الخطاب النسوي وإشكالية عمل المرأة

الخطاب النسوي وإشكالية عمل المرأة | مرابط

الكاتب: عمرو عبد العزيز

844 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

قرأت مقالا لإحدى النساء، تضع فيه مقتطفات من محاضرة للدكتورة هبة رؤوف عزت، تذم فيها انشغال ‏النسوة بأعمال البيت المعقدة (صناعة المحشي في المثال)، وتحاكمهن لمجتمع (الصحابيات) الذي كان مشغولا ‏بالحياة العامة، وتضرب الأمثلة على وظائف خير النساء، ففلانة (خطيبة) وفلانة (تاجرة) وعائشة متعددة ‏الوظائف، وهكذا.‏ وقد أحببت أن أكتب ردا بالغ الإيجاز، لا تمكُّث في تحريره، ولا تأنٍ في بحثه، فليعتبره القارئ مجرد ‏اعتراض مختصر.‏

 

استدراك

وقبل الدخول إليه، أحب للقارئ أن يُدرك أمرين:‏

أولهما أن جوهر الخطاب النسوي للدكتورة هبة ليبرالي النوع، فهو معروف بطابعه التصالحي المحافظ ‏غربا قبل شرق، وعليه فهي لا (تُصادِم) النص التراثي، إنما تعيد تأويله لمزاجها النسوي، وتساعدها عوامل ‏عدة في تمرير خطابها ذلك، فهي إنسانة خلوقة مهذبة ذات خطاب جذاب لقطاع عريض من الفتيات، ولا ‏يختلف في ذلك عاقلان، كما أن النسوية الليبرالية تحديدا مُعرِقة في التيار الإسلامي، وجذورها تبدأ في ‏عصر حسن البنا رحمه الله وجماعته، وطرحها ليس أجنبيا بالكلية عن كتب الشيخ الغزالي أو منظرات ‏الإخوان السابقات عليها، وهذا أدعى لأن يُستقبل بهدوء، يساعد عليه زهدها هي نفسها في المعارك ‏والصراعات.‏

 

ثانيهما، أن عماد خطاب د. هبة منذ نشأت هو إزالة كافة (الأوهام المجتمعية) حول التقسيم الجندري ‏الطبيعي للمجتمعات الإنسانية، والذي يضطلع فيه الرجال (بالمجالات العامة)، وتوكَّل فيه النساء (بالمجال ‏الخاص)، ونادرا ما قرأت لها في غير هذه الفكرة. وهذا أس من الأسس الجامعة للنسوية بكافة أطيافها، بل ‏هو الأقدم على الإطلاق، ومن هذا الأس يأتي الأس الثاني، وهو إلغاء حتمية المجتمع الأبوي وفطرية ‏‏(البطريركية)، وأسلمة ذلك في الخطاب النسوي المتأسلم يكون بالطعن في مفهوم القوامة وتقليصه قدر الإمكان ‏‏(الليبرالية) أو حتى التخلص منه جميعا (الراديكالية). وفي المحاضرة المنقولة تدور تروس هذين الأسين ‏الفلسفيين في خلفيتها، لكن لما كان ذلك التجريد من المحالات لغير العارف بجذور النسوية وأسسها الفلسفية ‏الكبرى = كان استدعاؤه من أشق الأمور على الناقد غير الفاهم للفلسفة، ومن أصعب الأمور على التصديق ‏من المحب الرافض للتأويل والتفلسف.‏

 

مواطن الخلل

والآن لأبين أبرز مواطن خلل تلك المحاضرة، والتي تتمثل في الآتي: ‏

أولا) تعميم حالات الاستثناء باعتبارها (الأصل الرشيد) [تطويب الندرة].‏
لا تنفك تستحضر النسوية الليبرالية الإسلامية النماذج النادرة التي تعمل فيها إحدى الصحابيات، كي تجعلها ‏هي (الأصل الرشيد) للمرأة الذي يجب بعثه وتعميمه على النساء / وإذا سألت وأين باقي عشرات الألوف ‏من الصحابيات اللواتي كن (يقرن في بيوتهن) ولا يخرُجن، المسكوت عنهن، لا تجد ردا! أين السيدة فاطمة ‏وباقي بنات النبي مثلا؟ أين زوجات عمر وأبي بكر اللواتي لم يُنقَل عنهن عملا؟!‏
تستدعي النسوية الليبرالية هنا الندرة، وتعممها، وتجعلها هي الأصل الذي تُحاكم إليه النساء، ويطلب منهن ‏الاقتداء به!‏

 

ثانيا) قلب الاستثناء الحياتي وظيفةً [تضخيم الأعمال].‏
تُطلق النسوية الليبرالية زمانا هذه النُدرة، فتجعل أداء الصحابية لعمل ما، بأشراطه التي أولها بالطبع عدم ‏مخالفة الشرع، وإذن وليها، لمدة محددة زمنا = من المطلقات زمانا! فإن ذهبت صحابية للتطبيب في غزوة ‏‏= فهي طبيبة! إن وضعت صحابية مالها تتَّجر به في أيدي الرجال = فهي تاجرة! امرأة قامت تتحدث في ‏جمع = تصبح خطيبة النساء وشريكة النبي والصحابة في الحكم!‏

 

سلمنا أن عائشة رضي الله عنها فعلت كذا مثلا، أيصح أن نقول حينها: كانت (وظيفة) عائشة فعل ذلك؟ أم ‏كانت وظيفتها (زوجة) في بيت النبي؟! فعلت الصحابية الفلانية كذا، أكانت تلك (وظيفة)؟ أم كانت فعلا ‏استثنائيا، ووظيفتها الحياتية فعلا هي (زوجة وأم) تصنع المحشي وتقضي الساعات في الكنس والطبيخ؟!‏

 

ثالثا) المضاهأة بين الواقع الوظيفي المعاصر ومجتمع الصحابة [تجاهل الاختلاف المجتمعي].‏
وذاك من أشنع المخالفات التي تتجاهلها عمدا يوتوبيا النسونة الإسلامية، فالواقع الوظيفي المعاصر مزكوم ‏بالمخالفات، فالأصل فيه هو الاختلاط بمعناه المحرم، والتضاحك وإزالة الفواصل بين العاملة والزميل، أو ‏الأستاذة والتلميذ (الذي قد يصغرها بأعوام قليلة أصلا)، وتحديد ساعات عمل معينة لا يمكن التغيب عنها، ‏ومشاركة رب عملها الولاية الشرعية والقوامة مع وليها الأصلي، بما يفوقه غالبا، فيكون له أن يتحدث ‏فتضحك ويأمر فتطيع وينهى فترهب ويُعطي فتركع ويمنع فتسجد! فهذا الواقع الوظيفي المعاصر، الذي هو ‏مخالف للشرع بدءًا من فلسفته كلها، وصولا إلى جزئياته ودقائقه، كيف له أن يُضاهى بواقع عصر ‏الصحابة؟

 

والعجب أن تجد شخصا مثل د. هبة رؤوف، لها ميول يسارية نقدية واضحة، وهي فلسفات أعملت أداة ‏التأويل بلا رحمة طوال أكثر من نصف قرن لبيان (العبودية الخفية) في المجتمع الوظيفي المعاصر، وكيف ‏أن الإنسان فيه لا (يتحرر) إنما (يُقضى) على إنسانيته باسم الوظيفة / ثم تجمع مع ذلك الترغيب في ‏الانضمام لهذا المجتمع الوظيفي، ولا تُفرِّق بينه وبين معنى المجتمع الوظيفي في عصر الصحابة.‏

 

رابعا) المضاهأة بين المعنى المعاصر للوظيفة المعاصرة ومعناها في مجتمع الصحابة.‏
فتجدها تتحدث عن (تمريض) المرأة للصحابة في معركة، باعتبارها (وظيفة طبيبة)! ‏
لاحظ أننا هنا لا نتحدث عما أوردناه في النقطة الثانية، أي إطلاق الاستثناء، بل نقول سلمنا بأن هذا ليس ‏استثناءًا، فإن (معنى الوظيفة) أي توصيفها ومقتضياتها، مختلف  بين العصرين.‏
فخريجة كلية التجارة التي تعمل في البنك أو المحاسبة تسع ساعات أو حتى تدير هي بنفسها شركة تنهر ‏الموظفين وتختلط بالرجال ويشبهونها بالفراعنة = كيف توصف بالتاجرة كما كانت خديجة رضي الله عنها ‏التي كانت (تملك المال) وتولي الرجال العمل جميعه؟!‏

 

إن الصحابية التي ذهبت بضعة أيام كي تضمد الجرحى في ظرف قاهر كالحرب يحتاج للنساء بسبب ‏انشغال كافة الرجال، ليست كالأخت (الطبيبة) التي تمنع عن نفسها الزواج حتى الخامسة والعشرين كي ‏‏(تحقق ذاتها وتنجح في دراستها)! كما أنها لا تذهب من السادسة صباحا إلى الليل، أو تُستدعى فجرا كي ‏تهرول إلى عملها لطارئ!‏
إن مصطلح (طبيبة) بالمعنى المعاصر لم تكن النساء يعلمنه، وهكذا في كل المصطلحات تقريبا، وذاك مما ‏يُغفل الخوض فيه. ‏

 

خامسا) تجاهل عنصر الولاية والقوامة ودوره في تحديد ما للمرأة فعله.‏
في الإسلام للولي وحده حق تزويج المرأة مثلا، فهي دوما داخلة تحت سلطان رجل، فإن اختلعت من أبيها ‏أو زوجها لفسادهما مثلا (وهذا يكون بحكم قاضٍ)، ينتقل سلطانها إلى القاضي، حتى يصل إلى سلطان ولي ‏أمر المسلمين نفسه، فالمرأة داخلة دوما تحت ولاية رجل، ومعلوة دوما بذي سلطان يقوم عليها. وللولي حق ‏منعها من العمل أو الخروج، ولا ينازعه في ذلك أحد، إلا إذا منعها حقها الشرعي في مثل الكسوة والمطعم ‏والمقر الواجبين عليه، فهنا فقط أجاز الفقهاء لها أن تخرج وتكتسب النفقة بالعمل، ولا يعني ذلك وقف ‏ولايته، فهو يملك حق ألا تنشز عليه، ويكون خروجها دون إذنه ها هنا مستثنى من النشوز للضرورة، لا ‏تجويزا للنشوز مطلقا! فليس له أن يمنعها أن تُطعِم نفسها وأولادها إن أخل بما قدره الفقهاء، ولا تكون ناشزا ‏إن عصته في هذا، لكن له الحق أن يرفض خروجها في غير ذلك، وهكذا.‏

 

إذن المرأة ليست (طرزانا) يحدد هو أن يعمل ويخرج (ليحقق ذاته) أم لا، بل مشروط تحركها بموافقة ‏وليها، وهذا الحق هو العمل الأكبر في خطاب النسوية الليبرالية، وعملهن يدور دوما حول (ذم) فهم الفقهاء ‏الذكوريين للشرع، وتهذيبه لكي يوافق (الجتمع الأبوي)! فيظهرن لا كمهاجمات للشرع، بل (للفهم) الذكوري ‏له!‏

 

سادسا) الخطاب التحقيري للنسوة الموافقات للفطرة والملتزمات بالأدوار الاجتماعية التقليدية.‏
فتلك النسوة لما كن لا يعملن في المسميات الوظيفية المجتمعية العامة، وكن ينشغلن ببيوتهن وحدها = كن ‏أشد الناس إثارة لغضب النسويات، فمعلوم الهوس النسوي الغاضب دوما من فكرة التقسيم المجتمعي ‏للوظائف إلى عامة كالسياسة والتجارة وخاصة وهي البيت والتنشئة والتربية، يتولى أولها الرجال، وثانيها ‏النساء. لا توجد نسوية على وجه الأرض لا تحمل هذه العقدة ولا تدعو إلى كسرها بخطاب يُحقِّر من شأن ‏اللواتي يقرن في بيوتهن ويجعلن عملهن هو ما فطرهن الله عليه. ويتجلى ذلك في وصف النسوة الغارقات ‏في أعمال بيوتهن كوصفات الطعام المعقدة بأنه (من السفه، الذي سبب انتكاس المرأة ثقافيا وفكريا).‏

 

أخيرا،
ذاك غيض من فيض مما في نسوية د. هبة رؤوف الليبرالية من خلل في محاضرة واحدة فقط، وأعتذر عن ‏الاختصار الشديد، وعدم الإحاطة بكافة مواطن الخلل، لكن أحسب أن ذلك المقال على سرعته كافٍ كي ‏ينتبه القارئ فيما يسمعه من الدكتورة. ذاك أن بسبب عدم فقه أغلب الناس لأصناف النسوية، يحسبون أن ‏الدكتورة في ردها على النسوية = غير نسوية هي ذاتها! والحق أنها ترد كنسوية ليبرالية، على النسوية ‏الراديكالية المتطرفة، وتسميها (النسوية) دون توصيف، فلا ينتبه أحد لذلك، بل يردون مستنكرين: كيف ‏تقولون نسوية وهي ترد على النسوية؟! ولا يعلم أولئك أن بين أصناف النسويات ما صنع الحداد من الردود ‏والمعارك، ومن أبرزها بالطبع معركة الليبرالية (الإصلاحية، التصالحية) - الراديكالية (الثورية، ‏الصراعية)!‏
والله الهادي القاصم والولي الناصر.‏

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#النسوية #عمل-المرأة
اقرأ أيضا
من أدلة وجود الله: دليل الآفاق | مرابط
تعزيز اليقين

من أدلة وجود الله: دليل الآفاق


قال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فصلت:53. فقوله: سنريهم آياتنا في الآفاق أي: علامات وحدانيتنا وقدرتنا وقوله في الآفاق يعني أقطار السماوات والأرض: من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات وغير ذلك مما فيها من عجائب خلق الله.. وهذا المقال يناقش دليل الآفاق المثبت لوجود الله عز وجل.

بقلم: علي محمد الصلابي
422
الإسلام الصحيح لا يخالف العقل أم العقل الصحيح لا يخالف الإسلام | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين فكر

الإسلام الصحيح لا يخالف العقل أم العقل الصحيح لا يخالف الإسلام


إن إشكالية العقل والنقل قديمة جدا وتكلم فيها العلماء وقتلوها بحثا وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية ولكن في وقتنا المعاصر بدأ البعض بالتلاعب في هذه المنطقة فيقول لك: إن الإسلام الصحيح لا يخالف العقل والعبارة تشعر للوهلة الأولى أنها صحيحة ولا مشكلة فيها ولكن الحقيقة أنها تحوي سما داخلها ستعرفه في هذا المقال

بقلم: د فهد بن صالح العجلان
2463
عظمة الإرث في الإسلام والرد على المشككين ج2 | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين

عظمة الإرث في الإسلام والرد على المشككين ج2


فقبل أن نتكلم عن هجمة الغرب على أحكام الإرث في الإسلام لا بد أن نعرف تاريخ المرأة مع الإرث في المجتمعات والأديان الأخرى فقد كانت حالتها حالة مؤلمة كانت المرأة لا ترث في اليهودية عند وجود إخوة لها من الذكور وعند الصينيين واليابانيين لا ترث شيئا فيما مضى وعند النصارى لا يحق لها أن تملك المال بصفة مستقلة وكانت بعض القوانين الأوروبية إلى وقت قريب لا تورث المرأة وهذه المحاضرة فيها استعراض لعظمة الإرث في الإسلام واستعراض سريع لأبرز الشبهات المثارة حول ذلك

بقلم: فهد بن سعد أبا حسين
476
الوحشة العظيمة في قلب العاصي | مرابط
اقتباسات وقطوف

الوحشة العظيمة في قلب العاصي


والطاعة توجب القرب من الرب سبحانه فكلما اشتد القرب قوي الأنس والمعصية توجب البعد من الرب وكلما ازداد البعد قويت الوحشة ولهذا يجد العبد وحشة بينه وبين عدوه للبعد الذي بينهما وإن كان ملابسا له قريبا منه

بقلم: ابن القيم
360
كشمير القضية المنسية | مرابط
توثيقات

كشمير القضية المنسية


في عام 1947م قررت بريطانيا انسحابها من القارة الهندية بعد تقسيمها إلى دولتين هما الهند وباكستان وتركت بعض الولايات منها كشمير لكي تنضم إلى أي دولة وفقا لرغبة جماهيرها وشعوبها وكانت كشمير ذات أغلبية إسلامية غير أن حاكمها هندوسي فنشأت القضية منذ ذلك الوقت حيث دخلت القوات الهندية واحتلت ثلث الأراضي الكشميرية ثم قامت بممارسة العنف والاضطهاد لمنع الشعب المسلم من المطالبة بتقرير مصيره وقد نشبت بين الهند وباكستان لأجل هذه القضية ثلاثة حروب كانت نتيجتها انفصال بنجلادش عن باكستان وإصدار مجلس الأمن ا...

بقلم: أحمد بن حسين الفقيهي
830
حب العربية | مرابط
لسانيات اقتباسات وقطوف

حب العربية


من أحب الله -تعالى- أحب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ومن أحب الرسول العربي أحب العرب ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته إليها

بقلم: الثعالبي
443