تعليل الأحكام: بين مقام التسليم واتباع الهوى

تعليل الأحكام: بين مقام التسليم واتباع الهوى | مرابط

الكاتب: محمود خطاب

611 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

  الاحتجاج بغياب العلة لإسقاط الحكم

كنت ألتقط -بين الفينة والأخرى- بعض الجدالات التي تدور على شبكات التواصل الاجتماعي، ولفت نظري حوار متكرر حول المعازف:
قال السائل: ما الحكمة أو العلة من تحريم المعازف؟
رد أحد المعلّقين: المعازف تصد عن الذكر وعن الصلاة!
قال: حسنًا، سأستمع إلى المعازف بعدما أنتهي من الذكر والصلاة ولوقت قصير، حتى لا تشغلني عنها!

ومرة أخرى:
قال سائل: لماذا حُرّمت المعازف عمومًا، واستُثني الدف؟
قيل: ﻷن الدُّف طربه أقل!
فعاد وقال: حسنًا، سوف أستخدم الطبل، وأحاول أن أجعل طربه أخف ليساوي الدف وبالتالي يحل لي استخدامه!

توضيح: أولًا يجب أن نعرف ما هي العلة وما هي الحكمة:

يقول محمد طاهر حكيم: الْفرق بَين الْعلَّة وَالْحكمَة: أَن الْعلَّة: هِيَ الْوَصْف الْمُنَاسب المعرّف لحكم الشَّارِع وباعثه على تشريع الحكم كالإسكار عِلّة لتَحْرِيم الْخمر.وَالْحكمَة: مَا يجتنيه الْمُكَلف من الثَّمَرَة المترتبة على امْتِثَال حكم الشَّارِع من جَلب نفع أَو دفع ضرّ. كحفظ الْعقل من تَحْرِيم الْخمر (1)

أي أن العلة هي الباعث على تشريع الحكم، والحكمة هي الثمرة التي يجنيها العبد من تنفيذ الحكم. وهناك قاعدة فقهية تقول: الحكم يدور مع علّته وجودًا وعدمًا. يقول ابن القيم "ولهذا إذا علَّق الشارع حكمًا بسبب أو علة زال ذلك الحكم بزوالها..، مثل وصف الفسق : علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية، فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه"(2) أي أن العلة طالما أنها موجودة فالحكم موجود ولو أنها انتفت واختفت ينعدم معها الحكم.

والحقيقة أننا اعتدنا ظهور مثل هذه الجدالات، خصوصًا في وسائل التواصل الاجتماعي، ويبدو أن نقطة البداية -دائمًا- هي الهوى! عندما يجد المسلم أن هناك حكمًا شرعيًا لا يوافق هواه = تبدأ محاولاته للتخلص منه.. وهنا يتخفى الهوى ويظهر بدلًا منه السؤال عن الحكمة أو العلة من هذا الأمر الشرعي -كأن الانقياد للأمر متوقف على ذلك-، وبعدها ندخل في عملية التملّص إما بمحاولة إزاحة العلة نفسها وتحطيمها، كما في الحوار السابق، أو القول بأنها علة أو حكمة غير مقنعة بحال أو أن الواقع يكذبها أو أي سبب غير ذلك، والحقيقة أن من دخل هذه الدائرة لن يعجز في النهاية عن إيجاد مخرج، فالهوى يمكنه أن يصل بصاحبه إلى ما هو أبعد من ذلك.

وهذه الإشكالية تأخذنا إلى موضوعين لا بد من طرحهما للنقاش؛ الموضوع الأول هو التعليلات الواهية للأحكام الشرعية، فهناك فعلًا من يخوضون في علل الأحكام ويعلقونها على علل واهية = تُضعف الانقياد للحكم الشرعي وتعطي المساحة لصاحب الهوى أن يتفلّت من الحكم بسهولة، وسنرى نماذج على ذلك، والنقطة الثانية هي مبدأ التسليم، والذي لا يستقيم إسلام المرء بدونه، كما قال الطحاوي: ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام.. وسنرى أيضًا نماذج عملية للتسليم.

ولكن قبل أن نخوض في هذين الموضوعين علينا أن نقف قليلًا مع المسلم صاحب التساؤلات السابقة، أو المسلم الذي يتوقف في الأمر الشرعي حتى يقنع بالعلة أو الحكمة.. يجب أن نعلم هل هو فعلًا يستفسر عن الحكمة ليزداد إيمانا ورسوخًا؟ أم أنه اتباع الهوى فقط هو الذي يحمله على هذا؟ علينا أن نرى هل هو متسق مع ذاته في كل أبواب الدين = يعني هل هو يتوقف عن كل الأحكام التي لا يعرف علّتها فعلًا؟ أم في الأوامر الشرعية التي لا توافق هواه فقط؟

نقول: هل يُشترط أن يقتنع المسلم بالعلة من الأمر الشرعي لكي ينقاد له ويتبعه؟ هل يُشترط أن يعرف الحكمة؟

= قطعًا لا! .. يكفيك ثبوت الأمر الشرعي فقط! وقد ذكر ابن القيم في مدارج السالكين “وفي بعض الآثار القديمة: يا بني إسرائيل، لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا؟”

ثم لو افترضنا أن إجابتك هي: نعم، عليك إذن أن تتسق مع هذا المبدأ، فإذا كنت ستتوقف عن الانقياد لكل أمر شرعي لا تُدرك الحكمة منه أو تعرف العلة.. فلا بد أن تتوقف عن شطر ليس بالقليل من الدين، بل ستضيّع دينك حرفيًا ولن يبق معك منه إلا نذر يسير لا يصلح لإبقائك داخل دائرة الإسلام أصلًا.. أقول: لو كانت الإجابة هي نعم:

  • لماذا إذن لم تترك الصلاة وأنت لا تعرف الحكمة أو العلة في عدد الركعات بل وفي حركات الصلاة نفسها من قيام وركوع وسجود ووضع اليد فوق اليد، ووضعية التشهد، ولا يسعك أن تخالف هذه الهيئة بحال، ولا تعرف كذلك سبب تلك المواقيت الصارمة التي لا يسعك أن تؤخر فيها أو تقدم؟
  • لماذا لم تتوقف عن الزكاة وأنت لا تدرك الحكمة من تحديد نصاب واضح للزكاة؟
  • لماذا لا تتوقف عن الصيام وأنت لا تعرف الحكمة من تحديد وقت بداية الصيام ووقت الإفطار؟
  • لماذا تحج إذا كنت لا تعرف ما السر في عدد الجمار التي تُرمى أيام النحر، ومسألة الطواف وغير ذلك؟


= هذه التساؤلات السابقة تثبت إذا كان المعترض متسقًا مع نفسه أم أنه مجرد عابد للهوى -والثانية أقرب بلا أدنى شك- فالاسترسال والاتساق مع هذا المبدأ لا بد أن يخرج صاحبه من دائرة الإسلام، ومن هذا حاله = لا بد أن يكون جاهلًا بمعنى الإله، ولا بد أن يكون عنده خلل عظيم في فهم معنى العبودية المفروضة عليه! ولكن في الغالب لا يحدث هذا، وصاحب الهوى يكتفي بإخراج الحكم الذي لا يروقه، بحجة العلة والحكمة، ولكنه لا يسترسل معه ويطبقه على بقية العبادات، ولا يسأل نفسه الأسئلة السابقة حتى ولا تخطر له.

والحقيقة أن الأمر لا يتوقف عند ما سبق ذكره؛ بل هناك الكثير من العبادات والأوامر الشرعية التوقيفية التي لا ندرك كنهها ولا يسعنا إلا التسليم والانقياد لرب العباد، حتى لو لم ندرك الحكمة منها! يكفينا أن الله الخالق المدبر الحكيم الذي له الملك وله الحكم وله الأمر = يكفينا أنه أمرنا بهذا، ويكفينا أنه ثبت لنا الأمر الشرعي بكذا وكذا حتى نتبعه ونلتزم به.. فإذا كنت مؤمنًا بوجود إله خالق مدبر حكيم لم يتركك سدى، بل أرسل لك الرسل ليخرجوك من الظلمات إلى النور، فوصلك الكثير من الأوامر والنواهي = فهذا كاف جدًا أن تلتزم بهذه الأوامر والنواهي طالما عرفت مصدرها.. بل ما يحل لك البحث عنه هو التأكد من ثبوت هذا الحكم سواء بالأمر أو بالنهي، وبعد ذلك لا يسعك إلا أن تنفذ.. فأنت عبد وهو رب.. وأنت آمنت بهذا ورأيت الأدلة الشاهدة عليه، آمنت بعبوديتك لله، فأين هذه العبودية إذا قررت ألا تنفذ إلا ما تقتنع به؟

وإذا ذكرنا ما سبق = علينا أن أيضًا أن نوضح أن هناك الكثير من العبادات والأوامر الشرعية التي تتجلى الحكمة والعلة منها لكل الناس، وهناك أوامر تخفى الحكمة منها على بعض المسلمين وتظهر لبعض، فالناس لا يستوون في العقل والفهم، وكذلك هناك نوع من الأوامر والعبادات التي تخفى علّتها وحكمتها على جميع الناس = ويكون المقصد منها هو اختبار العبد، هل يُسلم لها العبد ويُذعن أم لا! ولكن خفاء هذه العلل والحِكَم لا يعني انعدامها أو غيابها، فلكل حكم علّة وحكمة، يعلمها الناس أو يجهلونها، فإن كانت الأولى = فبها ونعمت، وإن كانت الثانية فنحن عباد علينا التسليم. وكما يحاول المسلم أن يصل إلى الحكمة ليزداد إيمانا ورسوخًا لا بد أيضًا أن يبلغ منزلة التسليم بمجرد وصول الأوامر إليه تمامًا كالجندي في المعركة!

ويعلق الإمام الغزالي على نوع من الأوامر والعبادات التي لا يعقلها المسلم ومع ذلك يلتزم بها، فيقول: ولذلك وظف عليهم فيها أعمالًا لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية..، فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط (3)

نماذج للتسليم الشرعي

التسليم للأمر الشرعي من أعلى مقامات العبودية، ولا يستقيم إسلام المرء إلا إذا عَبَرَ جسر التسليم، والحقيقة أن السيرة النبوية مليئة بالصور والمشاهدات والأحداث التي ظهر فيها مقام التسليم بصورة ناصعة تشف عمّا يعتمل في قلوب الرعيل الأول من الإيمان واليقين والإذعان لرب العالمين، وكذلك نصوص الوحي فيها الأمر بالتسليم لحكم الله والوعيد لمن خالف ذلك، وأيضًا كلام العلماء، مثل العبارة التأسيسية التي قالها الإمام الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم.. وسنحاول الوقوف على بعض هذه النماذج.

أما من الوحي فهناك الكثير من الآيات الخاصة بالتسليم نذكر منها قوله تعالى "ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم". جاء في تفسير الطبري: يقول تعالى ذكره: لم يكن لمؤمن بالله ورسوله، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا) يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدى والرشاد.

"يا أبت افعل ما تؤمر"

نقف هنا أمام نموذج هام من نماذج التسليم لأمر الله، وهو نموذج سيدنا إبراهيم ورؤيته؛ قال تعالى “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ”

"يا لله! ويا لروعة الإيمان والطاعة والتسليم.. هذا إبراهيم الشيخ، المقطوع من الأهل والقرابة، المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام، طالما تطلع إليه، فلما جاءه جاء غلاما ممتازا يشهد له ربه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية، فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم..، إنها إشارة من ربه، وهذا يكفي، هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه، لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!

ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب، كلا إنما هو القبول والرضا والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى..، والأمر شاق،ما في ذلك شك، والأمر في حسه هكذا: ربه يريد، فليكن ما يريد، على العين والرأس، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاما، لا قهرا واضطرارا، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها; وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى..

فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقا لرؤيا رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه: قال: يا أبت افعل ما تؤمر. ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين .. إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضا كذلك وفي يقين" (4)

"لئن كان قال ذلك لقد صدق"

بهذه العبارة البسيطة الوجيزة ارتقى سيدنا أبو بكر إلى أعلى مقامات العبودية، ووصل إلى ذروة التسليم للوحي.. كان ذلك في حادثة الإسراء والمعراج التي نزلت على الناس كالصاعقة! فأصبحوا بين متعجب ومستهزئ ومكذب ومرتد بعد إيمان، إنه لأمر جلل، يظهر ذلك في رواية الإمام أحمد التي توثق لنا هول الموقف: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لمَّا كان ليلةَ أُسْرِيَ بي وأصبحتُ بمكة فظعتُ بأمري، وعرفتُ أنَّ الناسَ مُكذِّبيَّ، فقعدت معتزلا حزينًا..). وتستمر الرواية في رصد مواقف الناس وكيفية تلقيهم للخبر.. إنه لأمر عظيم! لقد أهمّ الرسول صلى الله عليه وسلم، كأنه علم كيف سيتلقى الناس هذا الأمر.

ثم.. بين كل هذا الزحام، كان أبو بكر الصديق.. لما ذهب الناس يحدثون أبا بكر بحادثة الإسراء = فيجهر بعبارته البرّاقة "لئن كان قال ذلك، لقد صدق"! إنها قاعدة تأسس عليها إيمان أبي بكر الصديق؛ لو كان النبي قال كذا = فقد صدق إذن! أيًّا كان الذي قاله النبي! إنه صادق في كل ما يقول.. إنها قاعدة التسليم! لمثل هذا كان أبو بكر هو الصديق، فالتسليم هو محض الصديقية كما يقول ابن القيم، رحمه الله. لقد آمن أبو بكر بالله، وآمن أنه أرسل رسولنا الذي يتصف بالصدق والعصمة، وآمن أن هناك وحي يربط النبي بالسماء، إذن فقد آمن بصدق النبوة، وآمن بالله الخالق الذي هو على كل شيء قدير، فلو أراد -سبحانه- أن يسري بعبده ليلًا ثم يصبح في مكة = كان ذلك على الله يسيرًا.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى؛ أصبح يتحدث الناس بذلك؛ فارتدَّ ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنَّه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم، إني لأصدقه ما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة.(5)

إذن لا يتوقف الانقياد للأمر الشرعي على البحث عن الحكمة أو العلة أو غير ذلك من التفاصيل التي غرق فيها المعاصرون، وإنما مجرد ثبوت الأمر عن النبي = كان كافيًا جدًا للامتثال والتنفيذ.. ولكننا اليوم نرى المسلم يكسر قاعدة التسلم بدعوى مخالفة الرأي أو عدم ثبوت الحكمة أو غير ذلك، ويتجاهل أن اختبار تسليم العبد من ضمن مقاصد الشريعة الواضحة .. ولله در ابن القيم، حيث: فرأس الأدب معه: كمال التسليم له، والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولًا، أو يحمله شبهة أو شكًا، أو يقدم عليه آراء الرجال، زبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان(6)

وقال، رحمه الله: إن مبنى العبودية والإيمان بالله، وكتبه، ورسله على التسليم، وعدم الخوض في تفاصيل الحكمة في الأوامر، والنواهي، والشرائع، ولهذا لم يحكِ اللهُ -سبحانه- عن أمة نبي صَدَّقت نبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت، وسَلَّمت، وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها، وإيمانها، واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها(7)

للاستزادة فيما يخص التسليم للأمر الشرعي: اقرأ هذا المقال

تعليلات واهية للأوامر الشرعية

كما وقفنا على إشكالية التسليم للأمر الشرعي، وبيّنا أن الهوى قد يظهر أحيانا في السؤال عن الحكمة والعلة، علينا أيضًا أن نقف عند مشكلة التعليلات الواهية التي يتصورها البعض ممن يعلقون الحكم الشرعي بعلة واهية لا تصمد أمام ضغط الواقع وتطوراته، ثم تكون النتيجة في النهاية أن يسقط الحكم -سواء بالتحليل أو التحريم- بسقوط علّته، فالحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، أو على الأقل أن يضعف انقياد المسلم لهذا الأمر الشرعي بناء على ضعف العلة التي عُلّق بها أو الحكمة التي ذُكرت منه.. وسنذكر هنا بعض النماذج التطبيقية، نبدأها بتحريم الخمر، ﻷن فيها تأصيل ماتع من ابن القيم، رحمه الله..

الخمر:

أما تحريم الخمر، فقد خاض فيه الخائضون قديمًا وحديثًا، وقد تحدث ابن القيم، رحمه الله، عن أقوام علّلوا وتأولوا تحريم الخمر بإيقاع العداوة والبغضاء = وبالتالي أحلّوها طالما أنهم يأخذون منها القدر الذي لا يوقع هذه العداوة، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، ولو انتفت العداوة والبغضاء انتفى تحريم الخمر.. جاء ذلك في كتاب مدارج السالكين حيث كان ابن القيم يعلق على كلام للإمام الهروي، وجاء عند نقطة تعظيم الأمر والنهي، والسبل التي تقود إلى ذلك، ومن ضمن ما ذكره الهروي: "ولا يحملا -أي الأمر والنهي- على علة توهن الانقياد".

ثم يعلق على هذه العبارة، ويقول: وقوله -أي الهروي: ولا يحملا على علة توهن الانقياد؛ يريد: أن لا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليهما بالإبطال، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء، والتعرض للفساد. فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه. كما قيل:

أدرها فما التحريم فيها لذاتها        ولكن لأسباب تضمنها السكر
إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى   فسيان ماء في الزجاجة أو خمر

وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة، وقد حمل طائفة من العلماء أن جعلوا تحريم ما عدا شراب خمر العنب معللا بالإسكار، فله أن يشرب منه ما شاء، ما لم يسكر. ومن العلل التي توهن الانقياد: أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة، لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر. فيضعف انقياد العبد إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم. ولهذا كانت طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور.

وفي بعض الآثار القديمة: يا بني إسرائيل، لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا؟ .. وأيضا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته، لم يكن منقادا للأمر. وأقل درجاته: أن يضعف انقياده له..، وكل هذا من ترك تعظم الأمر والنهي. وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله. فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا الله. فكم عطلت لله من أمر. وأباحت من نهي. وحرمت من مباح؟ وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها (8)

ومن التعليلات المعاصرة = يقولون العلة في تحريم الخمر هو الإضرار بالصحة والبدن، وهنا يُفتح الباب من جديد أمام أي بحث طبي ضعيف ليثبت لنا أن تناول كمية قليلة من الخمر لا يضر البدن، وبالتالي تُباح الخمر بكميات قليلة.. وهذه هي النهاية المنطقية عندما يُعلّق الحكم على علة ضعيفة أو تُحصر كل مقاصد الأوامر الشرعية في أمر واحد وتُختزل الحِكَم في أمر واحد وسيأتي الحديث عن ذلك.

الصلاة

حتى باب العبادات التي أجمع العلماء أن العقل لا يدرك كنهها وأننا لا نملك فيها إلا التسليم وإظهار العبودية والانقياد لأمر المولى عز وجل = حتى هذه العبادات تسربت إليها محاولات التعليل وابتداع الحكم الواهية، في موضوع الصلاة مثلًا قال منصور الكيالي كلامًا عجيبًا حول الحكمة من الوقوف ثم الركوع وغير ذلك، الفيديو في الأسفل بداية من الدقيقة السادسة، يقول: هناك حبل للطاقة يرسله الله على كل إنسان، هذا المدد من الطاقة يخص شكرة من شكرات الطاقة موجودة في أعلى رأس الإنسان نلاحظ في الصلاة أن المسلم يقرأ القرآن واقفًا حتى تكون هذه الشكرة متجهة نحو الأعلى.. متى ما مالت هذه الشكرة أثناء الركوع والسجود يُمنع قراءة القرآن وندخل في التسابيح، إذن طالما الإنسان الشكرة موجودة نحو الأعلى في الصلاة الإسلامية يُسمح بقراءة القرآن لان الطاقة تعمل، متى ما مالت هذه الشكرة وأخذت منحى أفقيا في الركوع والسجود تبدأ التسابيح ولا يسمح بقراءة القرآن

ونماذج أخرى

وهناك العديد من النماذج الأخرى للحكم والتعليلات التي يربطون بها الأحكام الشرعية وقد تقود في النهاية إلى توهين الانقياد، فمثلًا يقولون:

  • الصيام عبارة عن حمية غذائية، وأنه شُرع فقط للشعور بالفقراء؛ حتى يشعر الغني بالفقير، طيب الفقير بمن يشعر؟ بالأفقر منه؟ والأقفر منه بمن يشعر؟ الاستمرار في هذا التسلسل يُسقط العلة التي وضعوها للصيام.
  • الزنا محرم لحفظ النسل، أي أن الزنا يؤدي لاختلاط النسل؛ فعلقوا الحكم كله في هذه العلة فقط، ثم جاء الوقت الذي عرف فيه الإنسان تحليل الـ DNA ووسائل متنوعة ومختلفة لمنع الحمل، فهل هنا يسقط تحريم الزنا؟
  • والزكاة نوع من أنواع التكافل الاجتماعي ولذلك شرعت
  •  الخنزير حرام لأنه ضار بالصحة

أين المقاصد الأخرى؟! هل كل المقاصد التي شُرعت لأجلها الأحكام دنيوية؛ مادية أو جسدية؟؟ أين مقاصد التسليم والإخبات؟ أين مقاصد التزكية وغير ذلك؟ من الذي حصر العلل والحكم كلها فيما يعود على المال والبدن فقط؟

يقول ابن تيمية: والمقصود هنا أن يعرف مراتب المصالح والمفاسد، وما يحبه الله ورسوله وما لا يبغضه مما أمر الله به ورسوله كان لما يتضمنه من تحصيل المصالح التي يحبها ويرضاها ودفع المفاسد التي يبغضها ويسخطها، وما نهي عنه كان لتضمنه ما يبغضه ويسخطه ومنعه مما يحبه ويرضاه وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها، وما ينفعها من حقائق الإيمان، وما يضرها من الغفلة والشهوة..، فتجد كثيرًا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن"

ويستكمل " وقوم من الخائضين في أصول الفقه، وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة، إذا تكلموا في المناسبة وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان؛ أخروية ودنيوية: وجعلوا الآخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة"(9)

وهذا الطرح التيمي يفصل لنا الكثير من أبعاد المسألة = فهناك الكثير من المقاصد الباطنية المقصودة من العبادات مثل الخضوع والخشية والإخبات والإخلاص والرجاء والدعاء والتضرع وغير ذلك، ثم إن العبادات والأحكام مقصودة لذاتها بالطريقة التي وردت إلينا، فالله يحب أن يرى العبد يمتثل لها وينفذها انقيادا لأمره، وهناك الكثير من الأوامر مقصودها الأول هو اختبار التسليم، ولا يعني ذلك أن الشريعة الإسلامية خلو من المقاصد السلوكية والاجتماعية، بل هناك مقاصد تعود على البدن والمال، ولكن لا ينبغي للمسلم أن يقتصر فقط عليها، بل يجب استيعاب كل هذه المقاصد.


الإشارات المرجعية:

  1. محمد طاهر حكيم، رعاية المصلحة، ص202
  2. ابن القيم، إعلام الموقعين 5/ 528.
  3. أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، 361، طبعة دار الأرقم
  4. في ظلال القرآن
  5. أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين طبعة دار المعرفة، ج4، ص5
  6. ابن القيم، مدارج السالكين 2/387
  7. ابن القيم، الصواعق المرسلة 4/1560
  8. ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، دار الكتاب العربي، ص466
  9. الفتاوى الكبرى المجلد الثاني ص16 طبعة دار الأرقم بن أبي الأرقم، شيخ الإسلام
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
شبهة الشر | مرابط
أباطيل وشبهات فكر مقالات الإلحاد

شبهة الشر


يناقش هذا المقال إشكالية الشر في العالم حيث أنها من أقدم الشبهات والإشكالات التي واجهت العقل الإنساني على مر العصور ويستعرض الكاتب عباس محمود العقاد تاريخ هذه الإشكالية بشكل موجز ثم يعرض لنا الرد عليها أو الحل الذي يسميه حل التكافل في مقابل الحلول الأخرى التي ظهرت في قديم الزمان

بقلم: عباس محمود العقاد
2136
مراجعة لكتاب التبرج المسيس للوهيبي | مرابط
فكر مناقشات

مراجعة لكتاب التبرج المسيس للوهيبي


مازالت مشكلات الانحلال السلوكي والتدهور الأخلاقي مسيطرة على المشهد في الكثير من مجتمعات المسلمين وخصوصا في مسألة العلاقة بين الجنسين وموضوعات تحرير المرأة واعتدنا أن نسمع تحليلات تقليدية لهذه المشاكل ترجعها إلى عوامل فردية أو ظواهر عشوائية غير موجهة ولا مقصودة ولكن مؤلف كتاب التبرج المسيس قرر أن يتتبع هذه الظواهر ويصل إلى محركاتها الأولى وبالطبع وصل في تحليله إلى خيوط سياسية كأن هذا المشهد الذي نراه جميعا يقع ضمن أهداف سياسية ومخططات دولية ومن هنا نجد أنفسنا أمام سياسات مكافحة الإرهاب المحل

بقلم: إبراهيم السكران
2312
تسويف التوبة | مرابط
اقتباسات وقطوف

تسويف التوبة


وما مثال المسوف إلا مثاله من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة فقال أؤخرها سنة ثم أعود إليها وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف

بقلم: أبو حامد الغزالي
195
مفاهيم تحتاجها الأمة ج1 | مرابط
تفريغات

مفاهيم تحتاجها الأمة ج1


وأنا سأطرح بعض المفاهيم التي أشعر أن الأمة بحاجة لها وأخاطب بها كل مسلم رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا حاكما كان أو محكوما عربيا كان أو عجميا قريبا كان أو بعيدا يعيش في بلد محتل أو حر

بقلم: د راغب السرجاني
609
مضاهاة الخلق | مرابط
اقتباسات وقطوف

مضاهاة الخلق


يستطيع الإنسان على فعل الكثير من الأشياء في الحياة الدنيا ولكنه يعجز عن مضاهاة خلق الرحمن وتلك من الحجج التي جاءت في القرآن الكريم وكان بها التحدي لأمم المشركين والكافرين وبين يديكم مقتطف من كتاب النبأ العظيم عن عجز مضاهاة الخلق

بقلم: محمد عبد الله دراز
600
حجة البعوض غير المرئي | مرابط
اقتباسات وقطوف

حجة البعوض غير المرئي


من ضمن من تحدثوا في إشكالية وجود الشر الباحث ألفن بلانتنجا وهو يتحدث عما يسمى بحجة البعوضة غير المرئية ويربطها بشكل مباشر بقصور الإدراك والعقل الإنساني مقارنة بحكمة وأسباب الله وبين يديكم مقتطف يشرح فيه فكرته بشكل كامل

بقلم: ألفن بلانتنجا
366