عقيدة شاملة الجزء الثاني

عقيدة شاملة الجزء الثاني | مرابط

الكاتب: عباس محمود العقاد

1931 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

مخاطبة العقل

كذلك يخاطب الإسلام العقل، ولا يقصر خطابه على الضمير أو الوجدان، وفي حكمه أن النظر بالعقل هو طريق الضمير إلى الحقيقة، وأن التفكير باب من أبواب الهداية التي يتحقق بها الإيمان: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ: ٤٦] كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ [البقرة: ٢١٩]، وما كان الشمول في العقيدة ليذهب فيها مذهبًا أبعد وأوسع من خطاب الإنسان روحًا وجسدًا وعقلًا وضميرًا بغير بخس ولا إفراط في ملكة من هذه الملكات.
 

القدر والحرية

وفي مشكلة المشكلات التي تعرض للمتدين يعتدل المسلم بين الإيمان بالقدر والإيمان بالتبعة والحرية الإنسانية، فمن عقائد دينه: إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ [نوح: ٤] وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر: ١١] وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ [آل عمران: ١٤٥] وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا [النساء: ٨١].

ومن عقائد دينه أيضًا: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: ١١]، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: ١١٧]. وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠].
 

الخطيئة

وليس في الإسلام أن الخطيئة موروثة في الإنسان قبل ولادته، ولا أنه يحتاج في التوبة عنها إلى كفارة من غيره، وقد قيل: إن الإيمان بالقضاء والقدر هو علة جمود المسلمين، وقيل على نقيض ذلك: إنه كان حافزهم الأول في صدر الإسلام على لقاء الموت وقلة المبالاة بفراق الحياة، وحقيقة الأمر أن المسلم الذي يترك العمل بحجة الاتكال على الله يخالف الله ورسوله؛ لأنه مأمور بأن يعمل في آيات الكتاب وأحاديث الرسول: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: ١٠٥] بل حقيقة الأمر أن خَلاصَه كله موقوف عليه، وأن إيمانه بحريته وتدبيره لا يقتضي بداهة أن الله سبحانه مسلوب الحرية والتدبير.

وأصدق ما يقال في عقيدة القضاء والقدر أنها قوة للقويِّ، وعذر للضعيف، وحافز لطالب العمل وتعلة لمن يهابه ولا يقدر عليه، وذلك ديدن الإنسان في كل باعث وفي كل تعلة كما أوضحنا في الفارق بين أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري، وهما يقولان بقول واحد في عبث الجهد وعبث الحياة.

فأبو الطيب يقول عن مراد النفوس:

ومُراد النُّفوس أهونُ مِنْ أن

نَتَعادى فيه وأن نَتَفَانى

ثم يتخذ من ذلك باعثًا للجهاد والكفاح فيقول:

غير أن الفتى يُلَاقي المنايا

كالِحَات ولايُلاقي الهوانا

 

والمعري يقول: إن التعب عبث؛ لأنه لا يؤدي بعده إلى راحة في الحياة، ولكنه يعجب من أجل هذا لمن يتعبون، ويطلبون المزيد:

تعبٌ كلُّها الحياةُ فما أعـ

ـجبُ إلا مِنْ راغب في ازدياد

وعلى هذا المثال يقال تارة: إن عقيدة القضاء والقدر نفعت المسلمين، ويقال تارة أخرى: إنها ضرتهم وأوكلتهم إلى التواكل والجمود، وصواب القول أنهم ضعفوا قبل أن يفسروا القضاء والقدر ذلك التفسير، وتلك خديعة الطبع الضعيف.
 

لماذا توصف العقيدة الإسلامية بالشمول؟

 

وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول؛ لأنها تشمل الأمم الإنسانية جميعًا كما تشمل النفس الإنسانية بجملتها من عقل وروح وضمير.

فليس الإسلام دين أمة واحدة، ولا هو دين طبقة واحدة، وليس هو للسادة المسلطين دون الضعفاء المسخرين، ولا هو للضعفاء المسخرين دون السادة المسلطين، ولكنه رسالة تشمل بني الإنسان من كل جنس وملة وقبيل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ: ٢٨] … قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ١٥٨].

قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: ١٣٦]. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: ٦٢].

فهذه عقيدة إنسانية شاملة لا تخص بنعمة الله أمة من الأمم؛ لأنها من سلالة مختارة دون سائر السلالات لفضيلة غير فضيلة العمل والصلاح.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: ١٣].

وفي أحاديث النبي عليه السلام أنه: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.»

وليس للإسلام طبقة يؤثرها على طبقة أو منزلة يؤثرها على منزلة، فالناس درجات يتفاوتون بالعلم، ويتفاوتون بالعمل، ويتفاوتون بالرزق، ويتفاوتون بالأخلاق:

يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: ١١].

لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [النساء: ٩٥].

وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ [النحل: ٧١].

هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩].

وإذا ذَكر القرآنُ الضعفَ فلا يذكره لأن الضعف نعمة أو فضيلة مختارة لذاتها، ولكنه يذكره ليقول للضعيف: إنه أهل لمعرفة الله إذا جاهد وصبر وأنف أن يسخر لبه وقلبه للمستكبرين، وإلا فإنه لمن المجرمين.

 

يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ [سبأ: ٣١، ٣٢].

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: ٥، ٦].

 

وما من ضعيف هو ضعيف إذا صبر على البلاء، فإذا عرف الصبر عليه فإنه لأقوى من العصبة الأشداء.

الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: ٦٦].

فما كان الإله الذي يدين به المسلم إله ضعفاء أو إله أقوياء، ولكنه إله من يعمل ويصبر ويستحق العون بفضل فيه، جزاؤه أن يكون مع الله، والله مع الصابرين.
 

عقيدة شاملة

 

بهذه العقيدة الشاملة غلب المسلمون أقوياء الأرض، ثم صمدوا لغلبة الأقوياء عليهم يوم دالت الدول، وتبدلت المقادير، وذاق المسلمون بأس القوة مغلوبين مدافعين.

وهذه العقيدة الشاملة هي التي أفردت الإسلام بمزية لم تعهد في دين آخر من الأديان الكتابية، فإن تاريخ التحول إلى هذه الأديان لم يسجل لنا قط تحولًا إجماعيًّا إليها من دين كتابي آخر بمحض الرضى والاقتناع؛ إذ كان المتحولون إلى المسيحية أو اليهودية قبلها في أول نشأتها أممًا وثنية على الفطرة لا تدين بكتاب، ولم تعرف قبل ذلك عقيدة التوحيد أو الإله الخالق المحيط بكل شيء، ولم يحدث قط في أمة من الأمم ذات الحضارة العريقة أنها تركت عقيدتها لتتحول إلى دين كتابي غير الإسلام.

وإنما تفرد الإسلام بهذه المزية دون سائر العقائد الكتابية، فتحولت إليه الشعوب فيما بين النهرين وفي أرض الهلال الخصيب وفي مصر وفارس، وهي أمة عريقة في الحضارة كانت قبل التحول إلى الإسلام تؤمن بكتابها القديم، وتحول إليه أناس من أهل الأندلس وصقلية كما تحول إليه أناس من أهل النوبة الذين غبروا على المسيحية أكثر من مائتي سنة، ورغبهم جميعًا فيه ذلك الشمول الذي يجمع النفس والضمير، ويعم بني الإنسان على تعدد الأقوام والأوطان، ويحقق المقصد الأكبر من العقيدة الدينية فيما امتازت به من عقائد الشرائع وعقائد الأخلاق وآداب الاجتماع.

وإبراز هذه المزية -مزية العقيدة الإسلامية التي أعانت أصحابها على الغلب وعلى الدفاع والصمود- هو الذي نستعين به على النظر في مصير الإسلام بعد هاتين الحالتين، ونريد بهما حالة القويِّ الغالب وحالة الضعيف الذي لم يسلبه الضعف قوة الصمود للأقوياء، إلى أن يحين الحين، ويتبدل من حالتي الغالب والمغلوب حالته التي يرجوها لغده المأمول، ولئن كانت حالة الصمود حسنى الحالتين في مواقف الضعف مع شمول العقيدة وبقائها صالحة للنفس الإنسانية في جملتها وللعالم الإنساني في جملته؛ ليكونن المصير في الغد المأمول أكرم ما يكون مع هذه القوة وهذا الشمول.

 


 

المصدر:

  1. عباس محمود العقاد، الإسلام في القرن العشرين، ص23
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#عباس-العقاد
اقرأ أيضا
الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج1 | مرابط
تاريخ تعزيز اليقين

الهجرة النبوية نقطة تحول في التاريخ الإنسان ج1


إن التأمل والتدبر في تفاصيل الهجرة النبوية المباركة يجعلنا نتيقن وبما لا يدع مجالا للشك أن الهجرة النبوية كانت حدثا حاسما في الدعوة المحمدية أرست الأسس والنواة الصلبة لدولة الإسلامية الناشئة كما حملت لنا عبرا ودروسا وافرة نستفيد منها ونستجلي منها قيما وأخلاقا حميدة وبين يديكم مجموعة من الفوائد والدروس والمآثر من وحي السيرة

بقلم: علي الصلابي
778
الحكمة من خلق الخلق ج1 | مرابط
تفريغات

الحكمة من خلق الخلق ج1


تفريغ لمحاضرة هامة للشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني يقف فيها على سؤال بديهي وربما لا يخطر لكثير من الناس رغم حاجتهم الشديدة إليه ألا وهو: لماذا خلق الله الخلق من الملائكة والإنس والجن فمعرفة هذا الجواب وإدراك الغاية والحكمة من الخلق ربما يبدل الكثير من التصورات الخاطئة عند الناس ويعينهم على العودة إلى طريق الرشاد

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
493
الرد على من قال بمساواة المرأة بالرجل | مرابط
اقتباسات وقطوف المرأة

الرد على من قال بمساواة المرأة بالرجل


من الدعوات الهدامة التي انتشرت في بلادنا الإسلامية: دعوة المساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء وكان ذلك نتاج تصاعد الموجة الليبرالية والنسوية والتي وصلت إلى بلادنا وتغلغلت في نفوس المسلمين وفي هذا المقتطف من كتاب حكم الجاهلية يرد الشيخ أحمد شاكر على هذه الدعوة

بقلم: أحمد شاكر
1099
الرأسمالية ومعاناة الإنسان | مرابط
فكر

الرأسمالية ومعاناة الإنسان


قرابة 40 في المئة من الغذاء الذي يتم إنتاجه ومعالجته ونقله في أمريكا يتم إهداره.. هل تتخيل الرقم؟ .. هذه الكمية وحدها كافية للقضاء على الجوع في العالم.. بل تزيد عن القدر المطلوب! .. فالأمريكان من أكثر الشعوب شهية وأكثرهم سمنة بسبب عاداتهم الغذائية.

بقلم: علي محمد علي
365
فضل الذكر في العشر الأواخر | مرابط
اقتباسات وقطوف

فضل الذكر في العشر الأواخر


من أفضل الأعمال وأيسرها الذكر خاصة ليل رمضان لسهولته ولو وافق ليلة القدر لرجي له المضاعفة عشرات آلاف المرات وأفضل الذكر كلمة التوحيد وأفضل صيغها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

بقلم: عبد العزيز الطريفي
305
ما أنت في عالم الإلحاد | مرابط
الإلحاد

ما أنت في عالم الإلحاد


أن تكون ملحدا هو أن تصنع خرافة ثم تتعايش معها وتجلد بسيف العلم من لم يتابعك في إيمانك بالخرافة وكل ذلك صارف عن فهم الحكمة في خلف الكون والحكمة من رسالات الوحي نفي الإادة الحرة من لوازم الإلحاد المادي ومبطل لكل فضيلة أخلاقية أو معرفية يدعيها الملحد

بقلم: سامي عامري
533