قواعد جليلة لأهل السنة والجماعة في بيان حقيقة التوحيد ج2

قواعد جليلة لأهل السنة والجماعة في بيان حقيقة التوحيد ج2 | مرابط

الكاتب: ابن القيم

1451 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

والكفر كفران، والظلم ظلمان، والفسق فسقان، وكذا الجهل جهلان: جهل كفر كما في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وجهل غير كفر كقوله تعالى: (إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ)

وكذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأصغر، وهو شرك العمل كالرياء, قال تعالى في الشرك الأكبر:
(إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) وقال: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)، وفى شرك الرياء: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).

ومن هذا الشرك الأصغر قوله صلى الله عليه وسلم "من حلف بغير الله فقد أشرك" رواه أبو داود وغيره ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار, ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم " الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل "فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل إلى ما هو كفر ينقل عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها.

وكذا النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد: هو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار, ونفاق عمل كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان). وفي الصحيح أيضًا (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان) فهذا نفاق عمل، قد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهي المؤمن عن هذه الخلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقًا خالصًا.

وكلام الإمام أحمد يدل على هذا، فإن إسماعيل بن سعيد الشالنجي قال: سألت أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم، هل يكون مصرًا من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر مثل قوله (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام، ونحو قوله (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن). ونحو قول ابن عباس في قوله: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) قال إسماعيل: فقلت له ما هذا الكفر؟ قال: لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه.

وهاهنا أصل آخر: وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان, وهذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة، والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة، قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) فأثبت لهم إيمانًا به سبحانه مع الشرك، وقال تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فأثبت لهم إسلامًا وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه: (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (وهؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين، بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله، وليسوا مؤمنين, وإن كان معهم جزء من الإيمان أخرجهم من الكفار.

قال الإمام أحمد: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن – يريد الزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاب – فهو مسلم ولا أسميه مؤمنًا، ومن أتى دون ذلك – يريد دون الكبائر – سميته مؤمنًا ناقص الإيمان، فقد دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم (فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق). فدل على أنه يجتمع في الرجل نفاق وإسلام، كذلك الرياء شرك، فإذا رآى الرجل في شيء من عمله اجتمع فيه الشرك والإسلام، وإذا حكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرًا، وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام، وقد بينا أن المعاصي كلها شعب من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها شعب من شعب الإيمان، فالعبد تقوم به شعبة أو أكثر من شعب الإيمان، وقد يسمى بتلك الشعبة مؤمنًا، وقد لا يسمى, كما أنه قد يسمى بشعبة من شعب الكفر كافرًا، وقد لا يطلق عليه هذا الإسلام.

فها هنا أمران: أمر اسمي لفظي، وأمر معنوي حكمي.
فالمعنوي: هل هذه الخصلة كفر أم لا؟
واللفظي: هل يسمى من قامت به كافرًا أم لا؟
فالأمر الأول: شرعي محض، والثاني لغوي وشرعي.

وها هنا أصل آخر: وهو أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمي مؤمنًا وإن كان ما قام به إيمانًا، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر به أن يسمى كافرًا،،إن كان ما قام به كفرًا, كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالمًا: ولا من معرفة بعض مسائل الفقه والطب أن يسمى فقيهًا ولا طبيبًا، ولا يمنع ذلك أن تسمى شعبة الإيمان إيمانًا، وشعبة النفاق نفاقًا، وشعبة الكفر كفرًا، وقد يطلق عليه الفعل كقوله (فمن تركها فقد كفر) و (من حلف بغير الله فقد كفر) وقوله (من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر ومن حلف بغير الله فقد كفر) رواه الحاكم في صحيحه بهذا اللفظ. فمن صدر منه خلة من خلال الكفر فلا يستحق اسم كافر على الإطلاق، وكذا يقال لمن ارتكب محرمًا أنه فعل فسوقًا وأنه فسق بذلك المحرم، ولا يلزمه اسم فاسق إلا لغلبة ذلك عليه.

 


 

المصدر:

ابن القيم، كتاب الصلاة، ص25-31.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#ابن-القيم #التوحيد #الشرك
اقرأ أيضا
نهي كراهة أم تحريم؟ | مرابط
تفريغات مقالات

نهي كراهة أم تحريم؟


لا ينبغي لك أبدا إذا سمعت النهي في كتاب الله أو في سنة الرسول.. لا ينبغي أبدا أن تقول النهي للكراهة أو للتحريم؟ بل تقول سمعنا وأطعنا.. هل الصحابة رضي الله عنهم إذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قالوا يا رسول الله النهي للتحريم أو للكراهة؟أبدا لا يقولون هذا.

بقلم: ابن عثيمين
348
لن تسرقوا منا رمضان | مرابط
فكر مقالات

لن تسرقوا منا رمضان


لماذا لم نتفكر بجدية في سر هذا السعار الفني والإعلامي في رمضان؟! لماذا يغرسون تلك المفاهيم الخفية التي تغير من طبيعة رمضان في الوجدان المسلم؟! لماذا يتحول رمضان إلى شهر مسلسلات وبرامج مسابقات وتفاهات وفوازير وسهرات؟! ما علاقة رمضان بالدورات الرياضية أو بالخيام الترفيهية؟!

بقلم: محمد علي يوسف
335
الليبرالية الاستئصالية الجزء الثاني | مرابط
فكر الليبرالية

الليبرالية الاستئصالية الجزء الثاني


مقال تفصيلي يسير بشكل موجز بين أروقة التاريخ ليحدثنا عن الليبرالية الاستئصالية التي ترفع شعار الحرية والمساواة ولكنها على أرض الواقع أبعد ما يكون عن شعاراتها ومبادئها هنا سترى الليبرالية منذ بداياتها مراحل الضعف والانهزام أمام الاشتراكية ثم انهيار الأخيرة وصعود موجات الليبرالية وبداية حقبة جديدة تمتد موجاتها إلى عالمنا الإسلامي

بقلم: إبراهيم بن محمد الحقيل
2288
نماذج التسليم للأمر الشرعي | مرابط
تعزيز اليقين

نماذج التسليم للأمر الشرعي


التسليم للأمر الشرعي من أعلى مقامات العبودية فلا يستقيم إسلام المسلم إلا على جسر الاستسلام لله والتسليم لأمره ولا يتوقف ذلك على معرفة الحكمة من الأمر والنهي ونذكر هنا مجموعة من النماذج والمشاهدات والأحداث التي ظهر فيها مقام التسليم بصورة ناصعة تشف عما يعتمل في قلوب الرعيل الأول من الإيمان واليقين والإذعان لرب العالمين

بقلم: محمود خطاب
2826
خرافة تحديد النسل | مرابط
فكر مقالات

خرافة تحديد النسل


الفقر الواقع أو المتوقع لا يعود إذن إلى علل طبيعية بل إلى سوء تصرف واضطراب إدارة أو كما يقول الاقتصادى الأمريكى المشهور بول باران : إننا يجب أن ندق ناقوس الخطر لا لأن القوانين الأبدية فى الطبيعة قد جعلت من المستحيل إطعام سكان الأرض بل لأن النظام الاقتصادى الاستعمارى يحكم على جموع كثيفة من الناس لم يسمع بضخامتها من قبل أن تعيش فى كنف الفاقة والتدهور والموت قبل الأوان

بقلم: محمد الغزالي
769
اتباع رخص المذاهب | مرابط
اقتباسات وقطوف

اتباع رخص المذاهب


مقتطف من كتاب الموافقات للإمام الشاطبي يعلق فيه على ما يفضي إليه تتبع رخص المذاهب وجمعها من فساد الدين والانسلاخ عن اتباع الأمر المنزل الثابت في الوحي بل وترك اتباع الدليل كلية والاكتفاء بالرخص والاستهانة في النهاية بأمر الدين كله

بقلم: الإمام الشاطبي
1928