منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الأول

منزلة السنة من الكتاب الكريم الجزء الأول | مرابط

الكاتب: محمد الغزالي

1486 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

من حقّ المسلم أن يرتّب المصادر التي يأخذ عنها دينه، وأن يدرك الوضع الصحيح للمحفوظ من قول النبيّ عليه الصلاة والسلام وفعله، إلى جوار السّجل الثابت للوحي الإلهي الذي خصّت به الرسالة الخاتمة.
 

القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم

إن القرآن روح الإسلام ومادته، وفي آياته المحكمة شرع دستوره، وبسطت دعوته، وقد تكفّل الله بحفظه فصينت به حقيقة الدين، وكتب لها الخلود أبد الآبدين، والرجل الذي اصطفاه الله لإبلاغ آياته وحمل رسالاته، كان (قرآنا) حيّا يسعى بين الناس، كان مثالا لما صوّره القرآن من إيمان وإخبات، وسعي وجهاد وحق وقوة، وفقه وبيان، فلا جرم أن قوله وفعله وتقريره وأخلاقه وأحكامه، ونواحي حياته كلها؛ تعدّ ركنا في الدين، وشريعة للمؤمنين. إن الله اختاره ليتحدّث باسمه ويبلّغ عنه، فمن أولى منه بفهم مراد الله فيما قال؟! ومن أولى منه بتحديد المسلك الذي يتواءم مع دلالات القرآن القريبة والبعيدة؟!.

إن تطبيق القانون لا يقلّ خطرا عن صياغته، وللقانون نصّ وروح، وعند علاج الأحداث المختلفة لتسير وفق القانون العتيد، تجدّ فتاوى وتدوّن نصائح وتحفظ تجارب وعبر، وتثبت أحكام بعضها أقرب إلى حرفية النص وبعضها أدنى إلى روحه، وهكذا. والقرآن هو قانون الإسلام، والسنّة هي تطبيقه، والمسلم مكلّف باحترام هذا التطبيق تكليفه باحترام القانون نفسه، وقد أعطى الله نبيّه حقّ الاتباع فيما يأمر به وينهى عنه؛ لأنه- في ذلك- لا يصدر عن نفسه، بل عن توجيه ربه، فطاعته هي طاعة الله، وليست خضوعا أعمى لواحد من الناس.

قال الله عز وجلّ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) [النساء].
وقال: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44].
وقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7].
 

مواهب الإنسان وركاب المرسلين

على أن الإلهام الأعلى لا يعطّل مواهب الإنسان الراقي، فمن الخطأ أن نتصور المرسلين أناسا مسخّرين تنطقهم الملائكة أو تسكتهم، إنهم لو لم يكونوا أنبياء لكانوا رجالا يرمقون باحترام، ويقدّمون عن جدارة.

إنّ الوحي لا يصيب الناس اتفاقا، بل يرشّح له أكمل الناس رشدا، وأسبقهم فضلا، وأنبلهم خلقا، وأنضجهم رأيا. وسيرة هؤلاء في الحياة ليست مما ينبذ، وكلمهم ليس مما يهمل، فكيف إذا تأيّدت هذه العراقة بالعصمة، وهذا الذكاء بالتسديد؟!.

إنّ السّير في ركاب المرسلين هو الخير كله، ومن ثمّ كانت سنّة محمد عليه الصلاة والسلام مصدرا لشريعته، مع الكتاب الذي شرّفه الله به، وجمهور المسلمين على هذا الفهم، إلا أن السّنن المأثورة عرض لها ما يوجب اليقظة في تلقيها، فليس كل ما ينسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام سنّة تقبل، ولا كلّ ما صحت نسبته صح فهمه، أو وضع موضعه!!
 

نظرة الريبة إلى الأحاديث النبوية

والمسلمون لم يؤذوا من الأحاديث الموضوعة قدر ما أوذوا من الأحاديث التي أسيء فهمها، واضطربت أوضاعها؛ حتى جاء أخيرا من ينظر إلى السنن جمعاء نظرة ريبة واتهام، ويتمنّى لو تخلّص المسلمون منها، وهذا خطأ من ناحيتين: إهمال الحقيقة التاريخية أولا، فإن الدنيا لم تعرف بشرا أحصيت آثاره، ونقدت بحذر، ومحّصت بدقة كما حدث ذلك في آثار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم «1»، فكيف ترمى بعد ذلك في مطارح الإهمال؟!

والناحية الاخرى أن في السنّة كنوزا من الحكمة العالية، لو نسب بعضها إلى أحد من الناس لكان من عظماء المصلحين، فلماذا تضيع على صاحبها ويحرم الناس خيرها؟!.
 

تراث محمد عليه الصلاة والسلام

عند ما درسنا تراث محمد عليه الصلاة والسلام في الأخلاق، وذاكرنا أحاديثه التي تربو على الألوف في شتى الفضائل؛ خيّل إلينا لو أن جيشا من علماء النفس والتربية اجتمع ليسوق للعالم مثل هذا الأدب لعجز، والأخلاق شعبة واحدة من رسالة محمد عليه الصلاة والسلام الضخمة، إلا أنّ الاشتغال بالسنّة -مع هذا- يجب أن يحظر على من لم يستجمع الشروط التي تجعل مثل هذا الاشتغال مفيدا للإسلام والمسلمين.

 

الاشتغال بالسنة

1- فلا يجوز أن يشتغل بالسنّة من لم يدرس علوم القرآن، ويضرب فيها بسهم وافر، فإن القرآن هو الدستور الأصيل للإسلام، وهو الذي يحدّد للمسلم بدقة تامة واجباته وحقوقه، ويرتّب التكاليف المنوطة به، ويوزّع العبادات على حياته، فلا تطغى عبادة على أخرى، ولا تطغى كلها على عمله للحياة ومكانه فيها، والمرء الذي يعجز عن تحصيل هذه الحقائق من القرآن لن يعوضه عن فقدانها شيء اخر، والصورة التي تستقر في نفسه للإسلام -من غير القرآن- تضطرب فيها النّسب والألوان، وربما لحقها اختلاف كبير.

ولذلك حرص أئمة الصّحابة على أن يخلوا الطريق للقران الكريم ليحتلّ مكانته الأولى في القلوب، وحرصوا على ألّا يزاحمه في موضع الصّدارة شيء، روى ابن عبد البر في كتابه (جامع العلم وفضله) بأسانيده التي ذكرها، قال: عن جابر بن «2» عبد الله بن يسار قال: سمعت عليّا يقول: أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث اتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم.

وعن الزهري عن عروة «3» : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن، فاستفتى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما، وقد عزم الله له، فقال: «إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني- والله- لا أشوب -وفي رواية: لا أنسي- كتاب الله بشيء أبدا».
 
وعن ابن سيرين قال: إنما ضلّ بنو إسرائيل بكتب ورثوها عن آبائهم.. ودخل علقمة والأسود على عبد الله بن مسعود، ومعهما صحيفة فيها حديث حسن، فقال عبد الله بن مسعود: يا جارية هاتي بطشت واسكبي فيه ماء، فجعل يمحوها بيده ويقول: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ" [يوسف: 3]، فقالا له: انظر فيها حديثا عجيبا، فجعل يمحوها ويقول: إن هذه القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره -كانت الصحيفة تضم طرفا من علوم أهل الكتاب-.

وعن عامر الشعبي «4» عن قرظة بن كعب «5» قال: خرجنا نريد العراق، فمشى معنا عمر إلى (صرار)، ثم قال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشيت معنا تريد أن تشيّعنا وتكرمنا. فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جوّدوا القرآن، وأقلّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، امضوا وأنا شريككم. فلما قدم (قرظة) قالوا: حدثنا، قال: نهانا عمر بن الخطاب.
 

الصحابة لم يجحدوا السنة

وعمر وعلي وغيرهما من الأئمة لا يجحدون السنة، ولكنهم يريدون إعطاء القرآن حظّه الأوفر من الحفاوة والإقبال. وذلك هو الترتيب الطبيعي فلا بد من معرفة القانون كله معرفة سليمة قبل الخوض في شروح وتفاصيل لبعض أجزائه، إذ إن هذه التفاصيل والشروح لا يحتاج إليها كل أحد، وربما شحنت الأذهان فلم تترك بها فراغا للأصول اللازمة والقواعد الهامة.وخصوصا لأن الطريقة التي تروى بها الأحاديث تجمع في صعيد واحد ما صدر عن الرسول عليه الصلاة والسلام متناثرا في أمكنة شتى، وأزمنة شتى، وملابسات شتى.

عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: ألا يعجبك أبو هريرة؟! جاء يجلس إلى جانب حجرتي يحدّث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، يسمعنى وكنت أسبح، فقام قبل أن أقضي سبحتي -أنهي صلاتي- ولو أدركته لرددت عليه. إن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يكن يسرد الحديث كسردكم «6» ..!!

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. قد تكفّل المحدّثون رضي الله عنهم بتتبع الأحاديث النبوية، وتمييزها، وشرحها، ووضعها في موضعها، فجزاهم الله عن المسلمين خيرا.
  2. كذا هو في (جامع بيان العلم) : 1/ 62، وهو خطأ من الناسخ أو الطابع، ومثله فيه كثير! والصواب: «عن جابر، عن عبد الله بن يسار» ، وجابر هذا- هو الجعفي- هو ضعيف جدا، وقد كذبه الجوزجاني وغيره.
  3. عروة: هو ابن الزبير، لم يسمع من عمر بل لم يدركه، فهذا الأثر منقطع ضعيف، كذلك رواه الخطيب في (تقييد العلم) ، ص 49- 51، من طرق عن عروة. اللهم إلا رواية راشد عن الزهري، فإنه وصله بذكر عبد الله بن عمر بين عروة وعمر، وهي شاذة كما أشار إلى ذلك الخطيب نفسه.
  4. هو عامر بن شراحيل، أبو عمرو، أحد أعلام التابعين، أدرك خمسمئة من الصحابة، توفي سنة ثلاثمئة. انظر: الكاشف: 1/ 522.
  5. هو قرظة بن كعب الأنصاري رضي الله عنه، صحابي، ولي الكوفة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: الكاشف: 2/ 136.
  6. أخرجه الشيخان في صحيحيهما؛ وأبو داود: 2/ 125، طبع التازي؛ وابن عبد البر: 2/ 121.

 

المصدر:

  1. محمد الغزالي، فقه السيرة النبوية، ص37
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#السنة-النبوية
اقرأ أيضا
الأهواء المتدينة | مرابط
فكر مقالات

الأهواء المتدينة


نتعامل في واقعنا المعاصر مع إشكال جديد يمكن تسميته بالأهواء المتدينة هذا الإشكال يظهر في أن ترك الالتزام بالأحكام الذي هو من جنس التقصير والهوى أصبح محسنا مزينا في نفس المسلم متوافقا مع الدين مقربا إلى الحق فلم تعد تلك المخالفات متضمنة مفسدة المخالفة فقط بل أضيف لها مفسدة التحسين والتزيين للهوى والباطل

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1020
الاغترار بصوم عاشوراء | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاغترار بصوم عاشوراء


فرمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة لا يقوى على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر فكيف يكفر صوم يوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصر عليها غير تائب منها؟! هذا محال.

بقلم: ابن القيم
373
أسلوب الوصاية | مرابط
فكر مقالات

أسلوب الوصاية


والوصاية ضد الشبهات التي تسبب رقة التدين مطلب شرعي سواء كان الذي يشيع هذه الشبهات زنديق علماني أو من متفقهة التغريب الذين يغرسون في الناس النظرة المادية للحياة ويهونون من تعظيمهم للنص باسم الخلاف ويشحنون الناس ضد المحتسبين والدعاة دوما بالسذاجة والتهور وضيق الأفق وقلة الوعي وأنهم يغرقون في كأس ماء ونحوها من العبارات التي يتشربها المستمع فتؤثر في نظرته لأهل العلم والدعاة بعامة ويجمدون مشاعر الغيرة والحمية باسم الرزانة والحكمة والهدوء ونحو ذلك

بقلم: إبراهيم السكران
2207
مكانة السنة النبوية | مرابط
تعزيز اليقين فكر

مكانة السنة النبوية


إن دراسة السنة من أهم العلوم وأفضلها وأشرفها عند الله سبحانه وتعالى وإن من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى الله سبحانه وتعالى ويسعى إليه الساعون هو طلب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك العناية بصحيحها وسقيمها فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله سبحانه وتعالى أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل وهي قرينة للقرآن من جهة الاحتجاج ولذا فإنه قد أجمع أهل السنة على أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله سبحانه وتعالى

بقلم: عبد العزيز الطريفي
1045
الغش في البيوع | مرابط
اقتباسات وقطوف

الغش في البيوع


مقتطف من كتاب الحسبة في الإسلام لشيخ الإسلام ابن تيمية يدور حول الغش في البيوع وذلك يحدث بطريق أو بآخر مثل كتمان العيوب وتدليس السلع مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرا من باطنه ويحدثنا عن الكيماوية وطرقهم في الغش والخداع والتلبيس على الخلق

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
725
بين الإمام أحمد والكرابيسي | مرابط
مناظرات فكر مقالات

بين الإمام أحمد والكرابيسي


من باب المباحثة مع إخوتي الكرام حول قصة الإمام أحمد مع حسين الكرابيسي المشهورة وشدة موقف الإمام أحمد منه كما جاء ذلك عنه بروايات كثيرة وهنا في هذه الخاطرة القصيرة محاولة لتسليط المجهر حول هذه القصة وتداعياتها والبحث عن ملابساتها وواقعها الزمني قبل الحكم عليها

بقلم: عبد اللطيف بن عبد الله التويجري
2092