نماذج التسليم للأمر الشرعي

نماذج التسليم للأمر الشرعي | مرابط

الكاتب: محمود خطاب

2041 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

التسليم للأمر الشرعي من أعلى مقامات العبودية، فلا يستقيم إسلام المسلم إلا على جسر الاستسلام لله والتسليم لأمره، كما يقول شيخ الإسلام "والإسلام: هو الاستسلام لله وحده وهو أصل عبادته وحده وذلك يجمع معرفته ومحبته والخضوع له"(1)، ولا يتوقف ذلك على معرفة الحكمة من الأمر والنهي. والحقيقة أن السيرة النبوية مليئة بالصور والمشاهدات والأحداث التي ظهر فيها مقام التسليم بصورة ناصعة تشف عمّا يعتمل في قلوب الرعيل الأول من الإيمان واليقين والإذعان لرب العالمين، وكذلك نصوص الوحي فيها الأمر بالتسليم لحكم الله والوعيد لمن خالف ذلك، وأيضًا كلام العلماء..

يقول ابن القيم: فرأس الأدب معه: كمال التسليم له، والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولًا، أو يحمله شبهة أو شكًا، أو يقدم عليه آراء الرجال، زبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقيا والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل(2)

ويقول أيضًا: إن مبنى العبودية والإيمان بالله، وكتبه، ورسله على التسليم، وعدم الخوض في تفاصيل الحكمة في الأوامر، والنواهي، والشرائع، ولهذا لم يحكِ اللهُ -سبحانه- عن أمة نبي صَدَّقت نبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت، وسَلَّمت، وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها، وإيمانها، واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها(3)

للاستزادة في موضوع الحكمة والعلة: اقرأ هذا المقال

والآن نعرض بعض المواقف والنماذج العملية للتسليم..

"لئن كان قال ذلك لقد صدق"

بهذه العبارة البسيطة الوجيزة ارتقى سيدنا أبو بكر إلى أعلى مقامات العبودية، ووصل إلى ذروة التسليم للوحي.. كان ذلك في حادثة الإسراء والمعراج التي نزلت على الناس كالصاعقة! فأصبحوا بين متعجب ومستهزئ ومكذب ومرتد بعد إيمان، إنه لأمر جلل، يظهر ذلك في رواية الإمام أحمد التي توثق لنا هول الموقف: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لمَّا كان ليلةَ أُسْرِيَ بي وأصبحتُ بمكة فظعتُ بأمري، وعرفتُ أنَّ الناسَ مُكذِّبيَّ، فقعدت معتزلا حزينًا..). وتستمر الرواية في رصد مواقف الناس وكيفية تلقيهم للخبر.. إنه لأمر عظيم! لقد أهمّ الرسول صلى الله عليه وسلم، كأنه علم كيف سيتلقى الناس هذا الأمر.

ثم.. بين كل هذا الزحام، كان أبو بكر الصديق.. لما ذهب الناس يحدثون أبا بكر بحادثة الإسراء = فيجهر بعبارته البرّاقة "لئن كان قال ذلك، لقد صدق"! إنها قاعدة تأسس عليها إيمان أبي بكر الصديق؛ لو كان النبي قال كذا = فقد صدق إذن! أيًّا كان الذي قاله النبي! إنه صادق في كل ما يقول.. إنها قاعدة التسليم! لمثل هذا كان أبو بكر هو الصديق، فالتسليم هو محض الصديقية كما يقول ابن القيم، رحمه الله. لقد آمن أبو بكر بالله، وآمن أنه أرسل رسولنا الذي يتصف بالصدق والعصمة، وآمن أن هناك وحي يربط النبي بالسماء، إذن فقد آمن بصدق النبوة، وآمن بالله الخالق الذي هو على كل شيء قدير، فلو أراد -سبحانه- أن يسري بعبده ليلًا ثم يصبح في مكة = كان ذلك على الله يسيرًا.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى؛ أصبح يتحدث الناس بذلك؛ فارتدَّ ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنَّه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم، إني لأصدقه ما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة.(4)

"لو كان الدين بالرأي"

يقول علي بن أبي طالب “لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه”

وجاء في شرح سنن أبي داود للعباد: وهذا الأثر العظيم الذي يدل على الاتباع، وعلى أن الإنسان يتبع السنة ولا يحكم عقله، ولا يجعل لعقله مجالًا في الاعتراض على الأحكام الشرعية، بل الواجب هو اتهام العقول، والموافقة للنقول، لا أن يحكم العقل ويتهم النقل.. فالإنسان عليه أن يتبع الدليل ولا يعول على العقل ويتهم النقل؛ لأن العقول متفاوتة وليست على حد سواء، وعقل هذا يخالف ما في عقل هذا، ورأي هذا يخالف رأي هذا، بل إن الإنسان يكون بين وقت وآخر يختلف رأيه، فقد يرى رأيًا يعجبه، ثم يرى بعد ذلك أن هذا الرأي الذي أعجبه يتعجب من نفسه كيف رآه فيما مضى! وذلك أنه تبين له أن غيره أولى منه.(5)

"يا أبت افعل ما تؤمر"

وكذلك ابتلاء سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي تجسد فيه معنى التسليم لله رب العالمين، وقدم فيه سيدنا إبراهيم، عليه السلام، مثالًا مشرقًا للعبودية، قال تعالى “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ”

"يا لله! ويا لروعة الإيمان والطاعة والتسليم.. هذا إبراهيم الشيخ، المقطوع من الأهل والقرابة، المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام، طالما تطلع إليه، فلما جاءه جاء غلاما ممتازا يشهد له ربه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية، فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم..، إنها إشارة من ربه، وهذا يكفي، هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه، لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!

ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب، كلا إنما هو القبول والرضا والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى..، والأمر شاق،ما في ذلك شك، والأمر في حسه هكذا: ربه يريد، فليكن ما يريد، على العين والرأس، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاما، لا قهرا واضطرارا، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها; وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى..

فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقا لرؤيا رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه: قال: يا أبت افعل ما تؤمر. ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين .. إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضا كذلك وفي يقين"(6)

"إذن لا يضيعنا"

وهنا مثال آخر للتسليم.. إلا أنه شاقّ يحتاج إلى قدر عال من الإيمان واليقين برب العالمين، إنه الاستسلام لأمر الله حتى لو كان الواقع يشهد بشيء، علينا أن نوقن بما يأمرنا به ربنا.. ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس، قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل؛ اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال: رب {إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} حتى بلغ: {يشكرون} [إبراهيم: 37]

تأمل هذا الحادث الجلل.. امرأة مع رضيعها في واد مقفر، واد غير ذي زرغ.. لا زرع فيه ولا طعام ولا شراب ولا إنس.. من مِنا يقدر على هذه الظروف؟ من منا بلغ درجة اليقين التي تتجلى في هذا السؤال: آلله أمرك بهذا؟ .. إذن لا يضيعنا! .. إنه الله، طالما أنه أمر بشيء، علينا التسليم، علينا أن نظهر العبودية التي يحبها ويرضاها.. حتى لو كان الواقع يشهد بأن الأمر جد بعيد، ولكن الله على كل شيء قدير.

"فاستمسك بغرزه"

ثم.. مع موقف آخر لأبي بكر الصديق، في صلح الحديبية، وهو حدث عصيب مرّ به الصحابة وأظهروا قمة العبودية في التسليم لأمر الرسول، رغم أن منهم من كان يرى خلاف ذلك، لكن في النهاية عبروا جميعًا على جسر التسليم.. وحصدوا في النهاية ثمار هذا التسليم.

كانت المحنة الحقيقية بعد بداية المفاوضات مع المشركين، حيث كانت شروط الصلح فيها إجحاف واضح بالمسلمين، وبدأت الإشكالية الكبرى عندما اشترط سهيل بن عمرو -ممثل المشركين في المفاوضات- ألا يقبل المسلمون أي أحد يأتيهم من صفوف المشركين مسلمًا، يعني أن يغلق المسلمون أبوابهم أمام المسلمين الجدد.. قال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا..، فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي.

ومن هنا رأى بعض الصحابة أن ينقذوا هذا الرجل المقيد بالسلاسل، وسيطرت عليهم مشاعر الأخوة، وأرادوا استنقاذ أخيهم الذي ذاق العذاب على أيدي المشركين، ولكن يصر سهيل بن عمرو ألا يستثني أبا جندل، ومن هنا ظهر السؤال الحائر: لم نعط الدنية في ديننا؟ لماذا يوافق المسلمون على هذا الشرط وغيره مما اشترطه المشركون؟ سأل سيدنا عمر الرسول، صلى الله عليه وسلم: لم نعط الدنية في ديننا؟ فيقول، صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري

ومن جديد.. مع الصديق أبي بكر، عبارة لامعة يقولها لسيدنا عمر عندما ذهب ليسأله نفس ما سأل الرسول: لم نعط الدنية في ديننا؟ قال أبي بكر: إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على الحق

ثم تأمل هذه العاقبة، يقول عبد المحسن العباد في شرح سنن أبي داوود: ثم ماذا كانت النتيجة؟ لما رأى المسلمون الذين أسلموا ولا يريدون أن يبقوا مع الكفار في مكة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقبلهم بناءً على الشرط ما كان منهم إلا أن ذهبوا واجتمعوا على ساحل البحر، وكلما مرت قافلة من القوافل التي تأتي من الشام لكفار قريش اعترضوها، فقريش نفسها تألمت وتأثرت. وطلبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبلهم حتى يسلموا من اعتراضهم لعيرهم؛ فكان في ذلك مصلحة.

"ألا إن القبلة قد حُوِّلَت"

ومثال آخر يظهر فيه سرعة الاستجابة لأمر الرسول، والمبادرة بتنفيذ الأمر حتى قبل أي محاولات للتفكير.. يتجلى ذلك في حادثة تغيير القبلة، حيث انحرف المسلمون في صلاتهم إلى القبلة الجديدة، لما سمعوا مناديًا يخبرهم بالأمر.. هكذا ببساطة ودون تفكير، ودون محاولة للوصول إلى الحكمة أو العلة قبل التنفيذ.. هكذا يبادر الصحابة مظهرين قمة العبودية لله رب العالمين..

جاء في صحيح مسلم، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس، فنزلت: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" [البقرة:144] فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر، وقد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت، فمالوا كما هم نحو القبلة.

يقول ابن كثير في تفسيره: وقوله تعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله) يقول تعالى: إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي: مرتدا عن دينه (وإن كانت لكبيرة) أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيما في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا(7)

"إني لأحب أن يغفر الله لي"

قال تعالى "ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم" جاء في تفسير السعدي: كان من جملة الخائضين في الإفك "مسطح بن أثاثة" وهو قريب لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله، فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه؛ لقوله الذي قال، فنزلت هذه الآية، ينهاه عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله إن غفر له، فقال: ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم إذا عاملتم عبيده بالعفو والصفح، عاملكم بذلك، فقال أبو بكر - لما سمع هذه الآية-: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى مسطح.(8)

يا الله.. هل تتخيل نفسك في مثل هذا الموقف؟ تخيّله في ظل واقعنا المعاصر، أن يخوض أحدهم في عرض ابنتك، بعد أن كنت تنفق عليه أو تتصدق عليه، ثم تقرر أن تقطع عنه هذه النفقة جزاء بما فعل، ثم يأتي الأمر الشرعي بخلاف ذلك! لتجد أنك مضطر أن تستمر في إنفاقك على من خاض في عرض ابنتك؟ .. يا ألله.. إن التسليم لله يتجاوز كل العوائق؛ من تصورات عقلية ومشاعر نفسية وآراء وأفكار.. لا يقف شيء -حرفيًا- أمام الأمر الربّاني، إنه أمر الإله المدبر الحكيم، الذي يعلم ونحن لا نعلم..

"فلا تعضلوهن"

وعن قوله تعالى "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم" جاء في تفسير القرطبي: أخرج الدارقطني عن الحسن قال: حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فخطبت إلي فكنت أمنعها الناس، فأتى ابن عم لي فخطبها فأنكحتها إياه، فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا رجعيا ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها مع الخطاب، فقلت: منعتها الناس وزوجتك إياها ثم طلقتها طلاقا له رجعة ثم تركتها حتى انقضت عدتها فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب لا أزوجك أبدا فأنزل الله، أو قال أنزلت: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. في رواية للبخاري: فحمي معقل من ذلك أنفا، وقال: خلى عنها وهو يقدر عليها ثم يخطبها فأنزل الله الآية، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية فترك الحمية وانقاد لأمر الله تعالى(9)

لك أن تتخيل هذا الحدث بمقاييس الناس اليوم، لو زوّجت أختك إلى رجل وأكرمته وأعنته ويسّرت عليه أمر الزواج، ثم جاء بعد فترة وطلّقها، ثم تركها حتى انقضت عدّتها، ولما رأى الخطاب يطرقون بابها، أراد أن يرجع إليها من جديد.. طبيعي أن ترفض أن ترجعها إليه، بل وربما يصل الأمر إلى عداء واضح بين الأخ والزوج على ما بدر منه.. وهكذا كان الحال، فعقد الصحابي اليمين ألا يرجع أخته إلى هذا الرجل، وقال: لا أزوجك أبدًا = ولكن الأمر نزل بخلاف ذلك! .. الوحي هنا يأمر الأخ بتزويج أخته إلى هذا الرجل، طالما أنها رضيت بذلك = فماذا يفعل معقل بن يسار؟ ببساطة خالف مشاعره، وخالف حميّته، وخالف ما اعتمل داخله من غضب أو حنق وقبل أن يزوجها منه، ويكفر عن يمينه انقيادا وإذعانا لأمر الله عز وجل.

"لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول"

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه وقال: أيعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده فقيل للرجل بعدما ذهب صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم

"فجَرَت في سكك المدينة.."

ومسألة تحريم الخمر يتجلى فيها الفارق بين وازع السلطان ووازع الإيمان؛ فالدول المتقدمة حاولت مرارًا أن توقف تعاطي الخمور لما ينتج عنها من آثار وخيمة، وسنّت لذلك القوانين الصارمة ووضعت القيود في أماكن عدة، ولكن في النهاية باءت هذه المحاولات كلها بالفشل، فانتهى الأمر إلى الإباحة.. بينما في المجتمع المسلم، بمجرد نزول الأمر بالتحريم = كانت الخمر تجري في الطرقات، بعد أن سكبها الصحابة جميعًا انقيادا وإذعانا لأمر الله عز وجل، وحتى يشتهر الأمر بتركها، ويعلم الجميع أنها قد حُرمت ولا يجوز حتى الانتفاع ببيعها أو غير ذلك..

في صحيح مسلم عن أنس بن مالك: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر، فإذا مناد ينادي، فقال: اخرج فانظر، فخرجت، فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فجرت في سكك المدينة، فقال لي أبو طلحة: اخرج فاهرقها، فهرقتها

وفي قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون" يعلق الإمام القرطبي على سكب الخمر في طرق المدينة، فيقول في تفسيره: إن الصحابة فعلوا ذلك لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم، وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور، وأيضا فإنه يمكن التحرز منها ; فإن طرق المدينة كانت واسعة، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها - هذا - مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها، وأنه لا ينتفع بها، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك، والله أعلم(10)

"وليضربن بخمرهن على جيوبهن"

ويستمر الموكب.. نأتي هنا إلى نموذج الصحابيات، رضي الله عنهم، كيف استجبن سريعًا إلى الأمر بالحجاب.. فبمجرد نزول آية الحجاب، عمدت النساء إلى مروطهن وشققنا ليصنعن منها الحجاب، لم ينتظرن كثيرًا، لم يتلكأن -حاشاهن- في الاستجابة، لم تفكر إحداهن في تكليف إحدى الخيّاطات بصنع الحجاب.. بل كانت الاستجابة فورية وسريعة وبالمتاح أمامهن.

ورد في تفسير الطبري: عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأوَل، لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن أكثف مروطهنّ، فاختمرن به.(11)

وفي تفسير ابن كثير: عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة، قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن. فقالت عائشة، رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلا وإني - والله - وما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل. لقد أنزلت سورة النور: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)، انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابة، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به، تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات، كأن على رءوسهن الغربان(12)

"وطواعية الله ورسوله أنفع لنا"

كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكريها بالثلث والربع، والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي، فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل بالأرض فنكريها على الثلث والربع، والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها، أو يزرعها، وكره كراءها وما سوى ذلك.

"..أن يكون لهم الخيرة"

قوله تعالى "ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم". يقول ابن كثير: قال العوفي، عن ابن عباس: قوله: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) الآية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل فانكحيه " قالت: يا رسول الله، أؤامر في نفسي فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله صلى الله عليه وسلم: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا) الآية، قالت: قد رضيته لي منكحا يا رسول الله ؟ قال: "نعم" قالت: إذا لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أنكحته نفسي(13)

وجاء في الظلال: فهذا المقوم من مقومات العقيدة هو الذي استقر في قلوب تلك الجماعة الأولى من المسلمين استقرارا حقيقيا، واستيقنته أنفسهم، وتكيفت به مشاعرهم.. هذا المقوم يتلخص في أنه ليس لهم في أنفسهم شيء، وليس لهم من أمرهم شيء. إنما هم وما ملكت أيديهم لله. يصرفهم كيف يشاء، ويختار لهم ما يريد. وإن هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام. وخالق هذا الوجود ومدبره يحركهم مع حركة الوجود العام، ويقسم لهم دورهم في رواية الوجود الكبيرة، ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم. وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به، لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة، وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح، وإن هم إلا أجراء، لهم أجرهم على العمل، وليس لهم ولا عليهم في النتيجة! عندئذ أسلموا أنفسهم حقيقة لله.(14)

"حتى يحكموك.."

وقال تعالى "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنونَ حَتّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدوا في أَنفُسِهِم حَرَجًا مِمّا قَضَيتَ وَيُسَلِّموا تَسليمًا". قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حَكَمَ به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمتَ به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليماَ كُليًَا مِن غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)".(15)


الإشارات المرجعية:

  1. شيخ الإسلام، مجموع الفتاوى، ج20، 116
  2. مدارج السالكين 2/387
  3. ابن القيم، الصواعق المرسلة 4/1560
  4. أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين طبعة دار المعرفة، ج4، ص5
  5. عبد المحسن العباد، شرح سنن أبي داود للعباد، ص5
  6. في ظلال القرآن، الجزء الخامس، ص2994
  7. تفسير ابن كثير، طبعة دار طيبة، الجزء الأول، ص457
  8. تفسير السعدي، طبعة دار ابن الجوزي، الجزء الخامس، ص1159
  9. تفسير الطبري، طبعة دار المعارف، الجزء الخامس، ص17
  10. تفسير القرطبي، طبعة دار الفكر، الجزء السادس، ص217
  11. تفسير الطبري، طبعة دار المعارف، الجزء 19، ص159
  12. تفسير ابن كثير، طبعة دار طيبة، الجزء السادس، ص46
  13. تفسير ابن كثير، طبعة دار طيبة، الجزء السادس، ص422
  14. في ظلال القرآن، الجزء الخامس، ص2867
  15. تفسير ابن كثير، طبعة دار طيبة، الجزء الثاني، ص349
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#التسليم-للنص-الشرعي #التسليم
اقرأ أيضا
محاورة دينية اجتماعية الجزء الرابع | مرابط
مناظرات فكر الإلحاد

محاورة دينية اجتماعية الجزء الرابع


محاورة بين رجلين كانا متصاحبين مسلمين يدينان الدين الحق ويشتغلان في طلب العلم فغاب أحدهما عن صاحبه مدة طويلة ثم التقيا فإذا هذا الغائب قد تغيرت أحواله وتبدلت أخلاقه فسأله صاحبه عن ذلك فإذا هو قد تغلبت عليه دعاية الملحدين الذين يدعون لنبذ الدين ورفض ما جاء به المرسلون فحاوره صاحبه لعله يرجع فأعيته الحيلة في ذلك وعرف أن ذلك علة عظيمة ومرض يفتقر إلى استئصال الداء ومعالجته بأنفع الدواء وعرف أن ذلك متوقف على معرفة الأسباب التي حولته والطرق التي أوصلته إلى هذه الحالة المخيفة وإلى فحصها وتمحيصها و

بقلم: عبد الرحمن بن ناصر السعدي
1834
العقل والشرع والعلاقة بينهما | مرابط
تفريغات

العقل والشرع والعلاقة بينهما


فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة العقل وقد أناط الله تبارك وتعالى التكليف جملة وتفصيلا على وجود هذا العقل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ والصغير حتى يحتلم والمجنون حتى يفيقوالذي يقرأ آيات القرآن الكريم يجد فيها تمجيد العقل وتعظيمه وبين يدينا تفريغ لجزء من محاضرة للشيخ أبو إسحق الحويني يتحدث فيها عن العقل والنقل وعلاقة العقل بالشرع

بقلم: أبو إسحق الحويني
1179
دلالة آيات العتاب على مصدرية القرآن | مرابط
تعزيز اليقين مقالات

دلالة آيات العتاب على مصدرية القرآن


آيات العتاب الواردة في القرآن الكريم وتحليلها يثبت بشكل قاطع أن القرآن الكريم ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم كما ادعى أولياء الشيطان وإنما هو وحي من عند الله وفي هذا المقال المقتطف للأستاذ محمد عبد الله دراز تحليل وتفصيل لآيات العتاب ودلالتها على مصدرية القرآن

بقلم: محمد عبد الله دراز
2342
خصائص أدلة القرآن | مرابط
اقتباسات وقطوف

خصائص أدلة القرآن


كلام هام لابن القيم رحمه الله يشير فيه إلى خصائص أدلة القرآن الكريم مثل السهولة واليسر والمباشرة والقرب من فطرة الإنسان وعقله واعتماد أيسر الطرق وأقصرها وأقلها تكلفا وأكثرها نفعا ويمكننا أن نقارن بين هذه الصفات وبين الطرق المعوجة التي سلكها أهل الكلام في الاستدلال

بقلم: ابن قيم الجوزية
1924
الفروق بين الجنسين | مرابط
أباطيل وشبهات تعزيز اليقين المرأة

الفروق بين الجنسين


ربما يكون التحدي الأكبر الذي يواجه الاعتراف بالفوارق بين الجنسين اليوم هو ميل المجتمعات الحديثة إلى قياس قيمة النساء اليوم بمقارنتهن بالرجال بدلا من مقارنتهن بأفضل النسخ الممكنة من أنفسهن أقصى إمكاناتهن الآثار الاجتماعية والنفسية والعاطفية السلبية لهذه المقارنة المضللة مروعة

بقلم: مجلة أوج
413
بين الدوام وصلاة الفجر | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين الدوام وصلاة الفجر


ومن الطريف حقا أن مثل هذا المعتاد على إخراج الفجر عن وقتها مع الالتزام ببداية الدوام الصباحي ينظر لنفسه على أنه شخص ناجح ومنضبط في حياته بل ربما أسدى بعض النصائح لبعض اليافعين حوله: كيف ينجحون في حياتهم بالانضباط والالتزام بالمواعيد والجدية في الحياة ولا يرف له جفن على صلاة الفجر التي ينقرها كل ضحى!

بقلم: إبراهيم السكران
246