علاقة الأخذ بالأسباب بالإيمان بالقدر

علاقة الأخذ بالأسباب بالإيمان بالقدر | مرابط

الكاتب: د علي الصلابي

1420 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إنّ الله تعالى قدّر الأشياءَ بأسبابها، فالقدر يتعلّق تعلقًا واحدًا بالسبب وبالمسبب معًا، أي إن هذا المسبب سيقع بهذا السبب، ومن الأدلة على ذلك قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله خلق للجنة أهلًا، خلقها لهم وهم في أصلاب ابائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلق للنارِ أهلًا، خلقَها لهم وهم في أصلابِ ابائهم، وهم بعمل أهل النار يعملون».

 

وفي المضمار نفسِه أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم صحابته بأنَّ الله كتب المقادير، فقالوا: أفلا نمكثُ على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كانَ مِنْ أهلِ السعادةِ فسيصيرُ إلى عَمَلِ أهلِ السعادةِ، وَمَنْ كان من أهلِ الشقاوةِ فسيسيرُ إلى عملِ أهل الشقاوةِ، اعملوا فكلُّ ميسَّرٌ، أمّا أهلُ السعادةِ فييسرون لعمل أهل السعادةِ، وأمّا أهلُ الشقاوة فِييسَّرون لعملِ أهلِ الشقاوة، ثم قرأ ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *﴾[الليل: 5 ـ 10]».

 

وفي هذا الحديث النهيُ عن ترك العمل، والاتكال على ما سبق به القدر، بل تجبُ الأعمالُ والتكاليفُ التي ورد الشرع بها، وكلُّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له، لا يقدر على غيره.
فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أرشدَ الأمةَ في هذا الحديث في شأن القدر إلى أمرين هما سبب السعادة: الإيمان بالأقدار، إذ هو نظام التوحيد، والإتيان بالأسباب، التي توصل إلى خيره، وتحجز عن شره، وذلك نظام الشرع، فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر.

 

فلا منافاةَ بين الأخذِ بالأسباب، والإيمان بالقضاء والقدر، فَمِنَ القضاءِ ردُّ البلاء بالدعاء، فالدعاءُ سببٌ لردِّ البلاء، واستجلاب الرحمة، كما أنَّ الترس سببٌ لردِّ السهم، والماءُ سببٌ لخروج النبات من الأرض، فكما أنَّ الترسَ يدفع السهمَ فيتدافعان، فكذلك الدعاءُ والبلاءُ يتعالجان، وليس مِنْ شرطِ الاعترافِ بقضاء الله تعالى أنْ لا يحملَ السلاحَ، وقد قال تعالى: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾[النساء: 71]، وأن لا يسقي الأرضَ بعد بثّ البذور، فيقال: إنْ سبقَ القضاءُ بالنباتِ نبتَ البذر، وإن لم يسبق لم ينبت، بل رَبْطُ الأسبابِ بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمحِ البصرِ أو هو أقرب، وترتيبُ تفصيلِ المسبّبات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر، والذي قدّر الخيرَ قدّره بسببه، والذي قدّر الشرّ قدّر لدفعه سببًا، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته.

 

ولبيان ارتباط الأخذ بالأسباب وتناسقه مع الإيمان والقدر وفْق الحكمة الإهية يقول الرازي عن تفسير قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾[النساء: 71]: إنَّه لمّا كان الكلُّ لقدرٍ كان الأمر بالحذر أيضًا داخلًا في القدر، فكان قول القائل: (أيُّ فائدةٍ من الحذر) كلامًا متناقضًا، لأنه لمّا كان هذا الحذر مقدرًا، فأي فائدةٍ في هذا السؤال الطاعن في الحذر؟

 

وحاصلُ تحقيق كلام الرازي: أنَّ القدرَ عبارةٌ عن جريان الأمور بنظام تأتي فيه الأسباب على قدر المسببات، والحذر من جملة الأسباب، فهو عملٌ بمقتضى القدر لا بما يضاده.

 

ويؤيّدُ ذلك من السنة النبوية ما ورد أنَّه قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ أدويةً نتداوى بها ورُقًى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي مِنْ قدر الله»، وذلك لأنَّ الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، وكذلك يكتبها، فإذا كان قَدْ علم أنَّها تكونُ بأسبابٍ من عمل وغيرِه، وقضى أنها تكون كذلك وقدر ذلك، لم يجزْ أن يُظَنَّ أنَّ تلك الأمور تكونُ بدون الأسباب التي جعلها الله أسبابًا، وهذا عام في جميع الحوادث.

 

إنّ قدر الله تعالى وقضاؤه غير معلومين لنا، إلا بعد الوقوع، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفًا عن موافقة قدر الله لمأمولنا، فإنِ استفرغنا جهودنا، وحُرمنا المأمولَ، علمنا أنَّ قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا، فأمّا تركُ الأسبابِ فليس من شأننا، وهو مخالِفٌ لما أراد الله منا، وإعراضٌ عما أقامنا الله فيه في هذا العالم، وهو تحريفٌ لمعنى القدر.

 

إنَّ القضاء والقدر ـ اللذين ورد ذكرهما في القرآن، وجعلهما الناسُ مرتبطين بفعل الإنسان ومسلكه في الحياة. سوى النظام العام الذي خلق الله عليه الكونَ، وربط فيه بين الأسباب والمسببات، وبيّنَ النتائج والمقدمات ـ سنة كونية دائمة لا تتخلّف، والحاصِلُ أنَّ الإسلامَ لا يسمحُ أن يضلَّ الإنسان أو ينحرفَ عن أوامر الله في عقائده ودينه، ثم يعتذر بالقضاء والقدر، ولو صحَّ ذلك لبطلت التكاليفُ، وكان بعثُ الرسل وإنزالُ الكتب، ودعوةُ الإنسان إلى دين الله وما يجب، ووعده بالثواب لأهل الخير وبالعقاب لأهل الشر باطلًا، لا يتفق وحكمة الخالق الحكيم في تصرفه وتكليفه الرحيم بعباده.

 


 

المصدر:

علي محمد الصلابي، سنة الله في الأخذ بالأسباب، 2017، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص(46:41)

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#القدر #الأخذ-بالأسباب
اقرأ أيضا
فقه الخلاف في حياة الصحابة | مرابط
تفريغات

فقه الخلاف في حياة الصحابة


ثمة اختلافات حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها اختلافات قريبة وقد كانت عقول الصحابة كبيرة وإيمانهم عال فكانوا يعذرون بعضهم في الخلافات التي يسوغ فيها الاختلاف.. وبين يديكم نماذج مختلفة تبين لنا فقه الخلاف في حياة الصحابة الكرام

بقلم: أبو إسحق الحويني
243
أحد عشر سؤالا عن العشر الأواخر وليلة القدر | مرابط
فكر

أحد عشر سؤالا عن العشر الأواخر وليلة القدر


ماذا غير استجابة الدعاء؟ هذه ليلة عظيمة لها فضائل عظيمة وكل كلمة من الطاعة وكل فعل فيها له أجر عظيم مضاعف لا يخطر ببالك. قراءة القرآن والصلاة والصدقة وذكر الله بالثناء عليه والطلب منه بالدعاء والتذلل له والإلحاح عليه وإظهار الفقر والحاجة لله تبارك وتعالى.

بقلم: خالد بهاء الدين
585
عقيدة شاملة الجزء الثاني | مرابط
فكر مقالات

عقيدة شاملة الجزء الثاني


تمتاز العقيدة الإسلامية بالشمول لكافة مناحي الحياة وكافة جوانب الإنسان وقد يقال أن إثبات هذه الشمولية يحتاج إلى بحث وتدقيق وتمحيص ولكننا نقول أن مجرد النظر إلى جنبات هذه العقيدة والشريعة يكفي للعيان وفي هذا المقال بجزئيه يكشف لنا الكاتب عباس محمود العقاد عن شمولية هذه العقيدة الساطعة

بقلم: عباس محمود العقاد
1923
أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج4 | مرابط
تفريغات

أشراط الساعة رواية ودراية: الدرس الثاني ج4


ومن علامات وأمارات وأشراط الساعة: تطاول الناس بالبنيان وفيه إشارة إلى الجزئية التي تقدم الإشارة إليها وهي البنيان الذي يعلو جبال مكة أي: يفوقها وربما كان عليها الناس يتطاولون بالبنيان كما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله جبريل قال: وما أمارتها قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة رعاة الشاة يتطاولون في البنيان

بقلم: عبد العزيز الطريفي
975
الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج2 | مرابط
أبحاث الليبرالية

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج2


المراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي ووقف على أبرز محطاته وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة أزمة في المصطلح وأزمة في الخلفيات الفلسفية وأزمة في السلوكيات اليومية وأزمة في الالتزام بالقيم وأزمة في الاتساق مع المبادئ وأزمة في الاطراد وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطع...

بقلم: سلطان العميري
1363
معركة النسيان والتذكر | مرابط
مقالات

معركة النسيان والتذكر


وداء النسيان هذا هو الذي قد يجعل الإنسان إذا نزل به البلاء انهمك في أسباب الدنيا وغفل عن الفرار إلى الله سبحانه وشكاية البث والحزن إليه! ومن ذلك أننا نؤمن بالجنة والنار لكن من آمن بذلك حق الإيمان كأنه رأي عين لم يعص الله سبحانه لكننا نعصي وذلك لأننا ننسى كما اشتكى حنظلة للنبي صلى الله عليه وسلم: عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيرا

بقلم: كريم حلمي
308