شهوة الجاه

شهوة الجاه | مرابط

الكاتب: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

2635 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

شهوة الجاه هي أم الشهوات؛ ﻷن الجاه إذا تحقق حقق بقية الشهوات وجلبها جميعًا، وأما غير شهوة الجاه، فلا يلزم إذا تحققت أن يُحقق الجاه معها.
 
ولشهوة الجاه فروع كثيرة، فإذا تعلّقت النفس بها، تحايلت على كل أسبابه التي توصل إليه بحيل تُحيّر العقل حتى تستدعي مدحها بأساليب ذمّها، وربما تتحمل ما تكره ليمدحها الناس؛ حتى ربّما تقتحم الموت لتُمدح بالشجاعة، فتُحبُّ المدح من ورائها وهي ميّتة، ولو لم تسمع أصوات المادحين، ولم تستمتع بآثار مدحها مع تقدير وتعظيم وإجلال.
 
ولا يوجد شهوة تقود الإنسان وتأسر عقله كشهوة الجاه إذا تمكّنت منه، وهي شهو تتشكل في النفس بأشكال تستعصي معرفتها في كثير من الأحيان على الإنسان، فربما تكون ظاهرة، وربما تكون خفيّة، وربما تكون مستترة تحت شهوة أخرى، متخفية في النفس، فتريد أن ترتفع على غيرها فتتخذ غيرها عتبة، وإذا عرف العقل مداخل النفس وطرقها، استطاع إغلاق منافذ ذلك عليها؛ حتى لا تؤثر فيه وهو لا يشعر.

 

طرق تحقيق النفس للجاه:

 

وطرق النفس في تحقيق شهوة الجاه على نوعين:

 

النوع الأول: طرق ظاهرة:

 

وهي التي تظهر درجاتها وتسلسلها في تحقيق غاية الجاه، وطلب الشهرة، فالوسيلة تكون فيها مثل الغاية، كلها تؤدي إلى قوة الجاه وطلب المحامد؛ كمن يطلب الجاه بالكرم والمال، ومن يطلب الجاه بالعلم والعمل، ومن يطلبه بالفصاحة والبيان، ومن يطلبه بالرأي والحنكة والفكر، والحسب والنسب، وهذه وسائل معتادة للوصول إلى غاية الجاه.
 
وهذه الوسائل وسائل ليست مذمومة في نفسها ولكنها تصنع جاهًا، ومحبة الجاه والذكر الحسن، وكراهية الذكر السيئ: طبع الناس الأسوياء، ولكن الكلام هنا هو عن شهوة الجاه، وهي قدر زائد عن الطبع الذي يشترك فيه كل الناس، وهي التي تؤدي إلى جعل الجاه غاية ومنتهى المطالب، فيأخذ الإنسان الوسائل لأجل تحقيق تلك الغاية.
 
وهذه الطرق الظاهرة مع كونها ليست مذمومة في نفسها، فإنها إذا كانت لأجل تحقيق الجاه كانت مذمومة؛ لأن الجاه إذا كان غاية ومنتهى، فإن من يطلبه إذا لم يجده بهذه الوسائل فسيطلبه بغيرها من وسائل السوء، وربما يتخذ وسائل الخير حتى توصله إلى الغاية، فإذا لم يجدها هناك، فإنه سيتغير ويترك تلك الوسائل التي أفنى فيها عمره الطويل، ويبحث عن أخرى، وهذا تفسير سلوك كثير من الذين يتغيرون عن مبادئهم وعن أصولهم التي كانوا عليها.
 
عند انتقال الجاه من موضع إلى موضع آخر، ومن مكان إلى مكان، ومن مبدأ إلى مبدأ، والنفس لا بد أن تجد مسوّغًا لتحولها ذلك، فربما وصفت تحولها بالتجديد والمراجعة؛ وذلك أن التحولات في المبادئ ليست كالتحولات المادية؛ فإن التاجر الذي يبيع الذهب إذا لم يجد لتجارة الذهب سوقًا، فإنه ينتقل إلى بيع ما يحتاج إليه الناس، ولا يواري ويدلّس في انتقال ذلك؛ ﻷن غايته تتفق مع وسائله، وكلاهما ظاهر لنفسه وللناس، وأما طالب الجاه، فلا تتفق غاياته مع وسائله، فوسائله معلنة وغاياته خفية لا يظهرها، بخلاف المادي؛ فهو واضح الوسائل وواضح الغايات.

 

النوع الثاني: طرق خفية

 

وهي التي لا يظهر كونها تؤدي إلى الجاه، بل ربما تكون فيما يبدو للناس معاكسة له، وهذا بحسب يقظة عقل الإنسان وحذاقته، وبحسب ما يحمله من إيمان، وغالب هذه الطرق والوسائل الخفية تكون في أذكياء العقول وأقوياء الإيمان، وكلما قوي العقل والإيمان خفيت تلك الطرق، وكلما ضعفا ظهرت.

 

طلب الجاه بأفعال مناقضة له:

 

وشهوة الجاه تبحث عن وسيلة تحققها في هذا النوع من الناس؛ حتى تخرج في أفعال مناقضة في ظاهرها للجاه، وربما خدعت صاحبها حتى يشتهي تلك الأفعال؛ ﻷنها تؤدي إلى الوصول إلى تلك الغاية من غير أن يتّهمه الناس بحب الجاه والسعي إليه، بل ربما يصفونه بالخمول والخفاء، والزهد والورع، والإخلاص والصدق.
 
وإذا كان الإنسان ذا عقل ورجاحة وعلم، ومعرفة وإيمان، فإذا رأت منه نفسه الحذر من الجاه، تخفّت واستترت بصورة شهوة مناقضة لها، فتتخذ النفس الخمول، وتتظاهر بالتواضع، وهي تريد عكس ذلك؛ تريد الظهور والكبر.
 
وذلك أن طلب الجاه بالبروز للمجالس، وكثرة الكلام، وظهور الصورة أمام الناس بسبب وبلا سبب، وتتبع مواضع المدح وحب أهله مهما كانوا، والبعد عن مواضع النقد وكره أهله مهما كانوا -هذا كله من الصور الظاهرة لشهوة الجاه، فإذا كان العقل عالما بهذه الصورة حذرًا منها، فإن النفس تتحايل عليه بصورة خفية أخرى؛ حتى تحقق المقصود بطريق غير معهود؛ حتى تجعله يطلب الجاه بالخمول، ويطلب الرفعة بالتواضع، ويطلب الغنى بالبذاذة، ويطلب المدح بذم النفس وذكر عيوبها، وهذا يُبتلى به بعض أهل المعرفة والعلم والدين.
 
طلب النفس للشيء بفعل ضدّه سلوك لها معروف، وربما يفعله بعض العقلاء سياسة، وفي هذا يقول الشاعر:
 
أُهين لهم نفسي لكي يكرمونها    ...   ولن تكرم النفس التي لا تهينها
 
والطرق والوسائل الخفية في طلب الجاه في هذا النوع لا حد لها ولا حصر، حتى يستميت بعضهم في البعد عن الناس؛ حتى لا يُذكر ويُرفع، وهو في باطنه يريد أن يُذكر بحب البعد عنهم لأجل ذلك، وإذا سُئل عن شيء يقول: لا أدري، وهو يريد أن يوصف بالحذر من القول بلا علم؛ حتى يقول: لا أدري فيما يدري، وهذا في نفسه شر ممن يقول: أعلم فيما لا يعلم، وإن كان الثاني شرًا منه في ضرره على الناس.

 


 

المصدر:

  1. عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، الفصل بين النفس والعقل، ص103
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الجاه #السلطان
اقرأ أيضا
الباطل على درجات | مرابط
اقتباسات وقطوف

الباطل على درجات


مقتطفات متفرقة لشيخ الإسلام ابن تيمية يبين فيها أن الباطل على درجات متفاوتة فبعض الفرض لديها من الباطل أقل من غيرها ويقاس ذلك بحسب قربهم أو بعدهم عن الحق فمثلا اليهودي أو النصراني أفضل من الملحد الذي لا يؤمن بإله وهكذا كلما اقترب السلم من الحق كلما كان أفضل فهناك باطل خير من باطل آخر وهناك باطل شر من باطل آخر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1810
عن قبح اللوطية وانعكاس الفطرة | مرابط
الجندرية

عن قبح اللوطية وانعكاس الفطرة


ثم أكد قبح ذلك بأن اللوطية عكسوا فطرة الله التي فطر الله عليها الرجال وقلبوا الطبيعة التي ركبها الله في الذكور وهي شهوة النساء دون الذكور فقلبوا الأمر وعكسوا الفطرة والطبيعة فأتوا الرجال شهوة من دون النساء ولهذا قلب الله سبحانه عليهم ديارهم فجعل عاليها سافلها وكذلك قلبوا هم ونكسوا في العذاب على رؤوسهم.

بقلم: ابن القيم
425
استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية | مرابط
تفريغات

استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية


الحل الصهيوني للمسألة اليهودية مثلا هو الحل الاستعماري عندك يهود زيادة إما تحرقهم أو ترسلهم فلسطين وهكذا تحل قضية الأقليات في المجتمعات المدنية عندك بضائع أرسلها للمستعمرات وهكذا أوروبا حلت مشاكلها عن طريق تصديرها للشرق وأسست مجتمعات مدنية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
488
قواعد اليقين | مرابط
مقالات المرأة

قواعد اليقين


إليك هذه قواعد.. هي أسس عند كل مسلم وهي عنده محل اليقين فاحفظها في نفسك وقولك وعملك ثم تأمل بعد ذلك ما شئت في مسألة التعرض للمرأة بما تكره:

بقلم: خالد بهاء الدين
201
ابن تيمية وحياته الحافلة بالعطاء الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

ابن تيمية وحياته الحافلة بالعطاء الجزء الثالث


سيبقى التراث الذي تركه لنا شيخ الإسلام ابن تيمية نبراسا للعلم نلتمس منه سبل الحق ونهتدي به في ظلمات الليل فحياة الرجل كانت رحلة مليئة بالعطاء والبذل دافع فيها عن دين الإسلام ونافح عن الوحي القرآن والسنة ولم يترك بابا ليلجه أهل الأهواء والباطل إلا وسده عليهم ورد عليهم سهامهم وانتصر لمذهب أهل السنة والجماعة وبين يديكم تفريغ لجزء من محاضرة هامة للشيخ الحويني يقف فيها على شخصية شيخ الإسلام وحياته وبذله

بقلم: أبو إسحق الحويني
862
هل نهى النبي عن تدوين السنة مطلقا؟ | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات أبحاث

هل نهى النبي عن تدوين السنة مطلقا؟


نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تدوين السنة ليس نهيا مطلقا ولكنه متعلق بعلة علم ذلك من النصوص الصحيحة الأخرى التي أباح فيها النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة وكذلك نهى بعض الصحابة عن التدوين كان لنفس العلة علم ذلك من سماح بعض الناهين عن التدوين بالتدوين في بعض الأحيان التي أمنوا فيها وقوع العلة بل وقيامهم هم أنفسهم بذلك وكذلك من مواقف الصحابة الآخرين الذي كانوا يبيحون التدوين ويحثون عليه.

بقلم: معتز عبد الرحمن
303