أصول الليبرالية

أصول الليبرالية | مرابط

الكاتب: عبد العزيز بن مرزوق الطريفي

2164 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الفكر الليبرالي فكر عائم يعتمد على حق الفرد الواحد في اختيار ما يريد؛ ﻷنه هو الخالق لأفعاله، ولهذا فهو لا يُقر بوجود مقدّس مشترك معيّن منضبط، لا رب ولا كتاب ولا نبي ولا غير ذلك، سواء كان مفكرًا أو غيره، ولا دستور لا يحتمل التغيير متى ما احتيج إلى تغييره، ولا يمكن ضبط هذا الفكر ضبطا دقيقًا حتى لدى الفرد الواحد إلا في لحظة واحدة؛ ﻷنه ربما بعد تلك اللحظة يتحول عن كل معتقداته، وله الحق في ذلك، فيتغير معه ضبط الفكر أصولا وفروعًا.

 

أصول الليبرالية ومآلاتها

 

والفكر الليبرالي يقرر أن الإنسان هو الذي يُحدث أفعاله ويختارها ابتداء، من غير أن تكون مقدّرة عليه قبل ذلك؛ أي: سابقة في علم الله، ويرفض الليبراليون تفسير أفعال الأفراد تفسيرًا سببيًا، ويعللون ذلك بأنه لو صح التفسير الحتمي للأفعال لانعدمت مسؤولية الفرد عن أفعاله، والعجب أنهم مع إيمانهم بقانون السببية الذي يضبط الطبيعة إلا أنهم يستثون الإنسان منه والمتأثرون بالفكر الليبرالي من الشرقيين لا يتحدثون عن هذا الأمر كثيرًا مع اقتناعهم به؛ لموافقته اعتقاد القدرية المعتزلة الذين ينفون القدر، وينفون علم الله بالحادثات المستقبلية من الإنسان إلا عند حدوثها.

 

والحق الذي يشهد به القرآن والسنة وتُجمع عليه الأمة أن أفعال العباد من خلق الله وإيجاده، وهي من العباد فعلا وكسبًا، وهم الفاعلون لها، وهذا لا ينفي تقدير الله وعلمه بها، قال تعالى "والله خلقكم وما تعملون" فالله أضاف العمل إليهم، وﻷن العمل حاصل بإرادة الله وتقديره وقدرته كان خالقًا له، ومن قال: إن الإنسان يخلق أفعاله من دون الخالق سبحانه، فقد جعل في الكون خالقين، وهي عقيدة المجوس.

 

وعادة الفكر الليبرالي عدم إثارة أمور الغيب الإلهي والاقتصار على المادة وما دونها، ولهذا لا يرغب أكثرهم في الحديث عن الخالق سبحانه، وأمور الآخرة والدين.

 

وبالرغم من تشعّب الفكر الليبرالي وتشتته إلا أن من مبادئه أن الأصل في السلوك والممارسات إمكان الانضباط، حتى في سلوك الحيوان البهيم، فلجميع أنواع الحيوان غير العاقل سلوك يمكن ضبطه، ويظهر هذا في مواضع كثيرة في القرآن؛ كما في قوله تعالى عن النمل "قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وجنوده وهم لا يشعرون" فثمة آمر ومأمور، وساكن ومسكون، ونطق ومنطوق، وحد للسمع والطاعة.

 

وقد صنف غير واحد من الفلاسفة والكتاب في سلوك الحيوان وانتظام عمله، وهذا يدركه من نظر في كتاب "الحيوان" لأبي عثمان الجاحظ (ت255 هـ)، و"حياة الحيوان الكبرى" لأبي البقاء الدّميري (ت808 هـ) "وسلوك الحيوان" لجون بول سكوت. والإنسان العاقل مهما كان منفلتًا يمكن ضبط سلوكه وتصرفاته، ولو في دائرة عامة عريضة الاتساع، كذلك الفكر الليبرالي لا يخرج عن هذا التأصيل، وبمجموع فلسفات العقل الليبرالي وممارساته فأصوله التي يُحاكم إليها أربع لا يخرج عنها بجميع تطبيقاته كما يأتي بيانها.

 

الليبرالية الشرقية

 

وكثير من الليبراليين الشرقيين لا يُحسن إرجاع شتات أفكاره وفروع أقواله وأفعاله ولوازمها إلى أصول صحيحة ثم يحاكمها إلى العقل الصحيح، والنقل الصريح، فيعرف حدوده التي له والحدود التي عليه، وبعضهم يدرك أصلا أو أصلين ولا يدرك الباقي، وبعضهم يدرك ممارسات قليلة يحتاجها من كل أصل، وعند الاصطلاح يأخذ المفهوم الليبرالي على النحو الغربي الذي يتعامل مع الليبرالية كأصل واحد مبدؤه العقل ومنتهاه العقل.

 

ومن البدهيات العقلية أن من لم يقم بالتحليل فإنه يشق أو يتعذر عليه التركيب، فتحليل الأفكار يُسهّل فهمها، وأعمق الناس معرفة في الماديات والمعارف من عرف الشيء بتحليل أجزائه ثم تركيبها، والفكر الليبرالي فكر فضفاض متحلل إلى جزئيات عريضة في أذهان معتنقيه، يتعاملون مع كل جزئية من تطبيقاته على انفراد، وإن أحسنوا إرجاعها إلى الأصل الليبرالي العام، ولهذا يقعون في تناقضات كبيرة جدا في تقرير الإيمان بالله والعبادة له وحده، وفي العلاقة مع الآخرين ومع أفعال الذات نفسها؛ لأن تلك الجزئيات غير مرتبطة ببعضها تحت أصل.

 

والأصل يوازيه أصول، وتحت الأصول الأخرى جزئيات كبيرة، وقد تجد ليبراليا يجيز الانتحار (قتل النفس) وآخر لا يجيزه، وآخر يقر أنظمة الحكم الملكي، بل يعمل على سنّ أنظمتها، وآخر يحاربها، وآخر يجيز قمع المخالفين بالرأي له وسجنهم؛ ﻷن حريتهم تتقاطع مع حريته، وآخر يراها ديكتاتورية، وآخر يجيز الزنا، وآخر لا يجيزه، وغير ذلك كثير، وهذا من أكبر وجوه الخطأ في الليبرالية التي جعلتها غير منضبطة.

 


 

المصدر:

  1. العقلية الليبرالية في رصف العقل ووصف النقل، عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، ص 143
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الليبرالية
اقرأ أيضا
المسألة فيها خلاف الجزء الأول | مرابط
فكر مقالات

المسألة فيها خلاف الجزء الأول


كان الناس قبل عقود -بل سنوات- قليلة إذا تباحثوا في مسألة ما قال أحدهم: ما الدليل واليوم وبعد أن سمع فتوى فلان وفلان قال لك: المسألة فيها خلاف فرد التنازع إلى الخلاف لا إلى الدليل من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وبدلا من أن يجعل القرآن والسنة حاكمين عند الاختلاف جعل الاختلاف حاكما عليهما ومرد ذلك إلى الجهل والهوى والتساهل والتهاون في اتباع الشرع والأخذ بالدليل

بقلم: علوي بن عبد القادر السقاف
1644
هل تؤمنين بالله حقا؟ | مرابط
المرأة

هل تؤمنين بالله حقا؟


إن المرأة التي تحرص على إبراز مفاتنها عبر منعطفات جسمها وحركة لحمها وتعصر غلائل ثوبها على بدنها إمعانا في استعراض مسالك عورتها وحجم وركها! وتفاصيل أنوثتها مقبلة ومدبرة تشتهي سماع كلمة ساقطة من شاب ساقط! أو كما قالت العرب: لا ترد يد لامس! لهي امرأة غبية حقا! إنها تختزل إنسانيتها في صورة حيوان!

بقلم: فريد الأنصاري
270
مختصر قصة الأندلس الجزء الرابع | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة الأندلس الجزء الرابع


سلسلة مقالات مختصرة تطوف بنا حول الأندلس لنعرف قصتها من البداية حتى النهاية من الفتح إلى السقوط سنعرف كل ما دار من أحداث بين لحظة الفتح والصعود ولحظة الانهيار والأفول والهدف من ذلك أن ندرك ونعي تاريخنا بشكل جيد وأن نتعلم منه حتى نبني للمستقبل

بقلم: موقع قصة الإسلام
1429
كيف عامل عمر بن الخطاب أهله أثناء الخلافة | مرابط
تاريخ

كيف عامل عمر بن الخطاب أهله أثناء الخلافة


عن ابن عمر قال: كان عمر بن الخطاب إذا نهى الناس عن شيء دخل إلى أهله أو قال جمع أهله فقال: إني نهيت عن كذا وكذا والناس إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم فإن وقعتم وقعوا وإن هبتم هابوا وإني والله لا أوتي برجل منكم وقع في شيء مما نهيت عنه الناس إلا أضعفت له العقوبة لمكانه مني فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر

بقلم: حاكم المطيري
536
تشديد الشارع في الكذب | مرابط
اقتباسات وقطوف

تشديد الشارع في الكذب


وحسبك أن الإنسان المعروف بالكذب قد سلخ نفسه من الإنسانية فإن من يعرفه لم يعد يثق بخبره فلا يستفيد الناس منه شيئا ومن لم يعرفه يقع بظنه صدقه في المفاسد والمضار فأنت ترى أن موت هذا الرجل خير للناس من حياته وهبه يتحرى من الكذب ما لا يضر فإنه لا يستطيع ذلك ولو استطاعه لكان إضراره بنفسه إذ أفقدها ثقة الناس به على أن الكذبة الواحدة كافية لتزلزل ثقة الناس به

بقلم: عبد الرحمن المعلمي اليماني
1265
مراجعة كتاب الردة بين الحد والحرية | مرابط
مناقشات

مراجعة كتاب الردة بين الحد والحرية


بعد خمسة عشر قرنا من استقرار أحكام الإسلام في نصوص الوحي وآثار الصحابة والتابعين وتقريرات المذاهب الأربعة تفاجأ المسلمون بالتفوق المادي للمجتمعات الغربية وتعلق الناس بثقافتها التي تمركز الحرية الليبرالية وتفاجأ المعنيون بأمر الإسلام أمام هذا السؤال أعني سؤال الموقف من الثقافة الليبرالية الغالبة فجماهير الفقهاء والدعاة مالوا إلى ضرورة التمسك بنص الإسلام كما أنزل وكما فهمته القرون المفضلة مع الأخذ بالأسباب والوسائل المادية المعاصرة وذهبت طوائف من العلمانيين إلى رفض أحكام الإسلام ببجاحة وضرورة...

بقلم: إبراهيم السكران
710