عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الأول

عين جالوت والقضاء على القوى العظمى الجزء الأول | مرابط

الكاتب: راغب السرجاني

2088 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

عندما نتحدث عن عين جالوت التي سقط فيها جيش التتار، فإننا نتحدث عن موقعة بالفعل غيرت خريطة العالم، ورفعت كابوسًا من أكبر الكوابيس التي مرت بها الأمة الإسلامية وغير الإسلامية.. العالم كله كان قد عانى معاناة شديدة من كارثة كادت تقضي على كل صور ومظاهر الحضارة في العالم، لولا موقعة عين جالوت التي ردت للناس الأمة والأمان في العالم كله.

 

ظهور التتار.. وحال الأمة

 

قبل أن نتحدث عن عين جالوت لا بد أولًا أن نعرف من هم التتار الذين سقطوا في الموقعة.. التتار دولة ظهرت على حدود الصين في منغوليا سنة 603هـ، وأنشأ هذه الدولة أحد أكبر سفاحي ومجرمي العالم جنكيز خان، كان شخصية دموية إلى أقصى درجات التخيل، وكان عنده قدرة كبيرة على القيادة والتجميع، فجمع أعدادًا هائلة من التتار، وفي غضون عشر سنوات تقريبًا استطاع أن يضم كل منغوليا التي ظهر فيها، وكل الصين وكوريا وتايلاند وكمبوديا، كل ذلك دولة واحدة أصبح رئيسها جنكيز خان، الذي بدأ بعد ذلك يتطلع إلى ما بعدها، وكانت المملكة الخوارزمية -وهي جزء من الممالك الإسلامية، وهي الآن كازاخستان وأوزبكستان وباكستان وأفغانستان- ملاصقة له، وبدأ يغزو تلك البلاد واستطاع بالفعل أن يجتاح العالم الإسلامي اجتياحًا غير متخيل، لدرجة أنه في سنة 617هـ استطاعت جيوشه أن تحتل العالم الإسلامي من غرب الصين إلى شرق العراق، وتلك مساحة لا تتخيل من الأرض والكثافة السكانية العالية.. وسبحان الله جيوشه كانت في منتهى القوة والعنف والإرهاب!!

 

وهذا يظهر لنا الوضع الذي كان عليه المسلمون؛ ضعف شديد.. فرقة وبعد المسئولين عن الدين.. وتمسك المسلمين بالدنيا.. وانفصال الحكام عن المحكومين.. أمور وأمراض كثيرة أدت لهذا الهوان الذي وصلت إليه الأمة، وبالتالي اجتاحت جيوش التتار كل هذه المساحات. والتتار أدخلوا في حكمهم خلال هذه السنة 617هـ كازاخستان وباكستان وأوزبكستان وأفغانستان وتركمانستان وأجزاء ضخمة جدًّا من إيران شمال وشرق وغرب إيران وأذربيجان كلها، وأرمينيا ولم تكن مسلمة كانت نصرانية، والكورج دولة جورجيا الآن، والشيشان ودخيستان وجنوب روسيا، كل هذا في عام واحد.

 

الاجتياح التتري البربري

 

دموية التتار شديدة تجعل من السهل أن نذكر أن التتار ما دخلوا بلدًا إلا وقتلوا كل سكانها؛ رجالًا ونساء وأطفالًا، محاربين ومدنيين، كل شيء يقتل، يأخذ البلد بكل ثروتها، ويزيح السكان من طريقه.

 

من أشهر الأمثلة غزو مدينة (مروى) الإسلامية التي كانت من حواضر العلم والثقافة والاقتصاد، وهي تقع بين التركمانستان وإيران، وهذه المدينة سكانها كانوا 900 ألف، 200 ألف خرجوا لمحاربة التتار وفنوا عن آخرهم، ودخل التتار وحاصروا المدينة وأعطوا الأمان لأهلها، وخرج أهل المدينة بعهد الأمان، لكن التتار كالعادة خانوا العهد وسفكوا دم 700 ألف، قتلوا المدينة كلها ولم يبق بها حي واحد. واختفت (مروى) ولم يعد لها وجود حتى على الخريطة، وهكذا أكثر من مدينة.

 

والتتار لم يكتفوا بغزو العالم الإسلامي فقط، لكن جاوزوه بعد ذلك إلى أوربا؛ لهذا أقول: إن المعاناة التي عانى منها الناس ليست معاناة إسلامية فقط، لكنها معاناة إنسانية عالمية من جيوش التتار.

 

ودخلوا على أوربا في الثلاثينيات من القرن السابع الهجري من 629 إلى 634هـ، اجتاحوا كل روسيا 17 مليون كيلو متر مربع، سقطت كلها ودمرت موسكو عن آخرها، وجاوز تركيا على أوكرانيا ودمروا كييف العاصمة، ثم اتجهوا إلى بولندا، وتعاون ملك بولندا وملك ألمانيا لحرب التتار، فسحق الجيش البولندي والألماني، وانتقلوا إلى المجر وكرواتيا، ووصلوا إلى ساحل البحر الأدرياتي، نصف أوربا الشرقية كله تحت حكم التتار، وأصبحت دولة التتار سنة 639هـ تصل من كوريا شرقًا إلى بولندا غربًا، كل آسيا ونصف أوروبا.

 

وبعد ذلك وفي سنة 656هـ استطاعوا إسقاط الخلافة العباسية وقتل الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين، وبذلك سقط الكيان الذي جمع الأمة الإسلامية أكثر من 500 سنة وأكثر، وعندما دخلوا بغداد قتلوا مليون مسلم، وسكان بغداد في ذلك الوقت 3 ملايين، قتلوا ثلث السكان وكانت أكبر مدينة في العالم، وبعد موقعة التتار اختفى ذكرها من الكتب ولم يعد إلا في القرن العشرين؛ لأن بغداد أصبحت مدينة لا وزن لها، إذ إن معظم السكان ماتوا ومعظم عمالقة الشعب ماتوا، العلماء الفقهاء الحكام الأمراء الوزراء المفكرون، كل من له رأي أو قول في بغداد قُتل في البداية، إضافةً إلى تدمير الثروات والقصور والديار، وأشهر ما دمر في بغداد هي المكتبة عندما ألقوا بعصارة فكر الإنسانية كلها في نهر دجلة؛ ليختفي بذلك كم هائل من العلوم ليس في علوم الشريعة فقط، لكن في كل مجالات الحياة علوم فقه وتفسير وأخلاق وعقيدة، إضافة لعلوم الطب والفلك والهندسة وكيمياء وفيزياء وجغرافيا وكل علوم الحياة.

 

قطز.. وبناء الأمة

 

لم يتخيل أحد أن مصر ممكن أن تقف أمام هذا الكائن الضخم، لكن قطز -رحمه الله- بدأ بسياسة في منتهى الروعة في تأهيل الوزراء والأمراء والجيش والشعب لهذه الموقعة، وكل التأهيل والوقت كان عشرة أشهر فيها وجه الشعب إسلامي واضح.. جعل القضية قضية إسلامية في المقام الأول، يصرف فيها المسلم دمه وروحه وماله من أجل الله عز وجل، وكل القتال الذي سبق وسقوط المسلمين كان لأن المسلمين كانوا يدافعون عن دنياهم ولا يدافعون عن دينهم، حتى الشعوب نفسها لم تكن في ذهنها قضية الدين، وقطز -رحمه الله- بدأ يعيد الناس مرة أخرى إلى الله سبحانه وتعالى، وكان كل هدفه قتال هؤلاء الذين احتلوا نصف العالم تقريبًا في سنوات معدودات، ويستكملون النصف الآخر إذا ما سقطت مصر؛ لأن مصر بوابة إفريقيا.

 

وقطز بدأ ينمي فيهم الروح والحمية وحرك في الناس روح الإيمان، وكان للعلماء دور مهم في مصر.. وأعطى للأزهر وعلمائه دورًا كبيرًا جدًّا، وكان على رأس العلماء العز بن عبد السلام سلطان العلماء الذي كان يحب قطز حبًّا شديدًا جدًّا، ويرى أنه أفضل المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز.. وبدأ العلماء يقومون بدورهم نحو الشعب، وبدءوا يرفعون قيمة الجهاد في سبيل الله، الكل يسعى للجهاد والشهادة.

 

وبعد هذا، قام قطز بشيء مهم جدًّا، ألا وهو القدوة، لم يجلس قطز في قصره الأمن يحرك الجيوش وهو بمعزل عن الخطر، لكنه فعل مثلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل، كل شيء بيده قبل يد الصحابة.. هكذا فعل قطز أول ما صعد لكرسي الحكم قال: لم أصعد لهذا الكرسي إلا لقتال التتار. وقال كلمة جميلة: أنا ألقى التتار بنفسي. وكان قطز أول من يسمع لكلام العلماء؛ لذا وافق العز بن عبد السلام عندما رفض فرض الضرائب على الشعب لتجهيز وإعداد الجيش إلا بعد أن ينتهي المال من بيت المال ويرد الوزراء والأمراء الأموال التي أخذوها من بيت مال المسلمين، وعندما سمع قطز تلك الفتوى قال: أنا أول من يفعل ذلك. ولم يُبقِ في بيته شيئًا إلا الفرس والسلاح.

 

لم يكن قطز لديه مطمع في حكم وسلطان.. شاب صغير لم يبلغ من العمر 35 عامًا على درجة عالية من الفقه والعلم والدراية، ولم يفكر في شيء من متاع الدنيا، ولم يطلب سوى الآخرة بوضوح.. بعد ذلك خطا قطز خطوة رائعة في تاريخ الإنسانية؛ لأنه بدأ يوحِّد الصف مع المسلمين الذين كانوا على خلاف شديد معه قبل ذلك.. نسي كل ذلك، ووضع يده في يد المماليك البحرية التي تتبع نجم الدين أيوب، والتي كان على رأسها الظاهر بيبرس، وكان هو على رأس المماليك المعزية التي تتبع عز الدين أيبك، وكان بينهم خلاف وصراع شديد.

 

نسي كل الخلافات، وأصدر عفوًّا حقيقيًّا عن المماليك البحرية، وطلب منهم تكوين جيش واحد لمحاربة التتار، ووضع على رأس الجيش المصري (فارس الدين أقطاي الصغير)، وهو غير أقطاي الذي قتله مجموعة من المماليك المعزية، وليس قطز كما يدَّعون. وللعلم والتاريخ فإن بيبرس أيضًا لم يقتل قطز، وغير ذلك تزوير في التاريخ، ومحاولات لتشويه الرموز الإسلامية الكبرى.

 

المهم أن قطز بعد ذلك وحَّد مصر مع الشام، رغم أنهم كلهم كانوا خونة وعملاء؛ الناصر يوسف الأيوبي حاكم دمشق كان يوالي الصليبيين مرة والتتار مرة أخرى، ورغم هذا طلب منه وحدة الأمة تحت رئاسته، رغم أن قطز كان في موقف قوة، وأرسل له كلمات جميلة جدًّا "إن اخترتني خدمتك"، وهذا تجرد ورقي في الأخلاق.. وأرسل قطز للمغيث فتح الدين عمر أمير الكرك -في الأردن الآن- وللأشرف الأيوبي أمير حمص الموالي للتتار، ولأمير حماة، ولأمير بانياس.. أرسل لأكثر من منطقة من مناطق الشام لتوحيد الصف، منهم من رفض ومنهم من جاء.

 

المهم أنه في النهاية كوَّن جيشًا من المسلمين المصريين والشاميين، وأهل فلسطين بعد ذلك انضموا للجيش بعد خروج الجيش لحرب التتار، واختار مكان الموقعة في فلسطين، مع أن كل الأمراء رفضوا أن تكون الحرب في فلسطين، لكن قطز -رحمه الله- حوَّل الأمر إلى قضية إسلامية، إضافةً إلى البعد الأمني القومي لمصر من الناحية الشرقية.

 

ولا يمكن لمصر أن تقبل بوجود عدو قوي يحتل فلسطين وتبقى هي في أمان، بالتأكيد أمانها يكون مهددًا، وهذا مثل الوضع الذي نعيشه الآن.. وقصة التتار شديدة التشابه مع واقعنا المعاصر؛ لذا دراستها بنوع من التركيز أمر في غاية الأهمية.. المهم وحد قطز الجيوش وخرج بها، واختار مكان الموقعة في عين جالوت، ورتب جيوشه ترتيبًا محكمًا، وأعد العُدَّة بشكل في منتهى الروعة عسكريًّا وتنسيقًا للجيش ومن ناحية الخطة، وسبق لمكان المعركة قبل جيش التتار، وبالفعل التقى مع جيش التتار يوم 25 رمضان سنة 658هـ في موقعة من أشرس المواقع في تاريخ البشرية.

 


 

المصدر:

  1. راغب السرجاني، بين التاريخ والواقع، ج1، ص107
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#راغب-السرجاني #عين-جالوت
اقرأ أيضا
قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام | مرابط
فكر مقالات

قصة العلمانية التي لا تعارض الإسلام


هل كان يدور بخلد الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي ت684 ه أن اسمه سيتردد بعد وفاته بقرون في محاولة التلفيق بين النظام السياسي الإسلامي والعلمانيهل كان القرافي يريد في حديثه عن تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة والقضاء ما ذكره بعض المعاصرين عنه أن دليل على أن الأحكام الشرعية السياسية تصرفات غير ملزمة وإنما هي مرتبطة بالأئمة يقيمونها بحسب الأصلح

بقلم: فهد بن صالح العجلان
751
الأمة الوسط الجزء الأول | مرابط
تفريغات

الأمة الوسط الجزء الأول


من المتفق عليه أن الخصيصة الأولى والمقوم الأساسي للأمة الوسط هو كونها أمة ربانية وهذه الخصيصة خاصة بهذه الأمة لا تشاركها فيها الأمم الأخرى فالأمة الإسلامية أمة ربانية في عقيدتها وتصورها وتشريعها وأخلاقها وقيمها لأن هذا كله منزل من عند الله تبارك وتعالى

بقلم: عمر الأشقر
846
العلم | مرابط
اقتباسات وقطوف

العلم


مقتطفات متفرقة عن أربعة من العلماء يظهر فيها قدر العلم عندهم وحقيقته التي قد يغفل عنها الكثير من الناس فليس العلم أبدا هو كثرة الرواية أو كثرة الحفظ ولا يكون العلم علما إلا إذا أثمر طاعة وانقيادا إلى الله عز وجل وهربا من الهوى والبدعة وأصحابهما

بقلم: مجموعة علماء
1525
الليبرالية الاستئصالية الجزء الثاني | مرابط
فكر الليبرالية

الليبرالية الاستئصالية الجزء الثاني


مقال تفصيلي يسير بشكل موجز بين أروقة التاريخ ليحدثنا عن الليبرالية الاستئصالية التي ترفع شعار الحرية والمساواة ولكنها على أرض الواقع أبعد ما يكون عن شعاراتها ومبادئها هنا سترى الليبرالية منذ بداياتها مراحل الضعف والانهزام أمام الاشتراكية ثم انهيار الأخيرة وصعود موجات الليبرالية وبداية حقبة جديدة تمتد موجاتها إلى عالمنا الإسلامي

بقلم: إبراهيم بن محمد الحقيل
2213
الذكاء الاصطناعي وموجة إنكار الإله | مرابط
فكر الإلحاد

الذكاء الاصطناعي وموجة إنكار الإله


قبل عشرة أعوام بالتمام صدر فيلم أمريكي حقق نجاحا كبيرا برغم أنه من الأفلام التي تناقش فلسفات خطيرة جدا. كان من أهم الفلسفات التي ناقشها مسألة الوعي الذاتي وهل إذا طورت آلة وعيا خاصا بها تصنع به ديناميكيات واستراتيجيات لإدارة حياتها لا بمعزل عن الإنسان بل لتدمير الإنسان نفسه إن اصطدم بطموحاتها تصبح تلك الآلة مخلوقا؟ وحينها يصبح الإنسان خالقا؟

بقلم: عمرو عبد العزيز
462
الطاقة الذهنية | مرابط
اقتباسات وقطوف ثقافة

الطاقة الذهنية


الإنسان يملك كمية معينة من وقود التفكير وينبغي للمرء أن يكون حاذقا في صرف طاقته الذهنية في المواد المجدية يقول ابن القيم في فصل عقده في كتابه الفوائد في بيان هذا المفهوم أصل الخير والشر من قبل التفكير فإن الفكر مبدأه الإرادة

بقلم: إبراهيم السكران
385