علاقة الأخذ بالأسباب بالإيمان بالقدر

علاقة الأخذ بالأسباب بالإيمان بالقدر | مرابط

الكاتب: د علي الصلابي

1511 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إنّ الله تعالى قدّر الأشياءَ بأسبابها، فالقدر يتعلّق تعلقًا واحدًا بالسبب وبالمسبب معًا، أي إن هذا المسبب سيقع بهذا السبب، ومن الأدلة على ذلك قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله خلق للجنة أهلًا، خلقها لهم وهم في أصلاب ابائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلق للنارِ أهلًا، خلقَها لهم وهم في أصلابِ ابائهم، وهم بعمل أهل النار يعملون».

 

وفي المضمار نفسِه أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم صحابته بأنَّ الله كتب المقادير، فقالوا: أفلا نمكثُ على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كانَ مِنْ أهلِ السعادةِ فسيصيرُ إلى عَمَلِ أهلِ السعادةِ، وَمَنْ كان من أهلِ الشقاوةِ فسيسيرُ إلى عملِ أهل الشقاوةِ، اعملوا فكلُّ ميسَّرٌ، أمّا أهلُ السعادةِ فييسرون لعمل أهل السعادةِ، وأمّا أهلُ الشقاوة فِييسَّرون لعملِ أهلِ الشقاوة، ثم قرأ ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *﴾[الليل: 5 ـ 10]».

 

وفي هذا الحديث النهيُ عن ترك العمل، والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجبُ الأعمالُ والتكاليفُ التي ورد الشرع بها، وكلُّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له، لا يقدر على غيره.
فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أرشدَ الأمةَ في هذا الحديث في شأن القدر إلى أمرين هما سبب السعادة: الإيمان بالأقدار، إذ هو نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب، التي توصل إلى خيره، وتحجز عن شره، وذلك نظام الشرع، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر.

 

فلا منافاةَ بين الأخذِ بالأسباب، والإيمان بالقضاء والقدر، فَمِنَ القضاءِ ردُّ البلاء بالدعاء، فالدعاءُ سببٌ لردِّ البلاء، واستجلاب الرحمة، كما أنَّ الترس سببٌ لردِّ السهم، والماءُ سببٌ لخروج النبات من الأرض، فكما أنَّ الترسَ يدفع السهمَ فيتدافعان، فكذلك الدعاءُ والبلاءُ يتعالجان، وليس مِنْ شرطِ الاعترافِ بقضاء الله تعالى أنْ لا يحملَ السلاحَ، وقد قال تعالى: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾[النساء: 71]، وأن لا يسقي الأرضَ بعد بثّ البذور، فيقال: إنْ سبقَ القضاءُ بالنباتِ نبتَ البذر، وإن لم يسبق لم ينبت، بل رَبْطُ الأسبابِ بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمحِ البصرِ أو هو أقرب، وترتيبُ تفصيلِ المسبّبات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر، والذي قدّر الخيرَ قدّره بسببه، والذي قدّر الشرّ قدّر لدفعه سببًا، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته.

 

ولبيان ارتباط الأخذ بالأسباب وتناسقه مع الإيمان والقدر وفْق الحكمة الإهية يقول الرازي عن تفسير قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾[النساء: 71]: إنَّه لمّا كان الكلُّ لقدرٍ كان الأمر بالحذر أيضًا داخلًا في القدر، فكان قول القائل: (أيُّ فائدةٍ من الحذر) كلامًا متناقضًا، لأنه لمّا كان هذا الحذر مقدرًا، فأي فائدةٍ في هذا السؤال الطاعن في الحذر؟

 

وحاصلُ تحقيق كلام الرازي: أنَّ القدرَ عبارةٌ عن جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب، فهو عملٌ بمقتضى القدر لا بما يضاده.

 

ويؤيّدُ ذلك من السنة النبوية ما ورد أنَّه قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ أدويةً نتداوى بها ورُقًى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي مِنْ قدر الله»، وذلك لأنَّ الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، وكذلك يكتبها، فإذا كان قَدْ علم أنَّها تكونُ بأسبابٍ من عمل وغيرِه، وقضى أنها تكون كذلك وقدر ذلك، لم يجزْ أن يُظَنَّ أنَّ تلك الأمور تكونُ بدون الأسباب التي جعلها الله أسبابًا، وهذا عام في جميع الحوادث.

 

إنّ قدر الله تعالى وقضاؤه غير معلومين لنا، إلا بعد الوقوع، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفًا عن موافقة قدر الله لمأمولنا، فإنِ استفرغنا جهودنا، وحُرمنا المأمولَ، علمنا أنَّ قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا، فأمّا تركُ الأسبابِ فليس من شأننا، وهو مخالِفٌ لما أراد الله منا، وإعراضٌ عما أقامنا الله فيه في هذا العالم، وهو تحريفٌ لمعنى القدر.

 

إنَّ القضاء والقدر ـ اللذين ورد ذكرهما في القرآن، وجعلهما الناسُ مرتبطين بفعل الإنسان ومسلكه في الحياة. سوى النظام العام الذي خلق الله عليه الكونَ، وربط فيه بين الأسباب والمسببات، وبيّنَ النتائج والمقدمات ـ سنة كونية دائمة لا تتخلّف، والحاصِلُ أنَّ الإسلامَ لا يسمحُ أن يضلَّ الإنسان أو ينحرفَ عن أوامر الله في عقائده ودينه، ثم يعتذر بالقضاء والقدر، ولو صحَّ ذلك لبطلت التكاليفُ، وكان بعثُ الرسل وإنزالُ الكتب، ودعوةُ الإنسان إلى دين الله وما يجب، ووعده بالثواب لأهل الخير وبالعقاب لأهل الشر باطلًا، لا يتفق وحكمة الخالق الحكيم في تصرفه وتكليفه الرحيم بعباده.

 


 

المصدر:

علي محمد الصلابي، سنة الله في الأخذ بالأسباب، 2017، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص(46:41)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#القدر #الأخذ-بالأسباب
اقرأ أيضا
المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج3 | مرابط
مناقشات

المدخل إلى فهم إشكالات ما بعد السلفية ج3


حين أخبرني الشيخ أحمد سالم عن كتاب ما بعد السلفية وكان يتوقع رفضا واسعا للكتاب أبديت مخالفتي لهذا التوقع وأن مثل هذا النقد سيكون متقبلا عند التيار الأوسع من السلفيين كنت أرى أن مثل هذا النقد من كاتبين فاضلين سيكون له أثر إيجابي لحظة ما وصلني الكتاب بدأت متلهفا بقراءته قرأته بشكل دقيق فاحص شعرت بعد الانتهاء منه أنني كنت ساذجا جدا حين ظننت أن مثل هذا النقد سيحدث أثرا إيجابيا أو من الممكن أن تتقبله أكثر النفوس أو أن يكون الفضاء الذي سيحدثه فضاء صحيا السبب هو في الروح التي كتب بها هذا النقد وحك...

بقلم: فهد بن صالح العجلان
1215
الحقيقة الكبرى الناظمة للقرآن | مرابط
مقالات

الحقيقة الكبرى الناظمة للقرآن


يحدثك القرآن عن ظاهرة المصائب والأضرار التي تصيب الإنسان في حياته الشخصية وبالرغم من أن الله شرع لنا اتخاذ الأسباب كالأدوية للشفاء من المرض والتماس الرزق لرفع الفقر إلا أن القرآن يكثف دائرة الضوء على أمر آخر أهم وهو أن يرتبط الفؤاد بالله سبحانه وتعالى وهو يصارع هذه البلاءات

بقلم: إبراهيم السكران
440
وسائل حفظ الوقت عند المرأة | مرابط
تفريغات المرأة

وسائل حفظ الوقت عند المرأة


سأذكر إن شاء الله تعالى الأشياء التي تعين المرأة على حفظ وقتها وأيضا مجالات قضاء الوقت أوكيف تقضي المرأة وقتها؟ أما الأشياء المعينة على قضاء الوقت فكثيرة: منها الخوف من الله وشعور المرأة بواجبها ومعرفة الأمكنة والأزمنة الفاضلة والمفضولة وغير ذلك مما سيتم تفصيله

بقلم: سعيد بن مسفر
464
تميز السلف بكثرة الحفظ لإخلاصهم وهمتهم العالية | مرابط
تفريغات

تميز السلف بكثرة الحفظ لإخلاصهم وهمتهم العالية


إنك عندما تنظر إلى هؤلاء الأعلام وإلى عزائمهم وتنظر إلى المتأخرين مع توفر الإمكانات وسهولة الحركة والتنقل ومع ذلك لا ترى عند هؤلاء -المتأخرين من أهل العلم- عشر معشار ما عند المتقدمين فالواحد لا يستطيع أن يحفظ مائة حديث مسند فيدخل حديثا في حديث ويدخل متنا في متن وتضطرب عليه الكلمات أما أولئك فكانوا يحفظون الألوف المؤلفة من الأسانيد وقصة البخاري المشهورة لما دخل بغداد فقلبوا عليه الأحاديث خير دليل على ذلك فالبخاري كان يحضر مجلسه مائة ألف ولم يكن في وجهه شعرة حتى كان بين المستملي والمستملي عشر...

بقلم: أبو إسحق
769
الطرق الصوفية: جسور للاستعمار | مرابط
اقتباسات وقطوف

الطرق الصوفية: جسور للاستعمار


يبدو أن الاستعمار الفرنسي استفاد كثيرا من الطرق الصوفية التي كانت منتشرة في الجزائر بل وأرسى عليها قواعده واستعان بها في بسط سلطانه على بلدان المسلمين وبين يديكم مقتطف من آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والذي عاش التجربة بنفسه ورأى ذلك ووصفه باستفاضة في مواضع مختلفة

بقلم: محمد البشير الإبراهيمي
560
الهروب عن النص إليه | مرابط
فكر مقالات

الهروب عن النص إليه


إن أردت الظفر بالمعنى والحجة الأكثر حضورا لدى خصوم النص الشرعي في كافة قضاياهم التي يصادمون بها النصوص والأحكام الشرعية فهي - بجدارة - الحجة والبيان القائل: هي مخالفة لفهم معين للنص الشرعي وليست مخالفة لذات النص الشرعي وقد تصاغ بأشكال فنية مختلفة لكن مفعولها إنما يتحرك حين يستشعر أن ثمة تخطيا أو تعديا لنص شرعي ما

بقلم: فهد بن صالح العجلان
779