابيل على الكافرين فتهلكهم، فانتظارهم هذا وهم وغياب فهم وعدم فقه لسنة الله عز وجل في التغيير، بل لابد أن يعتمد المسلمون على أنفسهم وعلى سواعدهم وعلى شرعهم ومنهجهم وعلى ربهم، والاعتماد على الله عز وجل لا يكون إلا كما يريد هو سبحانه وتعالى، لا كما نريد نحن بأهوائنا.

والله عز وجل وضع لنا سننًا واضحة في التغيير قد تختلف حسب المرحلة التي يعيشها المسلمون، فقد يكتفي المسلمون في زمن بالدعوة، وقد تكون الدعوة سرًا أو جهرًا، وقد يحتاج المسلمون إلى معاهدة، وقد يحتاجون إلى جهاد، وقد يجاهدون قومًا ويتركون آخرين، وقد يجاهدون الكفار أجمعين، فبحسب المرحلة تتغير الطريقة، ولكن في كل الأحوال لا بد أن يقدم المسلمون شيئًا، فلن ينزل النصر على قوم كسالى قاعدين أو سلبيين.

وأنا لا يعجبني الدعاء الذي يدعو به بعض الناس بقولهم: اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين. وأنت أين هو دورك؟! أتكتفي بالمراقبة ثم تنتظر أن تسوقك الأحداث سوقًا إلى سيادة وتمكين وعز وصدارة؟! هذا وهم -إخواني في الله!- وليس من سنن الله عز وجل، إنما السنة إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

وتذكروا أننا لسنا في زمان أبرهة، فلن تنزل الطير الأبابيل الآن على الظالمين إذا فر من أمامهم الصالحون إلى رءوس الجبال. فنحن الآن نشاهد الصواريخ والطائرات والدبابات والبوارج الأمريكية تعربد في كل بلاد المسلمين، والمسلمون ينظرون بحسرة لمن جاء يدمر بلادهم وأوطانهم، ويقتل أبناءهم وشيوخهم ونساءهم، وهم يقولون: عسى الله أن يرسل عليهم طيرًا أبابيل، أو يرميهم بحجارة من سجيل، أو يحدث معجزة أو يأتي بخارقة تدمرهم، فإلى هؤلاء الذين يعتقدون مثل هذا الاعتقاد وينتظرون الصواعق أن تنزل على قاصفات أمريكا، وينتظرون خسفًا بجنود الأمريكان في الكويت والسعودية والعراق وقطر وعمان وتركيا وباكستان وأفغانستان وأوزبكستان وغيرها من بلاد المسلمين، وينتظرون الطوفان ليغرق أساطيل الأمريكان في الخليج العربي وفي البحر الأبيض والأحمر والأسود والأصفر وكل ألوان الدنيا، إلى هؤلاء جميعًا أوجه نداء من قلبي إليهم وأقول: سيطول انتظاركم ولن تنزل الطير الأبابيل أو أشباهها إلا بعمل سنة واضحة، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

 


 

المصدر:

محاضرة لسنا في زمن أبرهة، للدكتور راغب السرجاني

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
حديث ابن تيمية عن معاوية رضي الله عنه | مرابط
تفريغات

حديث ابن تيمية عن معاوية رضي الله عنه


وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان ولم يتهمهم أحد من أوليائهم ولا محاربيهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمونون عليه في الرواية عنه والمنافق غير مأمون على النبي صلى الله عليه وسلم بل هو كاذب عليه مكذب له

بقلم: عبد المحسن العباد
630
لماذا لا يثق الليبراليون بالليبراليات: الجزء الثالث | مرابط
فكر مقالات الليبرالية

لماذا لا يثق الليبراليون بالليبراليات: الجزء الثالث


يستطيع الليبرالي أن يعيش ازدواجية عنيفة بين شخصيته التي يظهر بها أمام أضواء الإعلام وفي سطور مؤلفاته أو مقالاته وشخصيته الحقيقية التي تظهر عندما تنطفئ هذه الأضواء وعندما يعم الظلام ويجف مداد القلم هنا تظهر هذه الازدواجية لترى الانحلال الأخلاقي والنظرة الشهوانية الجنسية للمرأة التي تقبع داخله بينما ينادي ليل نهار بحرية المرأة والتعامل معها على أنها إنسان له حقوق وكرامة قبل كل شيء وفي هذا المقال سترى الكثير من الشهادات بألسنة الليبراليين أنفسهم لتدرك وهم الليبرالية

بقلم: إبراهيم السكران
2645
زهد أبي هريرة رضي الله عنه | مرابط
مقالات

زهد أبي هريرة رضي الله عنه


حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا كثير حدثنا جعفر حدثنا يزيد بن الأصم قال: سمعت أبا هريرة يقول: المكثرون في النار إلا من قال هكذا وهكذا وأشار بكفيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ثم قال: وقليل ما هم قال يزيد: إن لم أكن سمعته من أبي هريرة وأشار بإصبعيه إلى أذنيه وإلا فصمتا

بقلم: أحمد بن حنبل
1094
كيف أقرأ ختمتي التدبرية في رمضان؟ | مرابط
مقالات

كيف أقرأ ختمتي التدبرية في رمضان؟


لا تمل .. لن تجد المعاني التدبرية منذ اللقاءات الأولى مع الآيات.. صاحب القرآن بحب .. ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه شمروا .. جددوا النوايا و اشحذوا الهمم ولا تنسو الدعاء لأنفسكم بأن يفتح الله على بصيرتكم وقلوبكم .. وقل رب زدني علما

بقلم: د. عبد المحسن المطيري
909
خصائص أدلة القرآن | مرابط
اقتباسات وقطوف

خصائص أدلة القرآن


كلام هام لابن القيم رحمه الله يشير فيه إلى خصائص أدلة القرآن الكريم مثل السهولة واليسر والمباشرة والقرب من فطرة الإنسان وعقله واعتماد أيسر الطرق وأقصرها وأقلها تكلفا وأكثرها نفعا ويمكننا أن نقارن بين هذه الصفات وبين الطرق المعوجة التي سلكها أهل الكلام في الاستدلال

بقلم: ابن قيم الجوزية
2015
العنصرية الأمريكية ضد العرب | مرابط
اقتباسات وقطوف

العنصرية الأمريكية ضد العرب


مقتطف من كتاب الحروب الهمجية يتحدث فيه الكاتب عن الرؤية الأمريكية للعرب والتي تقوم على العنصرية أو التعصب إذ يعد هذا هو المحرك الأبرز في التعامل مع كافة الأحداث ومن هنا توصف أعمال العنف التي يرتكبها الأمريكان أو إسرائيل على أنها دفاع عن النفس بينما أي عنف يرتكبه العرب يقع تحت وصف الإرهاب

بقلم: ستيفن سالايتا
630