تحرير العقول من التفكير الخاطئ

تحرير العقول من التفكير الخاطئ | مرابط

الكاتب: د عبد الكريم بكار

663 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

التفكير الصحيح ليس سهلًا

أولًا: أن منطلق حرصنا على التخلص من التفكير المعوج يكمن في إيماننا بأن التفكير المستقيم والصحيح ليس سهلًا، ولا متاحًا دائمًا، حتى الذين يعلنون ولاءهم للمنهج العقلاني لا يملكون أي ضمانة لخلو تفكيرهم من التحيز، أو المبالغة، أو الخروج على المنطق. ولا أريد هنا شرح أسباب ذلك، لكني أقول: إن المشكلات التي نواجهها في الحياة تزداد كمًا وكيفًا، لا بسبب تعقد أساليب العيش فحسب، وإنما لأن النمو جزءٌ من طبيعة المشكلات، ولن نستطيع أن نحل مشكلاتنا المختلفة، إذا لم نعالج طرق التفكير لدينا، ما دامت هي التي سنستخدمها في فهم كل شيء.

 

ولست أبالغ إذا قلت: إن الأسس العميقة لكل مشكلات أمة الإسلام تقبع في عقولها ونفوسها، وإن عليها أن تضرب على الجذور لتلك المشكلات، فضربةٌ واحدةٌ على الجذور خيرٌ من مائة ضربة على الأغصان. إنسان القرن الحادي والعشرين مع أنه يتحدث باستفاضةٍ مملة عن العولمة، والقرية الكونية، وتلاقي الثقافات، إلا أنه غير قادر على تغيير أنماط تفكيره القديمة، فهناك انجذابٌ هائل نحو الإقليمية، والطائفية، والعنصرية، أي: هناك انسحاب من عالمية الرؤية، والثقافة، والموقف، والإحساس المشترك، في الوقت الذي تتسع فيه عالمية التجارة، ويتسايل انتقال المعلومات والأشياء.

وهذه الأمراض تتبدى في مواقف كثيرة، لكن تظل مستورة بقشرةٍ رقيقة من قشور الحضارة، ولا ينفضح أمرها إلا في الأزمات العالمية الكبرى.

 

الموضوعية

ثانيًا: لا نستطيع أن نعيش عصرنا على الوجه المطلوب، إلا إذا أدركناه إدراكًا موضوعيًا، والإدراك الموضوعي يعني: أننا نستطيع أن نرى الأشياء كما هي عليه، من غير تضخيمٍ ولا تقزيم، وهذا ليس بالأمر اليسير. من الأمور التي تشوه رؤيتنا للواقع: المبالغة في فهم الأمور، وفي تقدير الأحداث والأشياء، وهي من الأمراض المزمنة، والمستعصية.

 

والمبالغة من الأمراض الواسعة الانتشار في كل زمانٍ ومكان، وجذورها عديدة، منها ما هو نفسي، ومنها ما هو فكري. فالإدراك القاصر، وضعف المحاكمة العقلية، والجهل بسنن الله تعالى في الخلق، مما يدفع إلى المبالغة والتزيد تمامًا، كما تدفع إليها الأهواء والرغبات الجامحة، والأمراض النفسية، والانطباعات الخاطئة.

وتجليات المبالغة في الحقيقة كبيرة، أذكر منها الآتي:

بعض الناس يميل إلى تضخيم كل الأشياء؛ لتبدو وكأنها مجموعة كوارث، فأي ألمٍ مفاجئ يصيب الواحد منهم هو دليل على وجود مرضٍ خطير، وأي خطأٍ يقع فيه يمكن أن يؤدي إلى فصله من وظيفته. وفي الناس من ينجذب إلى تعميم الافتراض، فلأن شيئًا ما قد وقع، في ظرفٍ ما، فإنه سيقع دائمًا، فإذا نسي موظفٌ عنده تنفيذ أحد طلباته قال له: إنك تنسى دائمًا ما أطلبه منك، وإذا تبين له أن إحدى الجرائد نشرت خبرًا كاذبًا في يومٍ من الأيام حكم بأن تلك الجريدة لا تصدق أبدًا ... وهكذا وهكذا.

 

تتجلى المبالغة أحيانًا في إعطاء الأحداث سلبية أكبر مما تستحقه، مع التقليل في الوقت نفسه من قيمة الأمور الإيجابية، فإذا رسب في اختبار لنيل رخصة قيادة حكم على نفسه بالغباء؛ لأنه يرى أن النجاح في اختبارٍ كهذا سهلٌ على كل الأشخاص الأسوياء، وإذا أثنى عليه شخص في أمرٍ من الأمور، فسر ذلك بأنه مجاملةٌ منه كي يرفع معنوياته، وإذا نجح في أمرٍ من الأمور عد ذلك من باب الحظ أو المصادفة، أي لأسبابٍ لا تعود إلى اجتهاده وعمله.

 

إن هذا الصنف من الناس يمارس عملية تعذيبٍ للنفس من غير أي مسوغ.

تتجسد المبالغة أحيانًا في صورة قراءة لما في عقول الناس، حيث يعتقد بعض الأشخاص أنه يملك شفافيةً خاصة لما يدور في أذهان الآخرين، وما تنطوي عليه سرائرهم، فإذا حدث أن توجهت إليه شركة من الشركات بسؤالٍ عن قضية ما ظن أنها سألته؛ لأنها لم تعثر على شخصٍ آخر في إمكانه أن يجيب على أسئلتها.

 

وإذا واجه مشكلة ولم يتدخل فيها أحدٌ من أصدقائه، فليس ذلك بسبب رعايتهم لخصوصياته ومشاعره، وإنما بسبب إهمالهم له، أو شماتتهم به، وإذا نصحه شخصٌ بنصيحة فليس ذلك بقصد إصلاحه، وإنما بقصد تحطيمه أمام نفسه.

 

تأخذ المبالغة في بعض الأحيان شكلًا من أشكال عدم الاتزان، وانعدام الرؤية الواضحة، فكم رأيت ورأيتم من أشخاص يتحولون من النقيض إلى نقيضه بسرعة البرق، فبسبب كلمةٍ أو حركة أو موقف يصبح مشروع ما مشروع العمر كله، ويمكن أن يصبح الصديق الحميم عدوًا لدودًا، وتجد هذا في تعبيراتهم، وطالما سمعنا من يقول: إذا فعلت كذا؛ فعليك أن تعتبر صداقة العشرين سنة الماضية منتهية، ومنهم من يقول: خطأٌ واحد يفسد الأمر كله، ومنهم من يقول: إذا لم أستطع تصحيح هذا الأمر فسأتوقف عنه كليًا.

 

هذه الرؤية للأشياء تجلب لأصحابها الكثير من المآسي، وتحجب عنهم الكثير من الخير، وحين ندقق في تفاصيل حياتنا اليومية؛ نجد أنه من السهل على الواحد منا أن يقع في شباك المبالغة دون أن يدري.

ولذا لابد -أيها الإخوان!- من الحذر والانتباه.

 

المرونة الذهنية

ثالثًا: يعاني كثيرٌ من الناس مما يمكن أن نسميه: التصلب الفكري، ولعلي أبادر إلى القول: إن لدى كل واحدٍ منا درجةً من التصلب الفكري، وذلك يعود إلى عددٍ من الأسباب أهمها: أن الواحد منا لا يستطيع أن يعثر على نحو مستمر على الحواجز التي يمكن أن يقيمها بين التصلب الممدوح الذي يتمثل في التمسك بالعقائد والمبادئ والمفاهيم الكبرى، وبين التصلب المذموم الذي يتولد من النقص في الثقافة، والمعرفة بطبائع الأشياء، ومن النقص في المرونة الفكرية، ومن اعتناق بعض المفاهيم الخاطئة، التي تجعل المرء فاقدًا للرشد الفكري.
عصرنا هذا هو عصر التعقيد الشديد، ومن الصعب فهمه والاستجابة لتحدياته من غير مرونةٍ ذهنية، وفكرية شديدة، ويبدو أن الحياة تتعقد على نحو أسرع بكثير من التطور الذي يحدث في نظم التفكير لدينا، مما يجعلنا نبدو دائمًا في حالة تخبطٍ وارتباك ونحن نحاول فهم حقيقة ما يجري.

 

لعل من أهم سمات صاحب الفكر المتصلب ما يلي:

صاحب الفكر المتصلب شديد الجمود على أفكاره، وهو غير قادر على التخلي عنها حتى لو بدا له خطؤها، على حين أن صاحب الفكر المرن يذعن للحق، ويتشوق إلى معرفة الجديد، سواءٌ أكان موافقًا لما يرى أم مخالفًا له.

اللغة التي يستخدمها صاحب الفكر المتصلب تميل إلى المغالاة والقطعية، فهو يستخدم جملًا من نحو: أنا لا يمكن أن أتفق مع فلان .. أنا لا أقول ذلك أبدًا .. كلامك لا يمكن التساهل في شأنه .. كل شخصٍ جاهل سيئ ... وهكذا.

 

يعطيك صاحب الفكر المتصلب انطباعًا بأن لديه جوابًا لكل سؤال، والسبب في ذلك أن ممارسته للمشاركة في التحدث قائمةٌ على عددٍ قليل من المبادئ والمفاهيم الجاهزة والمحددة، فهو يحفظها عن ظهر قلب، ويسارع إلى استخدامها في محاوراته، وليس عنده أي مشكلة نحو الآثار التي تترتب على عدم صوابها. إنه موقنٌ بها وليس بحاجة إلى سماع رأي الآخرين فيها.

ولهذا فإنه لا يعير اهتمامًا لمسألة البحث عن بدائل أكثر نفعًا، وأقل تكلفة، وهو مستعد لتحمل المشاق إلى ما لا نهاية، حيث لا يخطر في باله أن ثمة مخرجًا مما هو فيه. إن المتصلبين فكريًا لا يفيقون عادةً إلا من خلال الصدمات العنيفة، ولكن المشكلة أننا قد لا نجد في كل وقت الأحداث التي توفر تلك الصدمات.

 

مساحة الوعي

رابعًا: في اعتقادي أن من أخطر المشكلات الفكرية التي تواجه المسلم في زماننا الصعب ما يمكن أن نسميه بقصور المفاهيم، حيث إن كل الأبنية الحضارية تقوم في الأصل على ما لدينا من رؤى، ومفاهيم، وأفكارٍ، وانطباعات، عن الحياة والأحياء، وعلى مقدار امتداد مفاهيمنا، وارتقائها، وتعقدها، ودخولها في الأمور التفصيلية؛ تتسع مساحة الوعي، وباتساعها نؤسس لشموخ البناء الحضاري، وترسيخ أركانه، وقد صار في إمكاننا أن نتخذ من نوعية المفاهيم التي يحملها شخصٌ ما؛ مقياسًا على التقدم والارتقاء لديه، كما يمكن أن نتخذ من قصور المفاهيم، وتدني درجة الاهتمامات؛ مقياسًا على التخلف، وسوء الأحوال.

 


 

المصدر:

محاضرة العيش في الزمن الصعب

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أنماط-التفكير
اقرأ أيضا
يا شباب العرب | مرابط
مقالات

يا شباب العرب


ويقولون: إن الأمر العظيم عند شباب العرب ألا يحملوا أبدا تبعة أمر عظيم ويزعمون أن هذا الشباب قد تمت الألفة بينه وبين أغلاطه فحياته حياة هذه الأغلاط فيه وأنه أبرع مقلد للغرب في الرذائل خاصة وبهذا جعله الغرب كالحيوان محصورا في طعامه وشرابه ولذاته ويزعمون أن الزجاجة من الخمر تعمل في هذا الشرق المسكين عمل جندي أجنبي فاتح ويتواصون بأن أول السياسة في استعباد أمم الشرق أن يترك لهم الاستقلال التام في حرية الرذيلة

بقلم: مصطفى صادق الرافعي
1193
الزيادة على القروض | مرابط
مقالات

الزيادة على القروض


كل زيادة على قرض فهي ربا حتى لو كانت هدية وقد بينا أن الهدية من الربا لما فيه من نفع للمقرض وكذا لما فيه من تودد لا ينبغي لأن القرض الغرض منه الإحسان فمن كان لا يهدي له صحابه قبل القرض ثم صار يهدي له فهذا ظاهر فيما ذكرنا.

بقلم: قاسم اكحيلات
486
الخطاب النسوي وإشكالية عمل المرأة | مرابط
النسوية المرأة

الخطاب النسوي وإشكالية عمل المرأة


قرأت مقالا لإحدى النساء تضع فيه مقتطفات من محاضرة للدكتورة هبة رؤوف عزت تذم فيها انشغال النسوة بأعمال البيت المعقدة صناعة المحشي في المثال وتحاكمهن لمجتمع الصحابيات الذي كان مشغولا بالحياة العامة وتضرب الأمثلة على وظائف خير النساء ففلانة خطيبة وفلانة تاجرة وعائشة متعددة الوظائف وهكذا. وقد أحببت أن أكتب ردا بالغ الإيجاز لا تمكث في تحريره ولا تأن في بحثه فليعتبره القارئ مجرد اعتراض مختصر.

بقلم: عمرو عبد العزيز
842
الاعتراض على ذبح الأنعام | مرابط
أباطيل وشبهات

الاعتراض على ذبح الأنعام


بعض الناس قد تأخذه شفقة مبالغ فيها في ذبح الحيوانات والعلمانيون والملاحدة يجمعون بطبيعتهم الأفكار الشاذة فيروجون لهذه القضية والمقال الذي بين يدينا يقف على هذا الاعتراض ليوضح المغالطات التي ينطوي عليها وما هي الإجابة العلمية على هذه الدعوى

بقلم: د هيثم طلعت
1053
الإطراق الأخير | مرابط
فكر مقالات

الإطراق الأخير


إنسان هذا العصر منهمك في دوامة الحياة اليوميةأصبح الواحد منا كأنه ترس في دالوب المهام والتفاصيل الصغيرة التي تستلمك منذ أن تستيقظ صباحا حتى تلقيك منهكا فوق سريرك في أواخر المساء دوام مضني ورسالة جوال ورسالة إيميل وتعليق فيسبوكي وخبر تويتري ومقطع يوتيوبي وتنقل بين الفضائيات وصراخ منبهات في طرق مكتظة وأعمال مؤجلة كلما تذكرتها قرصك الهم الخ الخ

بقلم: إبراهيم السكران
940
أبرز آراء النسوية الراديكالية: رفض الأمومة والإنجاب | مرابط
النسوية

أبرز آراء النسوية الراديكالية: رفض الأمومة والإنجاب


لقد بلغت الأنانية وعبادة الذات وحب الاستمتاع بالشهوات والتمرد على الطبيعة ورفض المسؤولية والتهرب منها والانحراف عن الفطرة والتفسير السقيم بالحركة الأنثوية الراديكالية إلى درجة رفض الأمومة والإنجاب كخطوة لاحقة لرفض الأسرة والزواج زعيمة الأنثوية الوجودية الفرنسية سيمون دي بوفوار تسمي هذا الواجب بعبودية التناسل وكأن الأولاد للأب فقط ولا علاقة لهم بالأم

بقلم: مثنى أمين الكردستاني
3552