ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما" إلى معرفة عين الأم، وكما توصل أمير المؤمنين علي - عليه السلام - بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب ما أنكرته لتخرجن الكتاب أو لأجردنك إلى استخراج الكتاب منها.وكما توصل الزبير بن العوام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دلهم على كنز جبى لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: المال كثير والعهد أقرب من ذلك، وكما توصل النعمان بن بشير بضرب المتهمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم، فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم، وأخبر أن هذا حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسول وقوله: " فما أدلى إليك " أي ما توصل به إليك من الكلام الذي تحكم به بين الخصوم، ومنه قولهم: أدلى فلان بحجته، وأدلى بنسبه، ومنه قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام} [البقرة: 188] أي تضيفوا ذلك إلى الحكام وتتوصلوا بحكمهم إلى أكلها.
فإن قيل: لو أراد هذا المعنى لقيل: " وتدلوا بالحكام إليها " وأما الإدلاء بها إلى الحكام فهو التوصل بالبرطيل بها إليهم فترشوا الحاكم لتتوصلوا برشوته إلى الأكل بالباطل.
قيل: الآية تتناول النوعين، فكل منهما إدلاء إلى الحكام بسببها، فالنهي عنهما معاوقوله: "فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له" ولاية الحق: نفوذه، فإذا لم ينفذ كان ذلك عزلا له عن ولايته، فهو بمنزلة الوالي العدل الذي في توليته مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فإذا عزل عن ولايته لم ينفع ومراد عمر بذلك التحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم، ولا ينفع تكلمه به إن لم يكن له قوة تنفيذه، فهو تحريض منه على العلم بالحق والقوة على تنفيذه، وقد مدح الله سبحانه أولي القوة في أمره والبصائر في دينه فقال: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} [ص: 45] فالأيدي: القوى على تنفيذ أمر الله، والأبصار: البصائر في دينه.
المصدر:
ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ص70