الشعور بالذنب في زمن الحداثة

الشعور بالذنب في زمن الحداثة | مرابط

الكاتب: عبد الله الوهيبي

446 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

يلاحظ بعض المحللين شيوع شكوى الأفراد من ألم “الشعور بالذنب” في الزمن المعاصر، ومظاهر ذلك متعددة، فتظهر مثلًا في انتشار خطاب مسامحة الذات، وفي الاهتمام الذي تبديه المعالجات النفسية بهذا اللون من الشعور الممضّ والممرض، وكما يلاحظ المعالج النفسي إيرفن يالوم -على لسان إحدى شخصياته الروائية- فقد أصبح لدى “كل معالج متمرّس ترسانة من أساليب نسيان الماضي والمسامحة”، وهو يرى بأن “صناعة (المغفرة) البسيطة والحذرة تضخمت كثيرًا، وسوّقت هذا الجانب من العلاج إلى كل شيء، وقدمتها على أنها شيء جديد ومبتكر، وحظيت باحترام ضمني ممزوج بمناخ المغفرة الاجتماعي والسياسي الحالي، الذي يتناول طائفة من الجرائم، كالإبادة الجماعية، والاستعباد، والاستغلال الاستعماري، حتى إن البابا طالب –مؤخرًا- بالمسامحة لقيام الصليبيين بنهب القسطنطينية، وطرد سكانها في القرن الثالث عشر”.

ويرصد الناقد الفرنسي جان تادييه الحضور الكثيف لهذه الظاهرة في الرواية الحديثة وروايات القرن العشرين، عند دوستويفسكي وفرانز كافكا ومارسيل بروست (يشير إلى أن الرواي في “البحث عن الزمن المفقود” يقدم نفسه بصفته واحدًا من أكبر المذنبين في القرن العشرين)، وجوزيف كونراد وكامو، وآخرين.

دوافع الشعور بالذنب

وعند التأمل والفحص تبرز أمامنا جملة تفسيرات جزئية تكشف عن دوافع هذا الشعور ومسبباته:

تفرد الإنسان في الحداثة

التفسير الأول يرى أن الشعور “الطبيعي” العميق بالذنب ينجم ضمن عملية تفرّد الإنسان في الحداثة، وهذه العملية الضرورية للتطور والنمو تستوجب على الفرد أن يضع نفسه في مواجهة الطبيعة أو الكون، وهذه الوضعية تشعر الفرد بالضعة الهائلة أمام الكون، وتملؤه بإحساس الضآلة والصغر والهامشية وانعدام القيمة، ومن ثمّ يتولّد الشعور بالذنب.

إدراك الإنسان لمحدوديته

والتفسير الثاني يُرجع الشعور بالذنب إلى إدراك الإنسان لمحدودية وضعه الوجودي، فالفرد حين “يشعر بملكاته، ومواهبه وقدراته، وبأن حياته هي الفرصة الوحيدة المعطاة له، وأنه إذا فقد هذه الفرصة فقد كل شيء، وهو يعيش في رغد مريح ومع ذلك يشعر بأن الحياة تمرق من بين أصابعه، ولا يسعه إلا الإحساس بالذنب من أجل التبديد، ومن أجل الفرصة الضائعة” كما يرى إيريك فروم (ت1980م). وهذا ما يسميه بعض النفسانيين بالذنب الوجودي (ontological guilt) ويقصدون به الشعور الذي “ينشأ –جزئيًا على الأقل- من إضاعة وتبديد إمكانات الفرد الكامنة”.

تجاهل المنابع الدينية

وإذا نظرنا من منظار آخر سنتبين مصدر مهم وجوهري –في ظني- للشعور المعاصر بالذنب، وهو تجاهل الفطرة والأسس الاخلاقية ذات المنبع الديني، وهذا هو التفسير الثالث فالرغبة الجامحة بالسيطرة التامة على الذات بغرض تحريرها، وإخضاع كل مسببات الألم النفسي للتشخيص والمعالجة، مع الحفاظ –في الوقت نفسه- على إقصاء الأبعاد الروحية والغيبيات الدينية، والحرص على ضبط وتنظيم -وحتى كبت- الدوافع الغامضة و”غير العقلانية” المؤثرة على السلوك الفردي المراد تحريره من تعاساته المؤرقة؛ كل ذلك يكرس من انفصال الفرد عن فطرته الأصلية، وفقدانه الاتساق مع طبيعته الوجودية وتطلعات ذاته الدفينة للمعنى، وكما يقول تشارلز تايلور: “يوجد أصل الذنب، والاغتراب، والانقسام الداخلي ولو جزئيًا على الأقل؛ في الطموح إلى شيء متعالٍ“. ويمكن التعبير عن ذلك بعبارة أخرى؛ فيقال إن الشعور بالذنب هو شكل من أشكال الاحتجاج الباطني على إعراض الفرد عن مقتضيات العبودية، وكبته لأشواق الصلات الإلهية، وقمعه الواعي أو اللاواعي لهذه النداءات الفطرية.

وهذا “الاحتجاج” اللاإرادي ليس غريبًا، فحتى الجسد يحتجّ -أحيانًا- على الانحراف الأخلاقي، فقد درس الأنثروبولوجي البريطاني هيو غسترسون مواقف علماء الفيزياء النووية، ونقل عن أحدهم أنه رفض العمل على تطوير أسلحة نووية، وشرح سبب ذلك بقوله: “إن رأسي يفهم الأسباب التي تدعو إلى العمل على الأسلحة، للردع وما إلى ذلك، ولكن حين أفكر في القيام بهذا العمل أشعر بذلك الشيء في معدتي”.

الجوانب العملية في حياة الفرد

وهناك تفسير رابع يمسّ الجوانب العملية في حياة الفرد اليومية؛ ومفاده أن الشعور بالذنب ينبع من التضارب الدائم والحادّ بين المعرفة والإرادة، أو تناقض دوافع إشباع الرغبات والغرائز والمشتهيات مع المعرفة والوعي بمخاطر تلك الإشباعات وأضرارها، وهذه وضعية ليست جديدة على الإنسان، بل هي جزء من تكوينه منذ البداية، إلا أن الجديد في الزمن المعاصر يكمن في تضخّم الدعاية وآليات التسويق الرأسمالية من جهة، وتراخي القيود الدينية والحدود الأخلاقية من جهة أخرى، واتساع المعرفة المفّصلة بالآثار السلبية للاندفاع وراء تلك الرغبات من جهة ثالثة؛ فعروض وإعلانات الأطعمة الضارة -مثلًا- تقابل الفرد بصورة شبه يومية، وتتفنّن في إغوائه واستمالته، وفي الوقت نفسه يواجه الفرد توعيةً صحية مكثّفة، من خلال البرامج والشبكات ووسائط المعرفة المختلفة، وضغوطًا قوية للانضباط الغذائي، وترويجًا مستمرًا لأساليب التخلص من الوزن الزائد…الخ، فبين هذا وذاك ينشأ الشعور العميق بالذنب، ليس فقط بسبب ضعف الالتزام بالغذاء الصحي، بل إنه في ظل الاقتصاد الاستهلاكي، وتسويق الإشباع الكثيف للرغبات وإدمانها، ذكر بعض الأطباء والمحللين النفسيين أن مرضاهم يشعرون بالذنب؛ “لأنهم لا يمتلكون الرغبة في الانغماس بالملذات، والاستزادة منها”. كما يقول سلافوي جيجيك. وقسْ هذه الحالة التناقضية على بقية الشهوات والرغبات الإنسانية.

وأخيرًا ربما ساهمت عقيدة الفداء والخطيئة الأصلية المتغلغلة في المخيال الثقافي الغربي في تضخّم مشاعر الذنب أيضًا.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#شعور-الذنب
اقرأ أيضا
موانع قبول الحق | مرابط
اقتباسات وقطوف

موانع قبول الحق


مقتطف رائع لابن قيم الجوزية من كتاب هداية الحيارى يشير فيه إلى موانع قبول الحق التي تحول بين الشخص وبين الانقياد للحق حتى لو أنه ليس جاهلا به فهناك الكثير من المحاور الأخرى أو الأسباب الأخرى التي تمنع ذلك وهنا يستعرضها لنا بشكل دقيق

بقلم: ابن القيم
2142
شعب واحد وقضية واحدة | مرابط
فكر مقالات

شعب واحد وقضية واحدة


فلا مجاز لنا نحن العرب إلا أن نعرف أنفسنا وأن ندرك حقيقة حياتنا وأن نؤمن بأن القوى لا ينال بقوته بل باستسلامنا وأنه لا يحيف علينا ببطشه بل بتهاوننا واستصغارنا لشأن أنفسنا وأن أجهل الجهل أن يظن ظان أن مئة مليون من خلق الله يمكن أن يفنوا على بكرة أبيهم بسطوة ساط أو بغي باغ وأنهم هباء لا يزن في ميزان القوة جناح بعوضة وأنهم غنم مسيرون يهاهىبهم راع عنيف تسوقهم عصاه إلى حيث أراد

بقلم: محمود شاكر
476
موقف الفكر الإسلامي من العلمانية ج1 | مرابط
تفريغات

موقف الفكر الإسلامي من العلمانية ج1


ولو نظرنا إلى العلمانية لوجدنا أن القضية قضية توحيد دعا إليه الرسل جميعا ونزلت به الكتب جميعا يقابله شرك وجهل وجاهلية وخرافات وردود فعل بشرية جاءت في فترات معينة في قوم معينين لا يصلح بأي حال أن يكون مبدأ أو منهجا يسير عليه البشر جميعا في كل مكان ولا سيما من كان الوحي النقي بين أيديهم وفي متناولهم ويقرءونه ويتلونه ليلا ونهارا فمن هذه القضية يبدأ الموضوع

بقلم: سفر الحوالي
737
استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية | مرابط
تفريغات

استرداد مقولة الإمبريالية كمقولة تحليلية


الحل الصهيوني للمسألة اليهودية مثلا هو الحل الاستعماري عندك يهود زيادة إما تحرقهم أو ترسلهم فلسطين وهكذا تحل قضية الأقليات في المجتمعات المدنية عندك بضائع أرسلها للمستعمرات وهكذا أوروبا حلت مشاكلها عن طريق تصديرها للشرق وأسست مجتمعات مدنية

بقلم: عبد الوهاب المسيري
475
تعليل الأحكام: بين مقام التسليم واتباع الهوى | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين

تعليل الأحكام: بين مقام التسليم واتباع الهوى


لا يتوقف الانقياد للأمر الشرعي على البحث عن الحكمة أو العلة أو غير ذلك من التفاصيل التي غرق فيها المعاصرون وإنما مجرد ثبوت الأمر عن النبي كان كافيا جدا للامتثال والتنفيذ ولكننا اليوم نرى المسلم يكسر قاعدة التسلم بدعوى مخالفة الرأي أو عدم ثبوت الحكمة أو غير ذلك ويتجاهل أن اختبار تسليم العبد من ضمن مقاصد الشريعة الواضحة

بقلم: محمود خطاب
617
باطل مشرق | مرابط
فكر مقالات

باطل مشرق


وهذه الرقعة المتراحبة من حدود الصين إلى المغرب الأقصى والتي تسكنها أمم ورثت اسم الإسلام فنسبت إليه ووصفت به تعيش اليوم في بريق متلالئ من هذا الباطل المشرق فمنذ أكثر من مائتي سنة ضربها الغازي الصليبي المستعمر ضربة رابية حتى خرت عاجزة ثم ظل يضربها حتى همدت أو كادت وفي خلال ذلك كان الغازي يستحييها بحياة غريبة عنها حتى يأتي يوم تتبدل فيه من حياة كانت إلى حياة سوف تكون وكذلك يقضي قضاء ساحقا على أسباب الحياة الأولى الحياة التي كانت تعرف بالحياة الإسلامية

بقلم: محمود شاكر
1683