الخطاب النسوي وإشكالية عمل المرأة

الخطاب النسوي وإشكالية عمل المرأة | مرابط

الكاتب: عمرو عبد العزيز

695 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

قرأت مقالا لإحدى النساء، تضع فيه مقتطفات من محاضرة للدكتورة هبة رؤوف عزت، تذم فيها انشغال ‏النسوة بأعمال البيت المعقدة (صناعة المحشي في المثال)، وتحاكمهن لمجتمع (الصحابيات) الذي كان مشغولا ‏بالحياة العامة، وتضرب الأمثلة على وظائف خير النساء، ففلانة (خطيبة) وفلانة (تاجرة) وعائشة متعددة ‏الوظائف، وهكذا.‏ وقد أحببت أن أكتب ردا بالغ الإيجاز، لا تمكُّث في تحريره، ولا تأنٍ في بحثه، فليعتبره القارئ مجرد ‏اعتراض مختصر.‏

 

استدراك

وقبل الدخول إليه، أحب للقارئ أن يُدرك أمرين:‏

أولهما أن جوهر الخطاب النسوي للدكتورة هبة ليبرالي النوع، فهو معروف بطابعه التصالحي المحافظ ‏غربا قبل شرق، وعليه فهي لا (تُصادِم) النص التراثي، إنما تعيد تأويله لمزاجها النسوي، وتساعدها عوامل ‏عدة في تمرير خطابها ذلك، فهي إنسانة خلوقة مهذبة ذات خطاب جذاب لقطاع عريض من الفتيات، ولا ‏يختلف في ذلك عاقلان، كما أن النسوية الليبرالية تحديدا مُعرِقة في التيار الإسلامي، وجذورها تبدأ في ‏عصر حسن البنا رحمه الله وجماعته، وطرحها ليس أجنبيا بالكلية عن كتب الشيخ الغزالي أو منظرات ‏الإخوان السابقات عليها، وهذا أدعى لأن يُستقبل بهدوء، يساعد عليه زهدها هي نفسها في المعارك ‏والصراعات.‏

 

ثانيهما، أن عماد خطاب د. هبة منذ نشأت هو إزالة كافة (الأوهام المجتمعية) حول التقسيم الجندري ‏الطبيعي للمجتمعات الإنسانية، والذي يضطلع فيه الرجال (بالمجالات العامة)، وتوكَّل فيه النساء (بالمجال ‏الخاص)، ونادرا ما قرأت لها في غير هذه الفكرة. وهذا أس من الأسس الجامعة للنسوية بكافة أطيافها، بل ‏هو الأقدم على الإطلاق، ومن هذا الأس يأتي الأس الثاني، وهو إلغاء حتمية المجتمع الأبوي وفطرية ‏‏(البطريركية)، وأسلمة ذلك في الخطاب النسوي المتأسلم يكون بالطعن في مفهوم القوامة وتقليصه قدر الإمكان ‏‏(الليبرالية) أو حتى التخلص منه جميعا (الراديكالية). وفي المحاضرة المنقولة تدور تروس هذين الأسين ‏الفلسفيين في خلفيتها، لكن لما كان ذلك التجريد من المحالات لغير العارف بجذور النسوية وأسسها الفلسفية ‏الكبرى = كان استدعاؤه من أشق الأمور على الناقد غير الفاهم للفلسفة، ومن أصعب الأمور على التصديق ‏من المحب الرافض للتأويل والتفلسف.‏

 

مواطن الخلل

والآن لأبين أبرز مواطن خلل تلك المحاضرة، والتي تتمثل في الآتي: ‏

أولا) تعميم حالات الاستثناء باعتبارها (الأصل الرشيد) [تطويب الندرة].‏
لا تنفك تستحضر النسوية الليبرالية الإسلامية النماذج النادرة التي تعمل فيها إحدى الصحابيات، كي تجعلها ‏هي (الأصل الرشيد) للمرأة الذي يجب بعثه وتعميمه على النساء / وإذا سألت وأين باقي عشرات الألوف ‏من الصحابيات اللواتي كن (يقرن في بيوتهن) ولا يخرُجن، المسكوت عنهن، لا تجد ردا! أين السيدة فاطمة ‏وباقي بنات النبي مثلا؟ أين زوجات عمر وأبي بكر اللواتي لم يُنقَل عنهن عملا؟!‏
تستدعي النسوية الليبرالية هنا الندرة، وتعممها، وتجعلها هي الأصل الذي تُحاكم إليه النساء، ويطلب منهن ‏الاقتداء به!‏

 

ثانيا) قلب الاستثناء الحياتي وظيفةً [تضخيم الأعمال].‏
تُطلق النسوية الليبرالية زمانا هذه النُدرة، فتجعل أداء الصحابية لعمل ما، بأشراطه التي أولها بالطبع عدم ‏مخالفة الشرع، وإذن وليها، لمدة محددة زمنا = من المطلقات زمانا! فإن ذهبت صحابية للتطبيب في غزوة ‏‏= فهي طبيبة! إن وضعت صحابية مالها تتَّجر به في أيدي الرجال = فهي تاجرة! امرأة قامت تتحدث في ‏جمع = تصبح خطيبة النساء وشريكة النبي والصحابة في الحكم!‏

 

سلمنا أن عائشة رضي الله عنها فعلت كذا مثلا، أيصح أن نقول حينها: كانت (وظيفة) عائشة فعل ذلك؟ أم ‏كانت وظيفتها (زوجة) في بيت النبي؟! فعلت الصحابية الفلانية كذا، أكانت تلك (وظيفة)؟ أم كانت فعلا ‏استثنائيا، ووظيفتها الحياتية فعلا هي (زوجة وأم) تصنع المحشي وتقضي الساعات في الكنس والطبيخ؟!‏

 

ثالثا) المضاهأة بين الواقع الوظيفي المعاصر ومجتمع الصحابة [تجاهل الاختلاف المجتمعي].‏
وذاك من أشنع المخالفات التي تتجاهلها عمدا يوتوبيا النسونة الإسلامية، فالواقع الوظيفي المعاصر مزكوم ‏بالمخالفات، فالأصل فيه هو الاختلاط بمعناه المحرم، والتضاحك وإزالة الفواصل بين العاملة والزميل، أو ‏الأستاذة والتلميذ (الذي قد يصغرها بأعوام قليلة أصلا)، وتحديد ساعات عمل معينة لا يمكن التغيب عنها، ‏ومشاركة رب عملها الولاية الشرعية والقوامة مع وليها الأصلي، بما يفوقه غالبا، فيكون له أن يتحدث ‏فتضحك ويأمر فتطيع وينهى فترهب ويُعطي فتركع ويمنع فتسجد! فهذا الواقع الوظيفي المعاصر، الذي هو ‏مخالف للشرع بدءًا من فلسفته كلها، وصولا إلى جزئياته ودقائقه، كيف له أن يُضاهى بواقع عصر ‏الصحابة؟

 

والعجب أن تجد شخصا مثل د. هبة رؤوف، لها ميول يسارية نقدية واضحة، وهي فلسفات أعملت أداة ‏التأويل بلا رحمة طوال أكثر من نصف قرن لبيان (العبودية الخفية) في المجتمع الوظيفي المعاصر، وكيف ‏أن الإنسان فيه لا (يتحرر) إنما (يُقضى) على إنسانيته باسم الوظيفة / ثم تجمع مع ذلك الترغيب في ‏الانضمام لهذا المجتمع الوظيفي، ولا تُفرِّق بينه وبين معنى المجتمع الوظيفي في عصر الصحابة.‏

 

رابعا) المضاهأة بين المعنى المعاصر للوظيفة المعاصرة ومعناها في مجتمع الصحابة.‏
فتجدها تتحدث عن (تمريض) المرأة للصحابة في معركة، باعتبارها (وظيفة طبيبة)! ‏
لاحظ أننا هنا لا نتحدث عما أوردناه في النقطة الثانية، أي إطلاق الاستثناء، بل نقول سلمنا بأن هذا ليس ‏استثناءًا، فإن (معنى الوظيفة) أي توصيفها ومقتضياتها، مختلف  بين العصرين.‏
فخريجة كلية التجارة التي تعمل في البنك أو المحاسبة تسع ساعات أو حتى تدير هي بنفسها شركة تنهر ‏الموظفين وتختلط بالرجال ويشبهونها بالفراعنة = كيف توصف بالتاجرة كما كانت خديجة رضي الله عنها ‏التي كانت (تملك المال) وتولي الرجال العمل جميعه؟!‏

 

إن الصحابية التي ذهبت بضعة أيام كي تضمد الجرحى في ظرف قاهر كالحرب يحتاج للنساء بسبب ‏انشغال كافة الرجال، ليست كالأخت (الطبيبة) التي تمنع عن نفسها الزواج حتى الخامسة والعشرين كي ‏‏(تحقق ذاتها وتنجح في دراستها)! كما أنها لا تذهب من السادسة صباحا إلى الليل، أو تُستدعى فجرا كي ‏تهرول إلى عملها لطارئ!‏
إن مصطلح (طبيبة) بالمعنى المعاصر لم تكن النساء يعلمنه، وهكذا في كل المصطلحات تقريبا، وذاك مما ‏يُغفل الخوض فيه. ‏

 

خامسا) تجاهل عنصر الولاية والقوامة ودوره في تحديد ما للمرأة فعله.‏
في الإسلام للولي وحده حق تزويج المرأة مثلا، فهي دوما داخلة تحت سلطان رجل، فإن اختلعت من أبيها ‏أو زوجها لفسادهما مثلا (وهذا يكون بحكم قاضٍ)، ينتقل سلطانها إلى القاضي، حتى يصل إلى سلطان ولي ‏أمر المسلمين نفسه، فالمرأة داخلة دوما تحت ولاية رجل، ومعلوة دوما بذي سلطان يقوم عليها. وللولي حق ‏منعها من العمل أو الخروج، ولا ينازعه في ذلك أحد، إلا إذا منعها حقها الشرعي في مثل الكسوة والمطعم ‏والمقر الواجبين عليه، فهنا فقط أجاز الفقهاء لها أن تخرج وتكتسب النفقة بالعمل، ولا يعني ذلك وقف ‏ولايته، فهو يملك حق ألا تنشز عليه، ويكون خروجها دون إذنه ها هنا مستثنى من النشوز للضرورة، لا ‏تجويزا للنشوز مطلقا! فليس له أن يمنعها أن تُطعِم نفسها وأولادها إن أخل بما قدره الفقهاء، ولا تكون ناشزا ‏إن عصته في هذا، لكن له الحق أن يرفض خروجها في غير ذلك، وهكذا.‏

 

إذن المرأة ليست (طرزانا) يحدد هو أن يعمل ويخرج (ليحقق ذاته) أم لا، بل مشروط تحركها بموافقة ‏وليها، وهذا الحق هو العمل الأكبر في خطاب النسوية الليبرالية، وعملهن يدور دوما حول (ذم) فهم الفقهاء ‏الذكوريين للشرع، وتهذيبه لكي يوافق (الجتمع الأبوي)! فيظهرن لا كمهاجمات للشرع، بل (للفهم) الذكوري ‏له!‏

 

سادسا) الخطاب التحقيري للنسوة الموافقات للفطرة والملتزمات بالأدوار الاجتماعية التقليدية.‏
فتلك النسوة لما كن لا يعملن في المسميات الوظيفية المجتمعية العامة، وكن ينشغلن ببيوتهن وحدها = كن ‏أشد الناس إثارة لغضب النسويات، فمعلوم الهوس النسوي الغاضب دوما من فكرة التقسيم المجتمعي ‏للوظائف إلى عامة كالسياسة والتجارة وخاصة وهي البيت والتنشئة والتربية، يتولى أولها الرجال، وثانيها ‏النساء. لا توجد نسوية على وجه الأرض لا تحمل هذه العقدة ولا تدعو إلى كسرها بخطاب يُحقِّر من شأن ‏اللواتي يقرن في بيوتهن ويجعلن عملهن هو ما فطرهن الله عليه. ويتجلى ذلك في وصف النسوة الغارقات ‏في أعمال بيوتهن كوصفات الطعام المعقدة بأنه (من السفه، الذي سبب انتكاس المرأة ثقافيا وفكريا).‏

 

أخيرا،
ذاك غيض من فيض مما في نسوية د. هبة رؤوف الليبرالية من خلل في محاضرة واحدة فقط، وأعتذر عن ‏الاختصار الشديد، وعدم الإحاطة بكافة مواطن الخلل، لكن أحسب أن ذلك المقال على سرعته كافٍ كي ‏ينتبه القارئ فيما يسمعه من الدكتورة. ذاك أن بسبب عدم فقه أغلب الناس لأصناف النسوية، يحسبون أن ‏الدكتورة في ردها على النسوية = غير نسوية هي ذاتها! والحق أنها ترد كنسوية ليبرالية، على النسوية ‏الراديكالية المتطرفة، وتسميها (النسوية) دون توصيف، فلا ينتبه أحد لذلك، بل يردون مستنكرين: كيف ‏تقولون نسوية وهي ترد على النسوية؟! ولا يعلم أولئك أن بين أصناف النسويات ما صنع الحداد من الردود ‏والمعارك، ومن أبرزها بالطبع معركة الليبرالية (الإصلاحية، التصالحية) - الراديكالية (الثورية، ‏الصراعية)!‏
والله الهادي القاصم والولي الناصر.‏

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#النسوية #عمل-المرأة
اقرأ أيضا
تصنيف الرجولة | مرابط
مقالات

تصنيف الرجولة


الرجولة عندهم أن تكون قوامتك شراكة وليست قيادة لأن القيادة معناها سائق وركاب رئيس ومرؤوس قائد وأتباع وهذا كله بالنسبة لهذا النوع من النساء ليس من الرجولة الحقيقية بل هي ذكورية متسلطة تريد أن تستولي على الدركسيون بمفردها وعدم اعتبار الشراكة بحال!

بقلم: محمد سعد الأزهري
205
شبهة: إذا كان إبليس من الملائكة فكيف عصى الله | مرابط
أباطيل وشبهات

شبهة: إذا كان إبليس من الملائكة فكيف عصى الله


تقول الشبهة: يؤكد القرآن أنه لا يمكن للملائكة أن تعصى الله 66: 6 ومع ذلك فقد عصى إبليس الذي كان من الملائكة كما في الآية 2: 34 فأيهما صحيح وفي المقال الذي بين يدينا يقف بنا الكاتب محمد عمارة على تفاصيل وجوانب هذه الشبهة ويوضح الأخطاء الموجودة فيها ويرد عليها

بقلم: محمد عمارة
2103
الصحبة قسمان | مرابط
اقتباسات وقطوف

الصحبة قسمان


مقتطف للعلامة ابن القيم من كتاب الفوائد يتحدث فيه عن الاجتماع بالإخوان وكيف أنه ينقسم إلى نوعين نوع فيه مضرة ونوع فيه منفعة والمتأمل لهذا الاقتباس يدرك مدى حرص علماء المسلمين وسلفنا الصالح على الوقت وعلى كل لحظة من لحظات الطاعة ومدى تجنبهم لصغائر الأمور قبل كبائرها

بقلم: ابن القيم
2110
معركة النسيان والتذكر | مرابط
مقالات

معركة النسيان والتذكر


وداء النسيان هذا هو الذي قد يجعل الإنسان إذا نزل به البلاء انهمك في أسباب الدنيا وغفل عن الفرار إلى الله سبحانه وشكاية البث والحزن إليه! ومن ذلك أننا نؤمن بالجنة والنار لكن من آمن بذلك حق الإيمان كأنه رأي عين لم يعص الله سبحانه لكننا نعصي وذلك لأننا ننسى كما اشتكى حنظلة للنبي صلى الله عليه وسلم: عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيرا

بقلم: كريم حلمي
289
أفنيت عمري في علم الكلام | مرابط
اقتباسات وقطوف

أفنيت عمري في علم الكلام


يشتمل القرآن على مختلف أنواع الأدلة التي قد يصبو إليها الإنسان وكذب من قال أنه خلو من الأدلة العقلية فراح يسعى ويلهث وراءها في ظلمات الفلسفة ومتاهات الكلام ففي كتاب الله الدواء الشافي والدليل الكافي وهذا مقتطف عن أحد المتكلمين ينقله ابن القيم رحمه الله

بقلم: ابن القيم
1885
المهرجانات والراب | مرابط
فكر

المهرجانات والراب


من النتائج المخيفة التي يسببها التساهل في سماع هذه الأغاني وتعود الشباب عليها.. أنها تزكي صراعاتهم النفسية وتؤجج احتقانهم الداخلي واضطراباتهم الاجتماعية وتوغر صدورهم وتشعل غضبهم تجاه الآخرين كل الآخرين مهما كانت قرابتهم وتقوي الإحساس بشجاعة متوهمة وقدرة لا محدودة على التمتع..! فيصبحون تربة خصبة لبذور التفكك الاجتماعي والتمرد على الأسرة والثورة على القيم والتمرد على أحكام الدين وربما المروق منه جملة..

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
246