شهوة الجاه

شهوة الجاه | مرابط

الكاتب: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

2756 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

شهوة الجاه هي أم الشهوات؛ ﻷن الجاه إذا تحقق حقق بقية الشهوات وجلبها جميعًا، وأما غير شهوة الجاه، فلا يلزم إذا تحققت أن يُحقق الجاه معها.
 
ولشهوة الجاه فروع كثيرة، فإذا تعلّقت النفس بها، تحايلت على كل أسبابه التي توصل إليه بحيل تُحيّر العقل حتى تستدعي مدحها بأساليب ذمّها، وربما تتحمل ما تكره ليمدحها الناس؛ حتى ربّما تقتحم الموت لتُمدح بالشجاعة، فتُحبُّ المدح من ورائها وهي ميّتة، ولو لم تسمع أصوات المادحين، ولم تستمتع بآثار مدحها مع تقدير وتعظيم وإجلال.
 
ولا يوجد شهوة تقود الإنسان وتأسر عقله كشهوة الجاه إذا تمكّنت منه، وهي شهو تتشكل في النفس بأشكال تستعصي معرفتها في كثير من الأحيان على الإنسان، فربما تكون ظاهرة، وربما تكون خفيّة، وربما تكون مستترة تحت شهوة أخرى، متخفية في النفس، فتريد أن ترتفع على غيرها فتتخذ غيرها عتبة، وإذا عرف العقل مداخل النفس وطرقها، استطاع إغلاق منافذ ذلك عليها؛ حتى لا تؤثر فيه وهو لا يشعر.

 

طرق تحقيق النفس للجاه:

 

وطرق النفس في تحقيق شهوة الجاه على نوعين:

 

النوع الأول: طرق ظاهرة:

 

وهي التي تظهر درجاتها وتسلسلها في تحقيق غاية الجاه، وطلب الشهرة، فالوسيلة تكون فيها مثل الغاية، كلها تؤدي إلى قوة الجاه وطلب المحامد؛ كمن يطلب الجاه بالكرم والمال، ومن يطلب الجاه بالعلم والعمل، ومن يطلبه بالفصاحة والبيان، ومن يطلبه بالرأي والحنكة والفكر، والحسب والنسب، وهذه وسائل معتادة للوصول إلى غاية الجاه.
 
وهذه الوسائل وسائل ليست مذمومة في نفسها ولكنها تصنع جاهًا، ومحبة الجاه والذكر الحسن، وكراهية الذكر السيئ: طبع الناس الأسوياء، ولكن الكلام هنا هو عن شهوة الجاه، وهي قدر زائد عن الطبع الذي يشترك فيه كل الناس، وهي التي تؤدي إلى جعل الجاه غاية ومنتهى المطالب، فيأخذ الإنسان الوسائل لأجل تحقيق تلك الغاية.
 
وهذه الطرق الظاهرة مع كونها ليست مذمومة في نفسها، فإنها إذا كانت لأجل تحقيق الجاه كانت مذمومة؛ لأن الجاه إذا كان غاية ومنتهى، فإن من يطلبه إذا لم يجده بهذه الوسائل فسيطلبه بغيرها من وسائل السوء، وربما يتخذ وسائل الخير حتى توصله إلى الغاية، فإذا لم يجدها هناك، فإنه سيتغير ويترك تلك الوسائل التي أفنى فيها عمره الطويل، ويبحث عن أخرى، وهذا تفسير سلوك كثير من الذين يتغيرون عن مبادئهم وعن أصولهم التي كانوا عليها.
 
عند انتقال الجاه من موضع إلى موضع آخر، ومن مكان إلى مكان، ومن مبدأ إلى مبدأ، والنفس لا بد أن تجد مسوّغًا لتحولها ذلك، فربما وصفت تحولها بالتجديد والمراجعة؛ وذلك أن التحولات في المبادئ ليست كالتحولات المادية؛ فإن التاجر الذي يبيع الذهب إذا لم يجد لتجارة الذهب سوقًا، فإنه ينتقل إلى بيع ما يحتاج إليه الناس، ولا يواري ويدلّس في انتقال ذلك؛ ﻷن غايته تتفق مع وسائله، وكلاهما ظاهر لنفسه وللناس، وأما طالب الجاه، فلا تتفق غاياته مع وسائله، فوسائله معلنة وغاياته خفية لا يظهرها، بخلاف المادي؛ فهو واضح الوسائل وواضح الغايات.

 

النوع الثاني: طرق خفية

 

وهي التي لا يظهر كونها تؤدي إلى الجاه، بل ربما تكون فيما يبدو للناس معاكسة له، وهذا بحسب يقظة عقل الإنسان وحذاقته، وبحسب ما يحمله من إيمان، وغالب هذه الطرق والوسائل الخفية تكون في أذكياء العقول وأقوياء الإيمان، وكلما قوي العقل والإيمان خفيت تلك الطرق، وكلما ضعفا ظهرت.

 

طلب الجاه بأفعال مناقضة له:

 

وشهوة الجاه تبحث عن وسيلة تحققها في هذا النوع من الناس؛ حتى تخرج في أفعال مناقضة في ظاهرها للجاه، وربما خدعت صاحبها حتى يشتهي تلك الأفعال؛ ﻷنها تؤدي إلى الوصول إلى تلك الغاية من غير أن يتّهمه الناس بحب الجاه والسعي إليه، بل ربما يصفونه بالخمول والخفاء، والزهد والورع، والإخلاص والصدق.
 
وإذا كان الإنسان ذا عقل ورجاحة وعلم، ومعرفة وإيمان، فإذا رأت منه نفسه الحذر من الجاه، تخفّت واستترت بصورة شهوة مناقضة لها، فتتخذ النفس الخمول، وتتظاهر بالتواضع، وهي تريد عكس ذلك؛ تريد الظهور والكبر.
 
وذلك أن طلب الجاه بالبروز للمجالس، وكثرة الكلام، وظهور الصورة أمام الناس بسبب وبلا سبب، وتتبع مواضع المدح وحب أهله مهما كانوا، والبعد عن مواضع النقد وكره أهله مهما كانوا -هذا كله من الصور الظاهرة لشهوة الجاه، فإذا كان العقل عالما بهذه الصورة حذرًا منها، فإن النفس تتحايل عليه بصورة خفية أخرى؛ حتى تحقق المقصود بطريق غير معهود؛ حتى تجعله يطلب الجاه بالخمول، ويطلب الرفعة بالتواضع، ويطلب الغنى بالبذاذة، ويطلب المدح بذم النفس وذكر عيوبها، وهذا يُبتلى به بعض أهل المعرفة والعلم والدين.
 
طلب النفس للشيء بفعل ضدّه سلوك لها معروف، وربما يفعله بعض العقلاء سياسة، وفي هذا يقول الشاعر:
 
أُهين لهم نفسي لكي يكرمونها    ...   ولن تكرم النفس التي لا تهينها
 
والطرق والوسائل الخفية في طلب الجاه في هذا النوع لا حد لها ولا حصر، حتى يستميت بعضهم في البعد عن الناس؛ حتى لا يُذكر ويُرفع، وهو في باطنه يريد أن يُذكر بحب البعد عنهم لأجل ذلك، وإذا سُئل عن شيء يقول: لا أدري، وهو يريد أن يوصف بالحذر من القول بلا علم؛ حتى يقول: لا أدري فيما يدري، وهذا في نفسه شر ممن يقول: أعلم فيما لا يعلم، وإن كان الثاني شرًا منه في ضرره على الناس.

 


 

المصدر:

  1. عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، الفصل بين النفس والعقل، ص103
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الجاه #السلطان
اقرأ أيضا
مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1 | مرابط
فكر مقالات الديمقراطية

مراجعات نقدية للخطاب المدني الديمقراطي ج1


من المقدمات المنهجية الأساسية التي ينبغي التنبه لها في البدء أن قضايا النهضة والإصلاح والتغيير يجب أن يكون منطلقها منطلقا إسلاميا شرعيا وإذا كان المنطلق غير إسلامي ولا شرعي فإنه لن يتحقق شيء من ثمراتها بمعناها الشامل والمشروع والمرضي لله تعالى وربما تتحقق بعض المكاسب الدنيوية والانتصارات المؤقتة لكنها ليست النهضة والإصلاح المطلوبة من المسلم

بقلم: الدكتور عبدالرحيم بن صمايل السلمي
1217
تعلق القلب بالمخلوقات | مرابط
اقتباسات وقطوف

تعلق القلب بالمخلوقات


وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك وإن كان في الظاهر أميرا لهم مدبرا لهم متصرفا بهم فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
560
نكتة لطيفة في القضاء والقدر | مرابط
اقتباسات وقطوف

نكتة لطيفة في القضاء والقدر


فإن قيل فما الفرق بين كون القدر خيرا وشرا وكونه حلوا ومرا؟ قيل الحلاوة والمرارة تعود إلى مباشرة الأسباب في العاجل والخير والشر يرجع إلى حسن العاقبة وسوئها فهو حلو ومر في مبدأه وأوله وخير وشر في منتهاه وعاقبته وقد أجرى الله سبحانه سنته وعادته أن حلاوة الأسباب في العاجل تعقب المرارة في الآجل ومرارتها تعقب الحلاوة فحلو الدنيا مر الآخرة ومر الدنيا حلو الآخرة

بقلم: ابن القيم
396
حكم الزيادة في الدين | مرابط
تفريغات

حكم الزيادة في الدين


إن العبد إذا علم شر منقلب أهل البدع لم يلجأ إلى التأويل الذي تأوله أهل البدع إنما نريح أنفسنا بذكر هذه المقدمة لأن الموضوع إذا نوقش فيه بطريقة الجدل النظري لا نصل فيه إلى نتيجة إذا: لا بد من دخول المعنى الإيماني في المناقشة ليست المسألة نظرية بحتة كما يفعل أهل البدع في النقاش إنما نتكلم عن خير الهدي وخير الهدي من أعظم الخوارم فيه: البدع إذا: لا بد من دخول المعنى الإيماني أثناء المناقشة ولا يكون هذا إلا بذكر سوء منقلب أهل البدع

بقلم: أبو إسحق الحويني
783
خطورة الربا | مرابط
تفريغات اقتباسات وقطوف

خطورة الربا


فالربا يخرب الديار ويهلك العباد ويحل سخط الله سبحانه وتعالى فكثير من الناس يظن نفسه على خير وعشرات ومئات الآلاف والملايين من ماله تعمل في الربا ويظن نفسه من الصالحين وهو على خطر عظيم فينبغي أن يتنبه لأمره

بقلم: عمر الأشقر
461
دمعة على الإسلام | مرابط
فكر مقالات

دمعة على الإسلام


جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحمية وليعتق رقابهم من رق العبودية فلا يذل صغيرهم لكبيرهم ولا يهاب ضعيفهم قويهم ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلا بالحق والعدل وقد ترك الإسلام بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى فكانوا ذوي أنفة وعزة وإباء وغيرة يضربون على يد الظالم إذا ظلم ويقولون للسلطان إذا جاوز حده غير سلطانه: قف مكانك ولا تغل في تقدير مقدار نفسك فإنما أنت عبد مخلوق لا رب معبود واعلم أنه لا إله إلا ال...

بقلم: مصطفى لطفي المنفلوطي
614