مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج1

مناظرة الباقلاني مع ملك الروم ج1 | مرابط

الكاتب: القاضي عياض

2535 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

وجه عضد الدولة في بعض سفراته، إلى ملك الروم الأعظم، القاضي أبا بكر ابن الطيب، واختصه بذلك، ليظهر رفعة الإسلام، ويغض من النصرانية. فلما تهيأ للخروج، قال للقاضي، وزير عضد الدولة: الطالع خروجًا؟ فسأله القاضي أبو بكر. فلما فسر مراده، قال: لا أقول بهذا؛ لأن السعد والنحس كله، والشر والخير كله، بيد الله عز وجلّ. ليس للكواكب هاهنا مثقال ذرة من القدرة. وإنما وضعت كتب المنجمين ليتمعش بها الجاهلون، بين العامة. ولا حقيقة لها.

فقال الوزير: احضروا لي ابن الصدفي، ليست المناظرة من شأني، ولا أنا قائم بها، وإنما أنا أحفظ علم النجوم، وأقول إذا كان من النجوم كذا كان كذا، وأما تعليله، فهو من علم المنطق. فأحضر وأمر بمكالمة القاضي.

فقال له أبو سليمان: هذا القاضي يقول: إن الباري سبحانه، قادر على أن يركب عشرة أنفس في ذلك المركب الذي في دجلة، فإذا وصلوا إلى الجانب الآخر يكون الله قد زاد فيهم آخر فيكونون أحد عشر. ويكون الحادي عشر من خلقه الله في ذلك الوقت. ولو قلت أنا لا يقدر على ذلك أو هذا محال، قطعوا لساني وقتلوني، وإن أحسنوا إليّ كتفوني، ورموني في الدجلة، وإذا كان الأمر كما ذكرت لم يكن لمناظرتي معه معنى، فالتفت الوزير إلى القاضي وقال: ما تقول أيها القاضي؟

فقلت: ليس كلامنا هاهنا في قدرة الباري تعالى، والباري تعالى قادر على كل شيء، وإن جحده هذا الجاهل، وإنما كلامنا في تأثيرات هذه الكواكب، فانتقل إلى ما ذكر لعجزه وقلة معرفته، وإلا فأي تعلق للكلام في قدرة الباري، عز وجلّ، في مسألتنا؟ وأنا وإن قلت إن القديم تعالى قادر على ذلك، ما أقول أنه يخرق العادة، وبفعل هذا. لأنه لا يجوز عندنا أن يخلق اليوم إنسانًا من غير أبوين، فإذا كان كذلك فقد علم الوزير أن هذا فرار من الزحف.

فقال هو كما ذكرت.

فقال المنطيقي: المناظرات دربة وتجربة، وأنا لا أعرف مناظرات هؤلاء القوم، وهم لا يعرفون مواضعتنا وعبارتنا، ولا تجمل المناظرة بين قوم هذا حالهم.

فقال له الوزير: قبلنا اعتذارك والحق أبلج.

قال القاضي: ومال إليّ بوجهه، وقال: سر في دعة الله. فخرجت. فدخلنا بلاد الروم، حتى وصلت إلى ملك الروم بالقسطنطينية، وأخبر الملك بقدومنا. فأرسل إلينا من تلقانا.

وقال: لا تدخلوا على الملك بعمائمكم، حتى تنزعوها، إلا أن تكون مناديل لطاف، وحتى تنزعوا أخفافكم. فقلت: لا أفعل، ولا أدخل، إلا بما أنا عليه من الزي، واللباس. فإن رضيتم، وإلا فخذوا الكتب تقرأونها، وأرسلوا بجوابها وأعود به.

فأخبر بذلك الملك، فقال: أريد معرفة سبب هذا وامتناعه عما مضى عليه رسمي مع الرسل. فسئل القاضي عن ذلك.

فقال: أنا رجل من علماء المسلمين، وما تحبونه منا ذلّ وصغار، والله تعالى قد رفعنا بالإسلام وأعزّنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأيضا فإن من شأن الملوك، إذا بعثوا رسلهم إلى ملك آخر، رفع أقدارهم، لا إذلالهم. سيما إذا كان الرسول من أهل العلم. ووضع قدره انهدام جانبه، عند الله تعالى، وعند المسلمين.

فعرّف الترجمان الملك بذلك، فقال: دعوه يدخل ومن معه كما يشاؤون. ندخل بها على سلطاننا الأكرم، الذي هو تحت يد أمير المؤمنين، وأدخل بها على سلطاننا الأكرم الذي أمرنا الله تعالى ورسوله، بطاعته. فما تنكرون عليّ هذا، وأنا رجل من علماء المسلمين؟ فإن دخلت بغير هيئتي ورجعت إلى حكمك، أهنت العلم ونفسي، وذهب عند المسلمين جاهي.

فقال للترجمان: قل له قد قبلنا عذرك، ورفعنا منزلتك، وليس محلك عندنا محل سائر الرسل، وإنما محلك عندنا محل الأبرار الأخيار، وقد أخبرنا صاحبكم في كتبه: أنك لسان المسلمين والمناظر عنهم، وأنا أشتهي أن أعرف ذلك وأسمعه منك، كما ذكروه عنك.

قلت: إذا أذن الملك، فقال: أنزلوا حيث أعددت لكم، ويكون بعد هذا الاجتمال

 


 

المصدر:

  1. القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، 486/1
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
كيف نتغلب على حالة هدر الوقت | مرابط
تفريغات ثقافة

كيف نتغلب على حالة هدر الوقت


يجب أن نقول في البداية: إن الواحد منا مهما أبدى من الكفاءة والألمعية في تنظيم وقته والاستفادة منه فإنه لن يستطيع استثماره على نحو تام فالعنصر الروحي الذي يتمتع به الإنسان يفقده المرونة الكافية للعمل المتواصل ولذا فإن طبيعة عمله تظل مغايرة لطبيعة عمل الآلة كما أن الظروف والأحوال المحيطة هي الأخرى تحول دون ذلك ولذا لا بد إذا أن نقنع باستثمار نسبي واستفادة منقوصة

بقلم: د عبد الكريم بكار
504
من يسمع ولا يعقل | مرابط
اقتباسات وقطوف

من يسمع ولا يعقل


وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريقفلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا والأكثرون يدعونهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم

بقلم: ابن القيم
744
مناظرات مع رستم قائد الفرس | مرابط
مناظرات

مناظرات مع رستم قائد الفرس


عندما طلب رستم ملك الفرس أن يرس له سعد رضي الله عنه بعض الرسل يجيبونه عما يسأل عنه ومن هنا أرسل سعد المغيرة بن شعبة ثم أتبعه بربعي بن عامر ثم حذيفة بن محن وأخيرا المغيرة بن شعبة مرة أخرى وفي كل مرة كان يدور حوار يشبه المناظرة بينهم وبين رستم وهذا تفصيل ما دار

بقلم: ابن كثير
2162
نسف شبهات عدنان إبراهيم حول الصحابي بسر بن أبي أرطأة ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات

نسف شبهات عدنان إبراهيم حول الصحابي بسر بن أبي أرطأة ج2


أثار عدنان إبراهيم في إحدى حلقاته الكثير من الشبهات حول الصحابي بسر بن أبي أرطأة وزعم أنه قتل طفلين ثم جنت أمهما من هول المنظر ثم ادعى بأنه باع نساء المسلمين سبايا في أسواق النخاسة فكانت المسلمة العفيفة تكشف عن ساقها ليرى ليستطيع الناظرون تثمينها وكل ذلك لأنهن كن في معسكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فما حقيقة هذه الشبهات هذا ما يناقشه المقال

بقلم: أبو عمر الباحث
1835
التسليم موقف عقلاني | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين مقالات

التسليم موقف عقلاني


المسلم مطالب بالتسليم للأوامر الشرعية كلها طالما ثبت صحتها عنده وليس هناك مجال للاختيار أو عدم الاستجابة ولكن يبقى السؤال: هل هذا التسليم مبني على لاشيء هل هو موقف قائم على العمى المطلق أو هي استجابة تخلو من إعمال العقل الإجابة هي: لا ليس الأمر كذلك كما يدعي أعداء الدين وإنما التسليم الشرعي للنص مبني على أصول عقلية وعلمية يبينها المؤلف في هذا المقال الماتع

بقلم: عبد الله بن صالح العجيري
2151
دلالة التواتر على حجية السنة | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة التواتر على حجية السنة


إن إثبات صحة ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا في شأن لزوم اتباع سنته يتطلب علما خاصا بالرواة والأسانيد وقوانين علم الحديث غير أن هناك أمورا كثيرة ثبتت عنه بنقل متواتر لا يتطلب ذلك العلم الخاص ولا يختلف كل من ينسب نفسه إلى شيء من العلم بالشرع في أنها ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم وفيها ما يبلغ أعلى ما يمكن أن يبلغه التواتر عند عموم البشر مما لا ينازع فيه أحد إلا السفسطائيون وأشباههم كالمنازعة في وجود شخص المسيح عليه السلام وفي وجود فراعنة مصر في التاريخ ونحو ذلك

بقلم: أحمد يوسف السيد
2253