قواعد جليلة لأهل السنة والجماعة في بيان حقيقة التوحيد ج1

قواعد جليلة لأهل السنة والجماعة في بيان حقيقة التوحيد ج1 | مرابط

الكاتب: ابن القيم

1296 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

الكفر والإيمان متقابلان، إذا زال أحدهما خلفه الآخر، ولما كان الإيمان أصلًا له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيمانًا: فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصيام، والأعمال الباطنة كالحياء، والتوكل، والخشية من الله، والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه شعبة من شعب الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتًا عظيمًا، منها
ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب.

وكذلك الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان وتركها من شعب الكفر والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان.

وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية شعب يوجب زوالها زوال الإيمان، فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان، وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارًا – وهي شعبة من شعب الكفر – فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، فهذا أصل.

وها هنا أصل آخر: وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب: هو الاعتقاد. وقول اللسان: وهو التكلم بكلمة الإسلام.

والعمل قسمان: عمل، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق: فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة فأهل السنة: مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول، بل ويقرون به سرًا وجهرًا ويقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به.

وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح ولا سيما إذا كان ملزومًا لعدم محبة القلب وانقياده، والذي هو ملزم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان، فإن الإيمان ليس مجرد التصديق – كما تقدم – وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبيينه، بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقًا – فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته.

وهاهنا أصل آخر: وهو أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودًا وعنادًا، من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه، وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه وأما كفر العمل: فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان.

وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعًا، ولا يمكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه، فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد، ومن الممتنع أن يسمى الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرًا، ويسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافرًا، ولا يطلق عليهما اسم الكفر.

وقد نفى رسول الله الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر، وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد.

وكذلك قوله (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) فهذا كفر عمل. وكذلك قوله (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول أو أتى امرأته في دبرها فقد برئ مما أنزل على محمد) وقوله (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه مؤمنًا بما عمل به وكافرًا بما ترك العمل به فقال تعالى:
"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ {84} ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ"

(فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به أنهم لا يقتل بعضهم بعضًا، ولا يخرج بعضهم بعضًا من ديارهم، ثم أخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقًا وأخرجوهم من ديارهم، فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب. ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه.

فالإيمان العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي، وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلناه في الحديث الصحيح (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) ففرق بين قتاله وسبابه، وجعل أحدهما فسوقًا لا يكفر به، والآخر كفرًا. ومعلوم إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لا يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان.

وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمها فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقًا أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقًا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان فهؤلاء غلوا، وهؤلاء جفوا. وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل، فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم. وقال سفيان بن عيينة: عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).

قال: هو بهم كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة. وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة. وقال وكيع بن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وهذا الذي قال عطاء بين في القرآن لمن فهمه، فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزله كافرًا، وسمى جاحد ما أنزله على رسوله كافرًا، وليس الكافران على حد سواء.

وسمى الكافر ظالمًا كما في قوله تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

وسمى متعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالمًا فقال:
(وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) وقال نبيه يونس (لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). وقال صفيه آدم (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا) وقال كليمه موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي {وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم.

ويسمى الكافر فاسقًا: كما في قوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ {26} الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ) وقال: (وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ). وهذا كثير في القرآن. ويسمى المؤمن فاسقًا كما في قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) نزلت في الحكم بن أبي العاص، وليس الفاسق كالفاسق. وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وقال عن إبليس: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) وقال: (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق) وليس الفسوق كالفسوق.

 


 

المصدر:

ابن القيم، كتاب الصلاة، ص25-31.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ابن-القيم #التوحيد #الشرك
اقرأ أيضا
الاختلاط بين زمانين: مفارقات مرة وعبرات حارة | مرابط
مقالات المرأة

الاختلاط بين زمانين: مفارقات مرة وعبرات حارة


هذان زمانان.. زمان لزمت فيه المرأة فطرتها السوية وعرفت مكانتها ودورها وأدركت معنى العفة والحياء فلم تزاحم الرجال ولم تخالطهم وسدت من حولها كل الذرائع وأدت ما عليها وحفظت حدود الله فأخرجت للأمة أعلاما شامخة ساد بها الإسلام. وزمان انتكست فيه الفطر وتكسرت فيه الحدود فاختلط الرجال والنساء كاختلاط النار بالحطب وخرجت المرأة من بيتها وتخلت عن دورها تلهث وراء سراب تحسبه ماء فنزعت عنها ثوب الحياء والعفة وتمركزت حول نفسها كأنثى ونسيت دورها في بيتها فأخرجت أجيالا كغثاء السيل.

بقلم: محمود خطاب
498
مختصر قصة الأندلس الجزء الرابع | مرابط
تاريخ أبحاث

مختصر قصة الأندلس الجزء الرابع


سلسلة مقالات مختصرة تطوف بنا حول الأندلس لنعرف قصتها من البداية حتى النهاية من الفتح إلى السقوط سنعرف كل ما دار من أحداث بين لحظة الفتح والصعود ولحظة الانهيار والأفول والهدف من ذلك أن ندرك ونعي تاريخنا بشكل جيد وأن نتعلم منه حتى نبني للمستقبل

بقلم: موقع قصة الإسلام
1559
السر في كون البدعة أحب إلى إبليس من المعصية | مرابط
تفريغات

السر في كون البدعة أحب إلى إبليس من المعصية


قالسفيان الثوريوغيره من العلماء: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها ومن أظهر الدلائل على أن إبليس لا يكترث بالمعصية حديثجابرالذي رواه الإماممسلمفي صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبليس يضع عرشه على الماء فهو يضع عرشه أي: الكرسي ثم يجلس عليه وبعد ذلك يعطي للأبالسة خط سير كل واحد يذهب إلى بني آدم: يرسل سراياه تترى إلى بني آدم تترى: بعضها خلف بعض إنهم لا يكلون ولا ينامون ولا يهدءون فإبليس لا يحاسب رأس كل شهر ولا أسبوع إبليس يحاسب كل يوم ي...

بقلم: أبو إسحق الحويني
915
أزمة غياب العقلانية بين الباحثين الغربيين | مرابط
فكر مقالات

أزمة غياب العقلانية بين الباحثين الغربيين


من الظواهر الأليمة والمنتشرة بشكل واسع بين الباحثين الغربيين هي أزمة التفكير النصوصي الجامد وغياب العقلانية المفتوحة وهذا ما سبب احتباس وتخلف العلوم الغربية وضعف هيمنتها على العالم ومن المضحك بين الباحثين الغربيين أنهم في سياق البرهنة والاثبات يدورون في حلقة نصوصية متقوقعة ولا يفكرون بعقول مفتوحة غير مرتبطة وخاضعة لنصوص وفي هذا المقال يناقش الكاتب هذه الإشكالية ويوضح معالمها

بقلم: إبراهيم السكران
1487
تحرير العقول من التفكير الخاطئ | مرابط
تفريغات

تحرير العقول من التفكير الخاطئ


يعطيك صاحب الفكر المتصلب انطباعا بأن لديه جوابا لكل سؤال والسبب في ذلك أن ممارسته للمشاركة في التحدث قائمة على عدد قليل من المبادئ والمفاهيم الجاهزة والمحددة فهو يحفظها عن ظهر قلب ويسارع إلى استخدامها في محاوراته وليس عنده أي مشكلة نحو الآثار التي تترتب على عدم صوابها إنه موقن بها وليس بحاجة إلى سماع رأي الآخرين فيها

بقلم: د عبد الكريم بكار
663
لماذا نحب الرسول الجزء الثالث | مرابط
تفريغات

لماذا نحب الرسول الجزء الثالث


آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت هذه الآثار كانت عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حيا أو ما بقي منها مع الصحابة بعد موته لكن الآن آثاره صلى الله عليه وسلم فقدت ويصعب نسبتها إليه عليه السلام أي: بعض الناس يقولون: في تركيا هناك شعرة وسيف لكن ليس بمؤكد نسبتها له صلى الله عليه وسلم فلذلك لا يجوز التبرك بشيء منها بعد موته مادمنا غير متأكدين من أنها له عليه الصلاة والسلام

بقلم: محمد المنجد
810