ظهور العقيدة في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد

ظهور العقيدة في الوعي المتيقظ والشعور المتوقد | مرابط

الكاتب: محمد عبد الله دراز

1937 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

(١) ما الأسباب المباشرة التي أيقظتها في النفوس؟
 

فإِذا سألنا هنا عن نشأة العقيدة الإِلهية، فليس سؤالنا منشأ هذه الضرورة الكامنة في العقل الباطن، والتي هي من الأوليات التي لا يُسأل عن مصدرها، وإِنما السؤال عن العوامل والملابسات التي تكون قد رفعت هذه الحقيقة إِلى مستوى الوعي المتيقظ، ثم لم تكتفِ بإِبرازها أمام العقل قضية نظرية، بل حولتْها إِلى فكرة حية ملهبة للمشاعر، وطبعت موضوعها بطابع خاص يجعله ذاتًا عُلويةً تتوجه إِليها القلوب بالرغبة والرهبة، والدعاء والخضوع.

 

جمهور الباحثين في هذه المسألة لا يطلبون من بحثهم الوقوف على الأسباب العامة التي تتيسر دراستها ويمكن التحقُّق من وجودها في كل عصر، والتي يُعقل أنها هي التي أيقظت ولا تزال توقظ الحاسة الدينية في الإِنسان، بل يفهمون من كلمة «نشأة الدين» الصورة التي ظهرت فيها الأديان أول ما ظهرت في الوجود، فالأولية التي يريدون تقريرها ليس أولية في الترتيب المنطقي فحسب -كتقدم المقدمات على النتائج- وليست أولية تاريخية نسبية -أعني: بالإِضافة إِلى العصور المعروفة- بل هي أولية زمانية مطلقة، تقترن بظهور الإِنسان على هذا الكوكب.

 

والمنهجُ الذي يسلكونه للوصول إِلى هذا المطلب هو التنقيب عن أديان الأمم القديمة، أو أديان الأمم المعاصرة غير المتحضرة، حتى إِذا ما انتهى بهم السير في تلك العصور المظلمة، أو تلك الأقطار المنعزلة، إِلى أقدم مظهر معروف من مظاهر التفكير الديني، اعتبروه صورةً مطابقة لِمَا كان عليه الإِنسان الأول.

 

ولما كانت المرحلةُ النهائية في نظر باحث معين لا تنطبق دائمًا على المرحلة الأخيرة التي يصل إِليها باحثٌ آخرُ؛ انقسم الباحثون في الموضوع إِلى شعبتين عظيمتين، تسيران في خَطَّيْن متعاكسين:

 

«ففريقٌ منهم» يذهب إِلى أن الدِّين بدأ في صورة الخرافة والوثنية، وأن الإِنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إِلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تَدَرَّجَ نحو الكمال في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم أن عقيدة «الإِله الأحد» عقيدة جِدُّ حديثة، وأنها وليدةُ عقلية خاصة بالجنس السامي.

هذه النظرية نادى بها أنصارُ مذهب «التطوُّر التقدمي»، أو التصاعدي Evolu-tionnism progressisie ou ascendent، الذي ساد في أُوروبا في القرن التاسع عشر، في أكثر من فرع من فروع العلوم، وحاول تطبيقه على تاريخ الأديان عددٌ من العلماء منهم سبنسر Spencer، وتيلور Tylor، وفريزر Frazer، ودوركايم Durkheim، وغيرهم. وإِن اختلفت وجهات نظرهم في تحديد صورة العبادة الأولى وموضوعها.

 

«وفريقٌ آخر» يقرر بالطرق العلمية بطلانَ هذا المذهب، ويثبت بالعكس أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدمُ ديانة ظهرت في البشر، مستدلًّا بأنها لم تنفك عنها أمةٌ من الأمم في القديم والحديث. فتكونُ الوثنيات إِن هي إِلا أعراضٌ طارئة، أو أمراضٌ متطفلة، بجانب هذه العقيدة العالمية الخالدة.

وهذه هي نظرية «فطرية التوحيد وأصالته»، التي انتصر لها جمهور من علماء الأجناس، وعلماء الإِنسان، وعلماء النفس، ومن أشهر مشاهيرهم لانج Lang الذي أثبت وجود عقيدة «الإِله الأعلى» عند القبائل الهمجية في أوستراليا، وإِفريقيا، وأمريكا. ومنهم شريدر Sheroeder الذي أثبتها عند الأجناس الآرية القديمة؛ وبروكلمان Brockelman الذي وجدها عند الساميين قبل الإِسلام، ولرواه La Roy وكاترفاج Quatrefages عند أقزام أواسط إِفريقيا، وشميدت Schmidt عند الأقزام وعند سكان أوستراليا الجنوبية الشرقية. وقد انتهى بحث شميدت هذا إِلى فكرة «الإِله الأعظم» توجد عند جميع الشعوب الذي يعدون من أقدم الأجناس الإِنسانية.(1)

 

غير أنه مهما تتفاوت النتائج في نظر المذهبين: «التطوري والفطري» فإِنهما متفقان على موضوع البحث، وهو تحديد صورة العقيدة «البدائية» الحقيقية، وعلى منهاجه، وهو دراسة الشعوب المتأخرة والأمم الغابرة.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. Schmidt. ouv. Cit, p. 30

 

المصدر:

  1. محمد عبد الله دراز، الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، ص107
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#العقيدة
اقرأ أيضا
خطة رمضان | مرابط
مقالات

خطة رمضان


من أبرز الأسئلة التي تتردد بين المسلمين مع حلول شهر رمضان الكريم: كيف نخرج من هذا الشهر بأكبر استفادة ممكنة؟ والحقيقة أن الأمر يحتاج إلى خطة عملية ليسير عليها المسلم وبين يديكم خطة يقدمها الدكتور أحمد رجب لتعين المسلم على استغلال وقته وتنظيمه.

بقلم: د. أحمد رجب
455
القلة المؤمنة | مرابط
فكر مقالات

القلة المؤمنة


يتمنى الصالحون من أبناء هذه الأمة دائما أن يشاهدوا أمتهم في مقدمة الأمم وأن يسعدوا -وتسعد الدنيا معهم- بعزتها وقوتها ومجدها لكن مع أن الأمنية واحدة إلا أن الكثير يختلف في طريق الوصول إليها والواضح أن التاريخ لا يصنعه إلا فئة قليلة مؤمنة ثابتة يكتب الله لهم النصر وهذا ما يستعرضه الكاتب في المقال

بقلم: د راغب السرجاني
2014
الإخلال بوقت الأذان | مرابط
تفريغات

الإخلال بوقت الأذان


من الناس من يؤذن قبل الوقت وخاصة في رمضان يؤذن بعضهم أذان الفجر الثاني قبل الوقت فإذا قلت له: لماذا قال لك: أذان على سبيل الاحتياط حتى يمسك الناس عن الأكل والسحور وهذا الاحتياط غلط بل لا مجال للاحتياط في هذا الباب

بقلم: سلمان العودة
367
بين الأصل والاستثناء | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات

بين الأصل والاستثناء


إنها ظاهرة الخلط بين الأصل و الاستثناء تتشابك معها القضايا في ذهن المتحدث فيدخل في أحكام الشريعة أمورا ويبرهن عليها ويكون دليله على ذلك النظر في حالات الضرورة والمنهجية الصحيحة أن يقرر أولا الحكم الشرعي الأصلي الذي يريده الله ويريده النبي صلى الله عليه وسلم ثم يتحدث بعدها عن ما يطرأ في الواقع من حالات ضرورة أو حاجة معينة تعطي نوعا من الاستثناء للحكم لا أن تتداخل فلا يعلم القارئ هل هو أمام حكم استثنائي خاص أم حكم شرعي دائم

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2092
التوبة من ترك الحسنات | مرابط
اقتباسات وقطوف

التوبة من ترك الحسنات


التوبة من ترك الحسنات أهم من التوبة من فعل السيئات والتوبة رجوع عما تاب منه إلى ما تاب إليه فالتوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله وإلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش والمظالم بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
423
إظهار المنكرات | مرابط
اقتباسات وقطوف

إظهار المنكرات


مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية يتحدث عن المظهرين للذنوب فالرجل من المسلمين لو جاهر بالذنب وجب على المسلمين أن يبغضوه بقدر ما أظهر من الذنب وأن يظهروا له الخير إذا تاب إلى الله وتراجع عن ذنبه وفي المقتطف نماذج عملية من السيرة

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
515