دلالة التواتر على حجية السنة

دلالة التواتر على حجية السنة | مرابط

الكاتب: أحمد يوسف السيد

2156 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

إن إثبات صحة ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم “نصّاً” في شأن لزوم اتباع سنته يتطلب علمًا خاصّا بالرواة والأسانيد وقوانين علم الحديث، غير أن هناك أمورًا كثيرة ثبتت عنه بنقلٍ متواتر لا يتطلب ذلك العلم الخاص، ولا يختلف كلُّ من ينسب نفسه إلى شيء من العلم بالشرع في أنها ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وفيها ما يبلغ أعلى ما يمكن أن يبلغه التواتر عند عموم البشر مما لا ينازع فيه أحد إلا السفسطائيون وأشباههم، كالمنازعة في وجود شخص المسيح عليه السلام، وفي وجود فراعنة مصر في التاريخ، ونحو ذلك.

فإن ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه كان يصلي بالناس خمس صلوات في اليوم والليلة بسجود وركوع وقيام وقعود، وتكبير وتسليم، وأنه وقف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، وأنه رمى الجمار أيام التشريق ونحو ذلك مما شاهده الآف الناس وعملوه وعمله من بعدهم اقتداء بمشاهدتهم إياهم، كل ذلك يُعَد من أعلى ما يمكن أن يثبت عند البشر عن طريق التواتر. ولا سبيل لإنكار وقوع ذلك إلا بإلغاء اعتبار الخبر مصدراً للمعرفة, وفي ذلك تنكر للحقائق ولما يجده الإنسان من نفسه ضرورة.

 

كما قال ابن حزم في الإحكام عن الخبر الذي تنقله:

 

(كافّة بعد كافّة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به، وفي أنه حق مقطوع على غيبه؛ لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره، وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك، وبينا أن البرهان قائم على صحته، وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله، وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد، ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتآليف، ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ولا أنه مولود من امرأة).

 

وقال الغزالي في المستصفى:

 

(أَمَّا إثْبَاتُ كَوْنِ التَّوَاتُرِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، خِلَافًا لِلسُّمَنِيَّةِ حَيْثُ حَصَرُوا الْعُلُومَ فِي الْحَوَاسِّ وَأَنْكَرُوا هَذَا. وَحَصْرُهُمْ بَاطِلٌ،…،ثُمَّ لَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ فِي الدُّنْيَا بَلْدَةً تَسَمَّى بَغْدَادَ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا، وَلَا يُشَكُّ فِي وُجُودِ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ فِي وُجُودِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، بَلْ فِي الدُّوَلِ وَالْوَقَائِعِ الْكَبِيرَةِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ هَذَا مَعْلُومًا ضَرُورَةً لَمَا خَالَفْنَاكُمْ. قُلْنَا مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذَا فَإِنَّمَا يُخَالِفُ بِلِسَانِهِ أَوْ عَنْ خَبْطٍ فِي عَقْلِهِ أَوْ عَنْ عِنَادٍ، وَلَا يَصْدُرُ إنْكَارُ هَذَا مِنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ يَسْتَحِيلُ إنْكَارُهُمْ فِي الْعَادَةِ لِمَا عَلِمُوهُ وَعِنَادُهُمْ).

 

وإذا ثبت ذلك؛ فإن كثيرا مما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتواتر يُمكن أن نثبت به حجية السنة ومكانتها من وجوه متعددة سيأتي ذكرها بإذن الله.

 

تنبيه:

التواتر المقصود فيما سيأتي في الباب هو ما يسميه كثير من المتأخرين بالتواتر المعنوي، وإن كان قد يسمى عند بعض من تقدمهم تواترًا لفظيا، كما قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه:

 

(فأما التواتر فضربان، أحدهما: تواتر من طريق اللفظ، والآخر: تواتر من طريق المعنى.
فأما التواتر من طريق اللفظ: فهو مثل الخبر بخروج النبي من مكة إلى المدينة، ووفاته بها ودفنه فيها، ومسجده، ومنبره، وما روي من تعظيمه الصحابة وموالاته لهم ومباينته لأبي جهل وسائر المشركين، وتعظيمه القرآن وتحديهم به واحتجاجه بنزول، وما روي من عدد الصلوات وركعاتها وأركانها وترتيبها، وفرض الزكاة والصوم والحج ونحو ذلك .
وأما التواتر من طريق المعنى: فهو أن يروي جماعة كثيرون يقع العلم بخبرهم كل واحد منهم حكمًا غير الذي يرويه صاحبه إلا أن الجميع يتضمن معنى واحدًا فيكون ذلك المعنى بمنزلة ما تواتر به الخبر لفظًا، مثال ذلك ما روى جماعة كثيرون من عمل الصحابة بحبر الواحد والأحكام مختلفة والأحاديث متغايرة ولكن جميعها تتضمن العمل بخبر الواحد العدل، وهذا أحد طرق معجزات رسول اللهصلى الله عليه وسلم فإنه روي عنه تسبيح الحصى في يديه، وحنين الجذع إليه، ونبع الماء بين أصابعه، وجعله الطعام القليل كثيراً، ومجه الماء من فمه في المزاده فلم ينقصه الاستعمال، وكلام البهائم له، وما أشبه ذلك مما يكثر تعداده).

 

فهذا الذي سماه الخطيب لفظيا ضرب له بأمثلة هي عند كثير من المتأخرين من التواتر المعنوي.

 

أنواع الأخبار المتواترة المثبتة لحجية السنة ومكانتها في الإسلام:

 

يمكن تقسيم الأخبار المتواترة المثبتة لحجية السنة ومكانتها في الإسلام إلى أنواع:

 

النوع الأول: تواتر أخبار الغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

لقد اعتنى علماء المسلمين بتدوين الأخبار الغيبية التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتتبعوا ما وقع منها على مر التاريخ, وجعلوا ذلك من أهم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم, ولا ينازع أحد من أهل العلم بالأخبار والسير في وقوع ذلك منه, وقد كثرت الأحاديث التي دونها العلماء في هذا المعنى, ومن يطالع دلائل النبوة للبيهقي, والبداية والنهاية لابن كثير, وغيرهما من الكتب التي اعتنت بذكر دلائل النبوة من جهة الأثر والخبر, يجد عجبا من توارد هذه الأخبار وقوة أسانيدها.

 

وجه دلالة أحاديث الغيب على حجية السنة:
أن الله سبحانه وتعالى قد أخبر في كتابه أنه عالم الغيب وحده, وأنه لا يُطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول, فعلم بذلك أن ما يقوله صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب إنما هو من عند الله سبحانه وتعالى, وبالتالي فهو وحي من الله سبحانه وتعالى, وليس هذا الوحي مما ذكر في نص القرآن.

والعجيب أن منكري السنة يستدلون بوجود أخبار الغيب في كتب الحديث على إبطال السنة, وليس على كونها وحيًا, فهم يقولون إن الله ذكر في كتابه العزيز أن لا أحد يعلم الغيب إلا هو, ويذكر أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعلم الغيب لأحاديث الأخبار الغيبية التي يروونها في كتبهم, وبالتالي فالسنة باطلة.

وهذا استدلال فاسد, فإن الله قد أثبت في كتابه أنه يطلع رسله على الغيب, وليس معنى ذلك أنه يطلعهم على جميع الغيب, فإن هناك من الغيب ما اختص به الله سبحانه وتعالى وقد أبقت السنة على هذا الغيب الذي هو من خصوصية الله, كما ثبت في حديث جبريل في البخاري ومسلم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل).

 

النوع الثاني: تواتر الأحاديث القدسية عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ينسب فيها كلامًا لله سبحانه ليس مذكورا في القرآن.

 

لقد تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حدث بأحاديث عن ربه سبحانه وتعالى, وكان يصدّرها بقوله: (قال الله تعالى), أو يقول راويها عنه: (فيما يرويه عن ربه عز وجل).

وقد صح من هذه الأحاديث شيء كثير حتى بلغت في جمع بعض المعاصرين لها – وهو الشيخ مصطفى العدوي في كتابه: الصحيح المسند من الأحاديث القدسية- ١٨٥ حديثًا قدسيًا صحيحًا, ولسنا نستدل هنا على المنكرين بأفراد هذه الأحاديث وإنما بمجموعها الذي يفيد تواترًا معنويًا في نسبة النبي صلى الله عليه وسلم كلامًا إلى ربه سبحانه ليس مذكورًا في نص القرآن.

ووجه الدلالة منها على كون السنة وحيًا ظاهر, إذ لا سبيل إلى معرفة ما قاله الله سبحانه إلا بالوحي.

 

النوع الثالث: تواتر بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن.

 


 

المصدر:

  1. أحمد بن يوسف السيد، تثبيت حجية السنة، ص51
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#حجية-السنة
اقرأ أيضا
قاعدة الجزاء والحساب ج1 | مرابط
تفريغات

قاعدة الجزاء والحساب ج1


إن الله تبارك وتعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما لما له من نتائج وخيمة وعواقب أليمة وكان ينبغي لأولئك الذين يظلمون العباد ويسعون في الأرض الفساد أن يتعظوا ويعتبروا بمن سبقهم من الظلمة وهنيئا لذلك الرجل الذي امتلأ قلبه بحب الله فهو يعلم أن هدايته بيد الله وأن رزقه سيأتي إليه رضي الطواغيت أم سخطوا لأن الله هو الذي كتبه

بقلم: عمر الأشقر
755
حب الدنيا والجاه يصدان عن الحق | مرابط
اقتباسات وقطوف

حب الدنيا والجاه يصدان عن الحق


إن فتنة الدنيا وحب الجاه والرياسة من أعظم الأمراض التي تصيب القلب وتسيطر عليه وتصده عن الحق خوفا عليها وأملا في دوامها حتى لو كان الثمن هو الاستمرار في طريق الباطل وحتى لو كان الإنسان مقتنعا في داخله بأن الحق مع الآخر وهذا مقتطف من كتاب هداية الحيارى لابن القيم يتحدث عن مناظرته لبعض علماء النصارى وفيه بيان لهذا المرض الذي صدهم عن قبول الحق

بقلم: ابن قيم الجوزية
2394
قاسم أمين وتحرير المرأة | مرابط
تفريغات المرأة

قاسم أمين وتحرير المرأة


إن قضية تحرير المرأة التي تولى كبرها قاسم أمين قضية لها شأن وتستحق أن نقف عندها بعض الوقت لما قرأت مذكرات قاسم أمين ومذكرات سعد زغلول لأن سعد زغلول هو الذي شجع قاسم أمين وقاسم أمين شاب يشع الذكاء من عينيه ذهب إلى فرنسا وأعداؤنا يصطادون المواهب من أمتنا ولا يتصرفون بطريقة تلقائية أو عشوائية كما يظن السذج يعني: مثلا: مسألة الدجاج المذبوح أو المقتول جاء بعض الناس وقال: إنهم يقتلون الدجاج ولا يذبحونها لماذا قال: لأن نسبة من الدم يتجمد في العروق فمع ملايين الدجاج المقتول وتجمد الدم فيها يزداد ال

بقلم: أبو إسحق الحويني
579
ما الحداثة | مرابط
فكر

ما الحداثة


نحن الآن أمام مصطلح موهم غاية الإيهام فبينما نحسب أنه يحمل معنى أصيلا وفكرا ذاتيا إذا به عند التحقيق نجده فكرا مستعارا مستوردا ليس لدعاته في بلادنا إلا النقل من لغته إلى العربية وبينما نحسبه قضية ذات شأن عظيم إذا به فكر شائه وغثاء فارغ بل وخطر داهم الحداثة يحيط بمعناها غشاء كثيف يحجب الرؤية ويشتت الذهن فإذا ما بدا من معناه شيء شعر المرء بالغثيان والصدود وهكذا الباطل ظلمات بعضها فوق بعض بينما الحق نور يتلألأ

بقلم: د أحمد محمد زايد
1323
من معاناة المرأة الغربية | مرابط
المرأة

من معاناة المرأة الغربية


أما حال النساء العاملات فأكثر ما يشتكين منه هو التحرش! وهذا أمر شائع ولا تكاد تجد امرأة لم تتعرض له والعكس صحيح أيضا فلديهم نساء يتحرشن بالرجال ويسترزقن من وراء ذلك بالتهديد برفع قضايا في المحاكم لابتزاز الرجل. تحرش يحصل في أرقى المؤسسات الحكومية والدولية وحتى في مراكز التعليم وكل مكان! واقع بائس تقضي المرأة حياتها تعمل ومرات حتى في العطل لأجل أن تعيش

بقلم: د. ليلى حمدان
375
فاحكم بينهم أو أعرض عنهم | مرابط
فكر مقالات أباطيل وشبهات

فاحكم بينهم أو أعرض عنهم


يناقش هذا المقال قول من استدل بالآية فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم على أن من رفض أن يحكم بالشريعة فلا يلزم بها فلا بد أن يختارها ويؤمن بها وحين لا يكون مؤمنا بها لا يكون ملزما كما خير الله في هذا الآية نبيه صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بينهم أو يعرض عليهم ولو كان الحكم ملزما لما حصل اختيار

بقلم: فهد بن صالح العجلان
2341