شبهة: المدة الزمنية لخلق السماوات والأرض بين العلم والقرآن

شبهة: المدة الزمنية لخلق السماوات والأرض بين العلم والقرآن | مرابط

الكاتب: محمد عمارة

1330 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

أصل الشبهة:

توضح كثير من سور القرآن أن السموات والأرض قد خلقت في ستة أيام. وهنا مشكلتان؛ الأولى انه من الثابت علميًا أن خلق السموات والأرض قد استغرق بلايين السنين، والثانية: أنه في التعبير القرآني نفسه كانت مدة الخلق ثمانية أيام بدلًا من ستة (41: 9-12).. فكيف يمكن التوفيق بين هذه الآيات؟

 

الجواب:

في كثير من السور القرآنية تتحدث آيات كثيرة عن خلق الله، سبحانه وتعالى، السموات والأرض وتقدير ما فيهما في ستة أيام.. ومن هذه الآيات:

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (الأعراف: 54 - ويونس: 3).
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (هود: 7).
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (الفرقان: 59).
{) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (السجدة: 4).
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (ق: 38).
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (الحديد: 4).

 

المدى الزمني لليوم

وليس هناك تعارض بين تحديد زمن الخلق للسموات والأرض في ستة ايام، وبين ما يراه العلم من استغراق ذلك الخلق بلايين السنين، ذلك أن المدى الزمني "لليوم" عند الله، سبحانه وتعالى، ليس هو المدى الزمني القصير "لليوم" في العرف والتقويم الذي تعارف عليه الإنسان في هذه الحياة الدنيا.. وفي القرآن آيات شاهدة على ذلك، منها:

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّه - (لم يتغير) -ْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا - (أي نرفعها من الأرض لنؤلفها) - ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 259). فبعض اليوم، في حساب الإنسان - هنا - بلغ مائة عام.. أي قرابة 37000 يوم!

وكذلك الحال في قصة أهل الكهف.. فما حسبوه يومًا أو بعض يوم قد بلغ ثلثمائة عام بالتقويم الشمسي وثلثمائة وتسعة أعوام بالتقيم القمري.. {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} (الكهف: 19).. {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (الكهف: 25-26).

وكذلك الحال يوم ينفخ في الصور - يوم البعث - يحسب بعض المجرمين أن مكثهم في الدنيا لم يتجاوز عشر ليال.. بينما يحسب آخرون منهم أن مكثهم لم يتعد اليوم الواحد: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} (طه: 102-104).

أما عند الله، سبحانه وتعالى، فإن لمصطلح "اليوم" مدى لا يعلم حقيقة طوله وأمده إلا هو: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47).

 

قياس الزمن

والآية لا تحدده بألف سنة مما نعد نحن في تقويمنا.. وإنما تستخدم أداة التشبيه - الكاف - (كألف) - ليظل المدى غير معلوم لنا في هذه الحياة.. وغير ممكن التحديد بوحداتنا نحن في القياس الزمني.. فيوم الدين - الجزاء -.. وأيام الله.. والأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض.. مداها - بمقاييس أيامنا نحن - لا يعلمها إلا الله، سبحانه وتعالى..

ثم إن ما اكتشفه العلم من سرعات للصوت.. وسرعات للضوء.. وزمن الضوء - سنة ضوئية - يجعل تفاوت واختلاف المفاهيم والمقاييس لمصطلح "اليوم" أمرًا مقررًا ومألوفًا..

هذا عن المشكلة الأولى من مشكلتي السؤال..

 

ثمانية أيام أم ستة أيام؟

أما المشكلة الثانية - من مشكلتي السؤال - والخاصة بحديث بعض الآيات القرآنية عن أن الخلق للسموات والأرض قد يفهم أنه استغرق ثمانية أيام، وليس ستة أيام.. - وهي آيات سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت: 9-12).

هذه "المشكلة" لا وجود لها: فليس هناك تناقض ولا تفاوت بين المدة الزمنية التي جاءت في هذه الآيات وبين الآيات الأخرى التي ورد فيها تحديد الأيام الستة..

ففي هذه الآيات - من سورة فصلت - نجد أن الله، سبحانه وتعالى،يخبرنا بأنه: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} ثم {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} في تمام {أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}.. أي في يومين آخرين يضافان إلى اليومين اللذين خلق فيهما الأرض، فيكون المجموع أربعة أيام.. وليس واردًا أن يكون خلق الرواسي وتقدير الأقوات قد استغرق أربعة أيام.

ولعل من توهم الشبهة - التي جاءت في السؤال - قد أتت من هناك..

أي من توهم إضافة أربعة أيام إلى اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض، فيكون المجموع ستة.. وإذا أضيف إليها اليومان اللذان خلقت فيهما السماء - {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} - يكون المجموع ثمانية أيام، وليس ستة أيام.. لكن إزالة هذه الشبهة متحققة بإزالة هذا الوهم.. فالأرض خلقت في يومين.. وخلق الرواسي وتقدير الأقوات قد استغرق ما تمم اليومين أربعة أيام.. أي استغرق هو الآخر يومين.. ثم استغرق خلق السموات السبع يومين.. فكان المجموع ستة أيام من أيام الله سبحانه وتعالى..

ولقد نبه المفسرون على هذه الحقيقة - المزيلة لهذا الوهم - فقال القرطبي:

" (أربعة أيام) يعني في تتمة أربعة أيام. ومثاله قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما؛ أي في تتمة خمسة عشر يوما." (1)

" «في أيام أربعة سواء» فذلكة لمدة خلق الله الأرض وما فيها كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.... وقال الزجاج: في أربعة أيام في تتمة أربعة أيام يريد بالتتمة اليومين." (3)

فهذه الآيات من سورة فصلت تؤكد - هي الأخرى - على أن خلق السموات والأرض إنما تم في ستة أيام.. ومن ثم فلا تناقض بين آيات القرآن ولا تفاوت في مدة الخلق الإلهي للسموات والأرض.. وحاشا أن يكون شئ من ذلك في الذكر الحكيم.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. (الجامع لأحكام القرآن) ج15 ص343، مصدر سابق.
  2. الفذلكة: جملة ما فصل وخلاصته.
  3. (الكشاف) ج3 ص 444، مصدر سابق.

 

المصدر:

محمد عمارة، شبهات حول القرآن الكريم، ص6

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شبهات-حول-القرآن
اقرأ أيضا
التحدي الأعظم ج2 | مرابط
تعزيز اليقين

التحدي الأعظم ج2


جوانب الإعجاز في القرآن الكريم لا تكاد تنقضي وكلما تأملته وتدبرته ظهرت لك تفاصيل إعجازية لم تعلم عنها من قبل سواء في لغته أو بنائه أو محتواه العلمي أو تنبؤاته إلخ وهذا الأمر ليس محصورا على العرب والمسلمين وإنما متاح لكل من يتدبر بل إن من أشهر الآيات المعبرة عن هذا الجانب قوله تعالى في سورة فصلت: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ۗ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد 53 ومن السياق يتضح أن الآية تتحدث عن الكفار والحاصل فعلا هو أن الإعجاز العلمي في العصور المتأخرة يقوم غا...

بقلم: موقع هداية الملحدين
1553
أن تكون أبا | مرابط
مقالات

أن تكون أبا


أن تكون أبا فليس ذلك بالأمر الهين..أن تكون أبا فيعني ذلك أن الخوف والقلق والفزع البشري الطبيعي لم يعودوا من المشاعر التي يحق لك أن تجدها وإن حدث ووجدتها يوما فليس من حقك أن تستسلم لها أو تنساق خلف تبعاتها إلا لثوان ثم تتدارك بعدها نفسك لتستطيع إكمال المهمةمهمة أن تكون أبا..

بقلم: محمد علي يوسف
399
الأمة الوسط الجزء الثاني | مرابط
تفريغات

الأمة الوسط الجزء الثاني


من المتفق عليه أن الخصيصة الأولى والمقوم الأساسي للأمة الوسط هو كونها أمة ربانية وهذه الخصيصة خاصة بهذه الأمة لا تشاركها فيها الأمم الأخرى فالأمة الإسلامية أمة ربانية في عقيدتها وتصورها وتشريعها وأخلاقها وقيمها لأن هذا كله منزل من عند الله تبارك وتعالى

بقلم: عمر الأشقر
909
من آثار بر الوالدين | مرابط
تفريغات

من آثار بر الوالدين


بر الوالدين من أعظم الأسباب التي توجب الرحمة من الله في تيسير الأمور والعكس بالعكس فإن العاق ما حضر مكانا إلا كان شؤما على أهله حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم فكيف بالذي عق والديه

بقلم: محمد مختار الشنقيطي
449
الحق والواجب | مرابط
اقتباسات وقطوف

الحق والواجب


عبارة شاملة للمفكر الجزائري مالك بن نبي يعبر فيها عن فكرة التقدم والنهضة التي يسعى لها الجميع ومن هنا يقف بنا أمام فكرة هامة وهي فكرة الواجبات والحقوق فالأولوية يجب أن تكون للواجبات كما عبر مالك بن نبي: ليس الشعب بحاجة إلى أن نتكلم له عن حقوقه وحريته بل أن نحدد له الوسائل التي يحصل بها عليها وهذه الوسائل لا يمكن إلا أن تكون تعبيرا عن واجباته

بقلم: مالك بن نبي
2317
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الأول ج2 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الأول ج2


سميت أشراط الساعة أشراطا لأنها علامات على قيام الساعة وهي على الأغلب إن كانت على ذلك وقد يسمى من أشراط الساعة ما لم يكن علامة عليها وإنما هو داخل في أثنائها وذلك أن من علامات الساعة انكدار النجوم وسقوطها أثناء قيام الساعة والساعة حينئذ قد قامت وعليه يعلم أن علامات الساعة منها ما هو سابق لها ومنها ما هو في أثنائها فالعلامة يذكرها على أنها ما يسبق الساعة ويكون تمهيدا لقيامها ومنها ما يكون هو داخلا فيها ومتغلغلا فيها وذلك أن أكثر أشراط الساعة هو سابق لها سواء كان من الكبرى أو من الصغرى

بقلم: عبد العزيز الطريفي
674