تحرير العقول من التفكير الخاطئ

تحرير العقول من التفكير الخاطئ | مرابط

الكاتب: د عبد الكريم بكار

552 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

التفكير الصحيح ليس سهلًا

أولًا: أن منطلق حرصنا على التخلص من التفكير المعوج يكمن في إيماننا بأن التفكير المستقيم والصحيح ليس سهلًا، ولا متاحًا دائمًا، حتى الذين يعلنون ولاءهم للمنهج العقلاني لا يملكون أي ضمانة لخلو تفكيرهم من التحيز، أو المبالغة، أو الخروج على المنطق. ولا أريد هنا شرح أسباب ذلك، لكني أقول: إن المشكلات التي نواجهها في الحياة تزداد كمًا وكيفًا، لا بسبب تعقد أساليب العيش فحسب، وإنما لأن النمو جزءٌ من طبيعة المشكلات، ولن نستطيع أن نحل مشكلاتنا المختلفة، إذا لم نعالج طرق التفكير لدينا، ما دامت هي التي سنستخدمها في فهم كل شيء.

 

ولست أبالغ إذا قلت: إن الأسس العميقة لكل مشكلات أمة الإسلام تقبع في عقولها ونفوسها، وإن عليها أن تضرب على الجذور لتلك المشكلات، فضربةٌ واحدةٌ على الجذور خيرٌ من مائة ضربة على الأغصان. إنسان القرن الحادي والعشرين مع أنه يتحدث باستفاضةٍ مملة عن العولمة، والقرية الكونية، وتلاقي الثقافات، إلا أنه غير قادر على تغيير أنماط تفكيره القديمة، فهناك انجذابٌ هائل نحو الإقليمية، والطائفية، والعنصرية، أي: هناك انسحاب من عالمية الرؤية، والثقافة، والموقف، والإحساس المشترك، في الوقت الذي تتسع فيه عالمية التجارة، ويتسايل انتقال المعلومات والأشياء.

وهذه الأمراض تتبدى في مواقف كثيرة، لكن تظل مستورة بقشرةٍ رقيقة من قشور الحضارة، ولا ينفضح أمرها إلا في الأزمات العالمية الكبرى.

 

الموضوعية

ثانيًا: لا نستطيع أن نعيش عصرنا على الوجه المطلوب، إلا إذا أدركناه إدراكًا موضوعيًا، والإدراك الموضوعي يعني: أننا نستطيع أن نرى الأشياء كما هي عليه، من غير تضخيمٍ ولا تقزيم، وهذا ليس بالأمر اليسير. من الأمور التي تشوه رؤيتنا للواقع: المبالغة في فهم الأمور، وفي تقدير الأحداث والأشياء، وهي من الأمراض المزمنة، والمستعصية.

 

والمبالغة من الأمراض الواسعة الانتشار في كل زمانٍ ومكان، وجذورها عديدة، منها ما هو نفسي، ومنها ما هو فكري. فالإدراك القاصر، وضعف المحاكمة العقلية، والجهل بسنن الله تعالى في الخلق، مما يدفع إلى المبالغة والتزيد تمامًا، كما تدفع إليها الأهواء والرغبات الجامحة، والأمراض النفسية، والانطباعات الخاطئة.

وتجليات المبالغة في الحقيقة كبيرة، أذكر منها الآتي:

بعض الناس يميل إلى تضخيم كل الأشياء؛ لتبدو وكأنها مجموعة كوارث، فأي ألمٍ مفاجئ يصيب الواحد منهم هو دليل على وجود مرضٍ خطير، وأي خطأٍ يقع فيه يمكن أن يؤدي إلى فصله من وظيفته. وفي الناس من ينجذب إلى تعميم الافتراض، فلأن شيئًا ما قد وقع، في ظرفٍ ما، فإنه سيقع دائمًا، فإذا نسي موظفٌ عنده تنفيذ أحد طلباته قال له: إنك تنسى دائمًا ما أطلبه منك، وإذا تبين له أن إحدى الجرائد نشرت خبرًا كاذبًا في يومٍ من الأيام حكم بأن تلك الجريدة لا تصدق أبدًا ... وهكذا وهكذا.

 

تتجلى المبالغة أحيانًا في إعطاء الأحداث سلبية أكبر مما تستحقه، مع التقليل في الوقت نفسه من قيمة الأمور الإيجابية، فإذا رسب في اختبار لنيل رخصة قيادة حكم على نفسه بالغباء؛ لأنه يرى أن النجاح في اختبارٍ كهذا سهلٌ على كل الأشخاص الأسوياء، وإذا أثنى عليه شخص في أمرٍ من الأمور، فسر ذلك بأنه مجاملةٌ منه كي يرفع معنوياته، وإذا نجح في أمرٍ من الأمور عد ذلك من باب الحظ أو المصادفة، أي لأسبابٍ لا تعود إلى اجتهاده وعمله.

 

إن هذا الصنف من الناس يمارس عملية تعذيبٍ للنفس من غير أي مسوغ.

تتجسد المبالغة أحيانًا في صورة قراءة لما في عقول الناس، حيث يعتقد بعض الأشخاص أنه يملك شفافيةً خاصة لما يدور في أذهان الآخرين، وما تنطوي عليه سرائرهم، فإذا حدث أن توجهت إليه شركة من الشركات بسؤالٍ عن قضية ما ظن أنها سألته؛ لأنها لم تعثر على شخصٍ آخر في إمكانه أن يجيب على أسئلتها.

 

وإذا واجه مشكلة ولم يتدخل فيها أحدٌ من أصدقائه، فليس ذلك بسبب رعايتهم لخصوصياته ومشاعره، وإنما بسبب إهمالهم له، أو شماتتهم به، وإذا نصحه شخصٌ بنصيحة فليس ذلك بقصد إصلاحه، وإنما بقصد تحطيمه أمام نفسه.

 

تأخذ المبالغة في بعض الأحيان شكلًا من أشكال عدم الاتزان، وانعدام الرؤية الواضحة، فكم رأيت ورأيتم من أشخاص يتحولون من النقيض إلى نقيضه بسرعة البرق، فبسبب كلمةٍ أو حركة أو موقف يصبح مشروع ما مشروع العمر كله، ويمكن أن يصبح الصديق الحميم عدوًا لدودًا، وتجد هذا في تعبيراتهم، وطالما سمعنا من يقول: إذا فعلت كذا؛ فعليك أن تعتبر صداقة العشرين سنة الماضية منتهية، ومنهم من يقول: خطأٌ واحد يفسد الأمر كله، ومنهم من يقول: إذا لم أستطع تصحيح هذا الأمر فسأتوقف عنه كليًا.

 

هذه الرؤية للأشياء تجلب لأصحابها الكثير من المآسي، وتحجب عنهم الكثير من الخير، وحين ندقق في تفاصيل حياتنا اليومية؛ نجد أنه من السهل على الواحد منا أن يقع في شباك المبالغة دون أن يدري.

ولذا لابد -أيها الإخوان!- من الحذر والانتباه.

 

المرونة الذهنية

ثالثًا: يعاني كثيرٌ من الناس مما يمكن أن نسميه: التصلب الفكري، ولعلي أبادر إلى القول: إن لدى كل واحدٍ منا درجةً من التصلب الفكري، وذلك يعود إلى عددٍ من الأسباب أهمها: أن الواحد منا لا يستطيع أن يعثر على نحو مستمر على الحواجز التي يمكن أن يقيمها بين التصلب الممدوح الذي يتمثل في التمسك بالعقائد والمبادئ والمفاهيم الكبرى، وبين التصلب المذموم الذي يتولد من النقص في الثقافة، والمعرفة بطبائع الأشياء، ومن النقص في المرونة الفكرية، ومن اعتناق بعض المفاهيم الخاطئة، التي تجعل المرء فاقدًا للرشد الفكري.
عصرنا هذا هو عصر التعقيد الشديد، ومن الصعب فهمه والاستجابة لتحدياته من غير مرونةٍ ذهنية، وفكرية شديدة، ويبدو أن الحياة تتعقد على نحو أسرع بكثير من التطور الذي يحدث في نظم التفكير لدينا، مما يجعلنا نبدو دائمًا في حالة تخبطٍ وارتباك ونحن نحاول فهم حقيقة ما يجري.

 

لعل من أهم سمات صاحب الفكر المتصلب ما يلي:

صاحب الفكر المتصلب شديد الجمود على أفكاره، وهو غير قادر على التخلي عنها حتى لو بدا له خطؤها، على حين أن صاحب الفكر المرن يذعن للحق، ويتشوق إلى معرفة الجديد، سواءٌ أكان موافقًا لما يرى أم مخالفًا له.

اللغة التي يستخدمها صاحب الفكر المتصلب تميل إلى المغالاة والقطعية، فهو يستخدم جملًا من نحو: أنا لا يمكن أن أتفق مع فلان .. أنا لا أقول ذلك أبدًا .. كلامك لا يمكن التساهل في شأنه .. كل شخصٍ جاهل سيئ ... وهكذا.

 

يعطيك صاحب الفكر المتصلب انطباعًا بأن لديه جوابًا لكل سؤال، والسبب في ذلك أن ممارسته للمشاركة في التحدث قائمةٌ على عددٍ قليل من المبادئ والمفاهيم الجاهزة والمحددة، فهو يحفظها عن ظهر قلب، ويسارع إلى استخدامها في محاوراته، وليس عنده أي مشكلة نحو الآثار التي تترتب على عدم صوابها. إنه موقنٌ بها وليس بحاجة إلى سماع رأي الآخرين فيها.

ولهذا فإنه لا يعير اهتمامًا لمسألة البحث عن بدائل أكثر نفعًا، وأقل تكلفة، وهو مستعد لتحمل المشاق إلى ما لا نهاية، حيث لا يخطر في باله أن ثمة مخرجًا مما هو فيه. إن المتصلبين فكريًا لا يفيقون عادةً إلا من خلال الصدمات العنيفة، ولكن المشكلة أننا قد لا نجد في كل وقت الأحداث التي توفر تلك الصدمات.

 

مساحة الوعي

رابعًا: في اعتقادي أن من أخطر المشكلات الفكرية التي تواجه المسلم في زماننا الصعب ما يمكن أن نسميه بقصور المفاهيم، حيث إن كل الأبنية الحضارية تقوم في الأصل على ما لدينا من رؤى، ومفاهيم، وأفكارٍ، وانطباعات، عن الحياة والأحياء، وعلى مقدار امتداد مفاهيمنا، وارتقائها، وتعقدها، ودخولها في الأمور التفصيلية؛ تتسع مساحة الوعي، وباتساعها نؤسس لشموخ البناء الحضاري، وترسيخ أركانه، وقد صار في إمكاننا أن نتخذ من نوعية المفاهيم التي يحملها شخصٌ ما؛ مقياسًا على التقدم والارتقاء لديه، كما يمكن أن نتخذ من قصور المفاهيم، وتدني درجة الاهتمامات؛ مقياسًا على التخلف، وسوء الأحوال.

 


 

المصدر:

محاضرة العيش في الزمن الصعب

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#أنماط-التفكير
اقرأ أيضا
التفريط الديني والتهكم بالمتدينين | مرابط
اقتباسات وقطوف

التفريط الديني والتهكم بالمتدينين


كيف يتخلص الإنسان كليا من ضغط التأنيب الداخلي الحقيقة أن السخرية بالمتدينين من أهم الوسائل التي توفر للإنسان الراحلة الكلية من هذه الضغوط وضع الصورة المطلوبة في قالب هزلي يبدد نفوذها على النفس البشرية ولذلك نبه القرآن إلى هذه العلاقة بين التفريط والسخرية

بقلم: إبراهيم السكران
479
الاستشراق الجندي الخفي للاستعمار | مرابط
اقتباسات وقطوف

الاستشراق الجندي الخفي للاستعمار


اشتهر محمود شاكر شيخ العربية باهتمامه البالغ بقضايا اللغة وتصدى لكثير من المحاولات الداخلية والخارجية التي حاولت طمس معالم هذه اللغة لأنه فهم ما يترتب على ذلك من هدم للدين بأكمله وهذا مقتطف يتحدث فيه عن المستشرقين وكيف يعملون تحت ستار الاستعمار وحمايته وكيف كان هدم اللغة من ضمن أهدافهم الكبرى

بقلم: محمود شاكر
2046
حاضر العالم الإسلامي | مرابط
فكر مقالات مناقشات

حاضر العالم الإسلامي


رغم التطورات التكنولوجية الجديدة في عالمنا المعاصر إلا أن الأمة الإسلامية تزداد بعدا وتفرقا وتشتتا ويزداد المسلمون شقاقا وخلافا فيما بينهم وقلما تجد مسلما يعرف شيئا كبيرا من أخبار إخوانه وجيرانه المسلمين وهذا بجانب ما ضربته وفرضته الحدود من شقاق فوق الشقاق القائم فصار المسلمون متشرذمون متباعدون لا يجمعهم الدين كما كان سابقا وفي المقال يتحدث العلامة محمود شاكر عن هذا الأمر من وحي كتاب حاضر العالم الإسلامي

بقلم: محمود شاكر
2355
الوسائل المعينة على القيام لصلاة الفجر في جماعة ج1 | مرابط
تفريغات

الوسائل المعينة على القيام لصلاة الفجر في جماعة ج1


نريد أن نصلي الفجر في جماعة كل يوم وهناك وسائل تساعدنا على المحافظة على صلاة الفجر والابتكار في هذه الوسائل يا إخواني مفتوح فأي شخص عنده وسيلة توقظ لصلاة الفجر فلينصح بها وبين يديكم مجموعة من الاقتراحات التي قدمها الدكتور راغب السرجاني في محاضرة هامة عن صلاة الفجر

بقلم: د راغب السرجاني
685
محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة الجزء الأول | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

محور دعوة الرسل والمزاحمات المعاصرة الجزء الأول


من أظهر الأمور الدينية: أن المهمة الأولى لدعوة الرسل والهدف المركزي فيها هو تعبيد الناس لله تعالى وغرس التعلق به في كل حياتهم كما قال تعالى:ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة النحل:36 فمقصد بعثة الرسل وأساس دعوتهم ومنتهى أعمالهم وغاية جهادهم وقطب الرحي في حياتهم والفكرة التي حولها يدندنون ومنها يقصدون وإليها يرجعون وفيها يبذلون هي: عبادة الله وحده وغرس فكرة العبودية في عقول الناس وقلوبهم وإنكار عبادة كل الأوثان

بقلم: سلطان العميري
2514
الارتباط بالله | مرابط
فكر مقالات اقتباسات وقطوف

الارتباط بالله


قد تظل الأمة سليمة من الظاهر- جيلا أو جيلين أو ثلاثة بينما التحلل الخلقي يسري في كيانها خفيا كالسوس فيتعذر على الشخص العادي أو الشخص المنجرف بطبعه وراء اللذات أن يصدق أن تحلله هو وهو فرد واحد- أو أن الجريمة العابرة التي يرتكبها خلسة في الظلام يمكن أن تؤثر في خط سير المجتمع وتؤدي إلى انهياره

بقلم: محمد قطب
2664