سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2

سلسلة كيف تصبح عالما الدرس الأول ج2 | مرابط

الكاتب: د راغب السرجاني

667 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

 

منزلة العلم في الإسلام

لابد أن نقف وقفة ونتفكّر: لماذا كان أول شيء نزل في هذه الرسالة "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق:1-5]؟ تدبروا وتفكروا، فالقرآن الكريم أكثر من ستة آلاف آية، من كل هذه الآيات اختار ربنا سبحانه وتعالى أن يكون مفتاح هذا الدين والبداية والأساس الذي تُبنى عليه الأمة هذه الآيات الخمس، تكررت في هذه الآيات الخمس كلمة العلم بمشتقاتها ثلاث مرات، وتكررت كلمة القراءة مرتان، وجاءت كلمة القلم مرة، كل هذا في خمس آيات قصيرة، ألا يُعطي لنا هذا التركيز انطباعًا؟ أليس من المحرج جدًا لهذه الأمة أن تكون في ذيل المتعلمين والعلماء في العالم الآن، وهي التي افتُتح دستورها بهذه الآيات الخمس؟! هذا أمر يحتاج إلى وقفة حقيقية.

وغريب أن تنزل هذه الآيات الخمس أول ما تنزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يقرأ ولم يكتب طيلة حياته، والله عز وجل يعلم ذلك تمامًا، ومع ذلك نزلت الآيات لتلفت الأنظار إلى أهم ما في هذا الدين وهو العلم، في الحقيقة هذا أهم ما في هذا الدين، وبعض الناس قد يعقد مقارنات مع الأخلاق وهي هامة، ومع العقيدة وهي أيضًا هامة، ومع الجهاد في سبيل الله وهو هام، وسنذكر الآن أن العلم يسبق هذه الأمور، العلم ضروري لكي تعمل كل هذه الأمور بشكل صحيح، فلو أنك أسست بيتًا وجئت فيه بثلاجة وبوتاجاز ومروحة وغير ذلك من أدوات المنزل الكهربائية، ثم لم تأت بالكهرباء ولم تأت بالغاز، كل هذه الأشياء الجميلة لا قيمة لها بالمرة ولا معنى لها.

وبغير العلم لا قيمة للأخلاق، وبغير العلم لا قيمة للجهاد في سبيل الله، بل إن العقيدة تحتاج إلى علم، فقد قال ربنا سبحانه وتعالى: "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ" [محمد:19] فالعقيدة تحتاج إلى علم؛ لأن الذين عبدوا الله عز وجل بظن ولم يعبدوه بعلم ضلوا وأضلوا، فوصل بهم جهلهم إلى عبادة أحجار من دون الله، ووصل بهم جهلهم إلى عبادة أبقار من دون الله، ووصل بهم جهلهم إلى عبادة بشر من دون الله، هذا هو الجهل وهذا هو العلم، وهذه قيمة العلم.

إذًا: نزول هذه الآيات على رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ تلفت النظر إلى قيمة العلم، ونزلت هذه الآيات أيضًا في بيئة كبيئة العرب التي اشتُهرت بالأمية، ففي ذلك الوقت كانت أمة لا تكتب ولا تقرأ إلا أقل القليل، وكانوا متخلفين في معظم العلوم، اللهم إلا الشعر والبلاغة واللغة، ومن هنا جاء القرآن الكريم ليتحداهم في هذا المجال، لكن في معظم العلوم الأخرى كانوا في حالة جهل كبير جدًا، لدرجة أن الله عز وجل سمى الفترة التي تسبق الإسلام بالجاهلية فقال: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ" [المائدة:50]، فالفترة التي سبقت الإسلام كانت فترة جهل، والتي بعد الإسلام فترة علم.

فالإسلام ثورة علمية حقيقية، وتغيير كامل لمنهج الأمة التي كانت تعيش في هذه البقاع، ونقلة هائلة من أمة جاهلة لا تكتب ولا تقرأ ولا تخترع ولا تسبق غيرها، ولا تفكّر إلا في التبعية لفارس أو الروم أو غيرهما، من أمة جاهلة إلى دولة رائدة قوية تنشر الحق والعدل والإسلام والتوحيد في مشارق الأرض ومغاربها.

أول خمس آيات تتحدث عن العلم، ولم يكن هذا فقط في الآيات الأولى من القرآن الكريم، بل كان مستمرًا في كل الآيات، فقد قمت بإحصائية لكلمة العلم بمشتقاتها في القرآن الكريم ففوجئت مفاجئة كبيرة جدًا، حيث إن كلمة العلم هي أكثر كلمة جاءت في كتاب الله عز وجل بعد لفظ الجلالة، وهذه إحصائية لها مغزى ولها معنى، فالتركيز على كلمة العلم بهذه الصورة ليس أمرًا عشوائيًا أبدًا، حاشا لله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]كل كلمة محسوبة، وكل كلمة في مكانها.. العلم بمشتقاته أتى في القرآن (779) مرة بالضبط، والقرآن الكريم عدد سوره (114) سورة، فيكون العلم قد ذكر أكثر من (7) مرات في السورة الواحدة.

قد تأتي في سور أكثر وفي سور أخرى أقل، لكن المتوسط سبع مرات في السورة، فأي تكريم للعلم؟! فالعلم بهذا المعنى هو أساس حقيقي لبناء الأمة، وأساس حقيقي لدخول الجنة: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة) فكل منكم أتى من مكان معين بعيدًا كان أو قريبًا، فمشوارك إلى هنا هذا طريق للجنة، وصبرك في هذا المكان هو صبر لدخول الجنة؛ لما جاء تصريحًا في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة).

إذًا: أول ما نزل من القرآن يختص بالعلم، وأكثر كلمة بعد لفظ الجلالة هي العلم بمشتقاته، فأول ما خلق آدم عليه السلام نجد في القصة أن هناك لفت نظر لشيء واحد فقط وهو العلم: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ" [البقرة:30-33] في أربع آيات تكررت كلمة العلم بمشتقاتها ثمان مرات، والفضيلة الوحيدة التي ذُكرت في الآية ورفعت قدر آدم عليه السلام على الملائكة فيسجدون له تكريمًا وتعظيمًا كما أمرهم ربهم سبحانه وتعالى هي فضيلة العلم، لم يسبقهم بطول قيام، ولم يسبقهم بكثرة تسبيح، ولم يسبقهم بطاعة مطلقة لله عز وجل، كل ذلك تجد أن الملائكة تتفوق فيه، لكن قضية العلم.

والعلم الذي تعلمه آدم هذا علم خاص جدًا سنذكره إن شاء الله في المحاضرات القادمة، ليس علمًا شرعيًا فقط، ولكنه كان علمًا حياتيًا أيضًا، وسنتحدث عنه إن شاء الله بعد ذلك، لما بدا للملائكة أن هذا الخلق الجديد يتميز عنهم فعلًا بأمر لا يستطيعونه إلا بتوفيق من الله عز وجل أطاعوا ربهم سبحانه وتعالى وسجدوا تكريمًا لهذا الخلق الجديد الذي يتميز عليهم بالعلم، والذي سيكون خليفة في الأرض، وهو آدم عليه السلام.

ماذا لو تخلى أولاد آدم عليه السلام عن العلم؟ افتقدوا مؤهلات الخلافة في الأرض، الذي يكون خليفة في الأرض، والذي يسود ويقود، والذي يُتّبع لا بد أن يتّصف بالعلم، من أول الخلق وهذه الحقيقة بارزة وواضحة، وذكرها لنا ربنا في كتابه سبحانه وتعالى، كل شيء في ديننا واضح تمام الوضوح، وهذا الضغط على هذا المعنى هو للفت أنظار المسلمين إلى أسباب القوة والتمكين والسيادة والريادة، إن أردتم ألا يتكلم البابا عن المسلمين.

إن أردتم ألا تُحتل العراق أو فلسطين، إن أردتم ألا يُهان نبينا صلى الله عليه وسلم أو يُدنّس قرآننا في جونتنامو وغيرها، إن أردتم كل ذلك فأول الطريق كما نزل في أول الرسالة: العلم، وأمة متخلفة لا يمكن أن ترفع رأسها، هذه قاعدة، والعلم بشقيه: الشرعي، والحياتي، الشرعي من علوم فقه، وحديث، وعقيدة، وأخلاق وما إلى ذلك من أمور الدين، والحياتي كالطب، والفلك، والهندسة، والصناعة، والزراعة، والجغرافيا، والعلوم النووية..، وما إلى ذلك من علوم تحتاجها الأمة، بل تحتاجها البشرية بصفة عامة.

أول ما خلق الله عز وجل القلم، وأول من خلق من البشر آدم ورفعه بالعلم، وأول شيء نزل في الرسالة العلم، أليست كل هذه إشارات إلى قيمة العلم؟

العقيدة تُبنى على العلم؛ فإن عبدنا الله بجهل أشركنا معه غيره، وما أكثر من أشرك بالله عز وجل؛ لأنه لا يتبع العلم الصحيح.

والأخلاق أيضًا تحتاج إلى علم، ومن الممكن أن تتغير المعايير تمامًا مع اختفاء العلم، بحيث يصبح الخلق الحسن سيئًا وقبيحًا، والخلق السيئ حسنًا وجميلًا، وما أكثر الأخلاق التي تُعتبر الآن أخلاقًا حسنة وهي أخلاق سيئة في الأصل والعكس.. فيصبح الجبن حكمة، ويصبح الاختلاط والفجور حرية، ويصبح الطعن في الدين فكرًا هكذا حين ينتشر الجهل بين المسلمين تكثر المساوئ في كل شيء حتى في الأخلاق.

والجهاد يحتاج إلى علم، الجهاد ذروة سنام الإسلام، ولا يكون الجهاد جهادًا إلا بعلم، والذي يجاهد في سبيل الله وهو مخلص في جهاده ولا يتصف بالعلم قد يُضل ويضل، وقد يصل الأمر إلى خروجه من الدين وهو مجاهد، وما فتنة الخوارج عنا بخافية، فالخوارج يحتقر أحدنا صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، وصيامه إلى صيامهم، وقراءته للقرآن إلى قراءتهم، فهم متفوقون في هذه المجالات التعبدية، وهم مقاتلون ومضحون بأرواحهم إلى أعلى درجات التضحية، يقاتلون بأعداد قليلة الأعداد الكثيرة ولا يرهبون، ولكن ضاع منهم العلم فقاتلوا في سبيل قضايا فاسدة، فخسروا خسرانًا مبينًا.

حتى قال صلى الله عليه وسلم في وصفهم: (يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية) والرمية: هي الشيء الذي يُرمى كالغزال أو غير ذلك، يعني: الشيء الذي رُمي بالسهم، فمع سرعة السهم يمكن أن يخرج من الغزال من الجهة الأخرى، فهكذا خروج الخوارج من الدين مع شدة تعبُّدهم وتضحيتهم بأرواحهم، واقرءوا أشعار عبد الرحمن بن ملجم أشقى الآخرين وهو يقتل عليًا رضي الله عنه وأرضاه، وهو يتقرب بهذا القتل إلى الله عز وجل، ويرجو به الجنة، وانظروا إلى تلبيس إبليس.

فالجهل خطير فعلًا، فكلما ازداد الجهل اقترب يوم القيامة؛ لأن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويغشو الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا، هذه من علامات يوم القيامة، وهذا نراه بوضوح، فنحن نقترب من الساعة ونسأل الله الثبات.

إذًا: العلم هو بداية التغيير، والعلم يحتاج إلى جهد ومثابرة، والعلم هو الصفة الملازمة دائمًا لكل مغيّر، وأعظم المغيرين هم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فآدم عليه السلام وصف بالعلم، "وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا" [الأنبياء:74]، وموسى عليه السلام: "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا" [القصص:14]، ويوسف عليه السلام: "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا" [يوسف:22]، ويعقوب عليه السلام: "وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:68]، وداود وسليمان عليهما السلام: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" [الأنبياء:79]، وعيسى عليه السلام: "وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ" [المائدة:110]، ونبينا صلى الله عليه وسلم: "وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا" [النساء:113].

فالعلم دائمًا ملاصق للمغيرين، وأعظم المغيرين هم الأنبياء، والصفة التي وصف بها كل الأنبياء العلم؛ لأن الوظيفة الأولى للنبي أن يبلغ: "وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ" [النور:54] كيف يبلّغ الرسول بلاغًا مبينًا بغير علم؟ كيف تحمل لواء هذه الأمة بغير علم؟ كيف تغيّر حال المسلمين بغير علم؟ هذا مستحيل، فلا بد للمغير أن يكون عالمًا في مجاله وتخصصه، وليس بالضرورة أن يكون عالمًا في الفقه أو الحديث، هذا نحتاجه وبشدة، لكن نحتاج أيضًا العالم في المجالات الأخرى التي ذكرناها، فلا بد أن تتصف بالعلم وأن تسعى لطلبه، فما الشيء الذي أمر ربنا سبحانه وتعالى رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يطلب الاستزادة منه؟ المال؟ لا، العمر؟ لا، إنما قال: "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" [طه:114] فاطلب الاستزادة دائمًا من العلم مهما بلغت: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

وتظل الآية تقرأ إلى آخر يوم في الدنيا: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] فدائمًا نطلب العلم، وبغير العلم لا تقوم أمة أبدًا، لا بناء لأمة من الأمم إلا بالعلم، فمؤهلات القيادة عند طالوت عليه رحمة الله كما قال الله عز وجل في حقه: "وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا" [البقرة:247] كان بنو إسرائيل يفكرون بالعقلية المادية كما يفكّر بهذه العقلية الكثير والكثير من العالم، كانوا يفكرون أن الذي يتولى القيادة لابد أن يكون لديه أحد الشيئين: إما أن يكون ورث القيادة، وهذا مشتهر وكثير وجميعنا نراه، وإما أن يكون كثير المال "قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ" [البقرة:247].

لأنه أتى من فرع لا يتوارث الحكم، فالذين أتوا من الفرع الذي يرث الحكم أولى في عرفهم، "وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ" [البقرة:247] وكان من الممكن أن يبقى قائدنا إذا كان غنيًا ومعه أموال كثيرة، لكن بغير مال ولا نسب لا يكون قائدًا في عرفهم، فرب العالمين سبحانه وتعالى يوضح المعايير التي يجب أن يتصف بها القائد الذي يقود أمة إلى نجاح وإلى نصر، والذي يغلب بالقليل الكثير: "قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ" [البقرة:247] العلم أولًا ثم الجسم والقوة، والقوة بكل أنواعها، فهو يقاتل بجسمه في ذلك الوقت، ويدخل في ذلك قوة السلاح الآن: الدبابة، والطائرة، والسلاح النووي، والصاروخ الباليستي، وما إلى ذلك من أنواع القوى المختلفة، لكن قبل القوة لا بد من العلم، وبغير العلم لا تستطيع تصنيع قوة، وبغير العلم الشرعي وعلم الأخلاق لا تستطيع صرف هذه القوة في مكانها الصحيح، بل تطغى وتتجبر وتظلم..

العلم أولًا، ولا بد من العلم لبناء الأمة، حتى في عالم الجن يُرفع صاحب العلم: "قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ" [النمل:30-40] فالذي عنده علم تميز عن ذاك ليس بقوة بدن ولا بسرعة انطلاق، ولكن بالعلم، "قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ" [النمل:40] ولهذا سليمان عليه السلام عندما ذكر غلبة مملكته ودولته على مملكة سبأ، قال: "وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ" [النمل:42] فانظر إلى القدر الذي أُعطي للعلم، حيث جعل لكل الأنبياء وكل المغيرين وكل القادة في الإنس وفي الجن، حتى في عالم الحيوان، فالحيوان المعلّم غير الحيوان غير المعلّم: "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ" [المائدة:4] فنحن نأكل مما أمسكت الجوارح المعلمة، ولا نأكل مما أمسكت الجوارح غير المعلمة، فهذا واضح جدًا في أهمية العلم.

بناء الدين من أوله إلى آخره قائم على العلم.


أنواع العلم

العلم نوعان كما ذكرنا منذ قليل: علم شرعي، وعلم حياتي.

وهذه العلوم الشرعية والحياتية تنقسم بدورها إلى نوعين: علم فرض عين، وعلم فرض كفاية.

فرض عين، أي: يتعين على المسلم أن يعرفه، وفي بعض العلوم الشرعية يتعين علينا جميعًا أن نعرفها، يتعين علينا جميعًا أن نعتقد في الله اعتقادًا صحيحًا، وأن نعلم أنه قادر وحكيم وخبير، وأن نعلم أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد بُعث بالحق، وقد بلغ عن ربه وما كتم شيئًا، وأن نعلم كيف نصلي وكيف نصوم وكيف نزكي، وما الذي ينقض صلاتنا، وما الذي ينقض صيامنا، وما الذي يجعل زكاتنا غير متقبلة أو غير صحيحة، وما الذي يجب أن نعرفه في أمور العمرة والحج لمن يعتمر أو يحج، وأمور الحلال والحرام، وبعض الدقائق لبعض المتخصصين.

فمثلًا: لو أنك تاجر لا بد أن تعرف فقه التجارة؛ حتى لا تقع في حرام وأنت لا تعرف، ولو أنك طبيب لا بد أن تعرف فقه الطب الذي تعالج به؛ لئلا تضع المريض في حرج شرعي وأنت لا تعلم.. وهكذا، هنا فرض عين على بعض المسلمين الذي إذا تخصص في مجال لا بد أن يُبدع فيه.

أما فرض الكفاية فهو إن قام به بعض أفراد الأمة كفى عن الآخرين، وعلى سبيل المثال: الهندسة فرض كفاية، لا بد للأمة أن تُخرج من أبنائها عددًا من المهندسين يكفون حاجتها، إن أخرجت الأمة هذا العدد رُفع الإثم عن الأمة ونجت في هذه النقطة، وإن نقص عدد المهندسين في البلد المسلم أثم الجميع، حتى يُخرج العدد الكافي للبلد.. وبهذا المفهوم ما أكثر الآثام التي توضع على أكتافنا؛ لأننا أحيانًا نفكر في العلوم كعلوم شرعية فقط، مع أن العلوم الحياتية لا بد أن توضع في الصورة مع العلوم الشرعية، وسنفرد لها بإذن الله محاضرة خاصة.

الشاهد من الأمر أنه يتعين عليك نوعان من العلوم: علم عام لا بد أن يعرفه الجميع، وعلم خاص في مجال تخصصك، من هذا المنطلق لا يستقيم لطالب أن يكون فاشلًا في مجاله وهو يطلب العلو والسمو لأمة الإسلام، ويدعو الله مبتهلًا أن تُرفع الغمة، وأن يُرفع الاحتلال وأن تسود الأمة ويُحكم بالقرآن، ثم هو متخلف في مجال صنعته ومهنته، أو في علمه الذي وكّل به.

فهذا العلم فرض عين عليه في هذا الوقت، فالمهندس لا بد أن يكون عالمًا بهندسته، والكيميائي كذلك، والمدرس كذلك، والطبيب كذلك، وكل مهنة إن كنت ضعيفًا فيها فأنت من أسباب ضعف الأمة بصفة عامة، وأنت آثم تحمل إثمًا كبيرًا بحجم التقصير الذي قصّرت فيه.

وإن فشلت الأمة كما ذكرنا في إخراج العلماء الذين يكفون حاجتها أثمت الأمة بكاملها، وتخلفت عن ركب الحضارة، وقادها غيرها ووقعت في الأزمات والمشاكل، وسقطت من عيون الآخرين، فانتهكوا حرماتها واحتلوا أراضيها، وسلبوا ثرواتها، وضاعت الأمم بين أقدام الغزاة.

هذه الدروس ليست دروس موعظة، ولكنها دروس بناء للأمة، تحتاج أن تأخذ المعلومة وتنطلق للعمل بسرعة، فالموت يأتي بغتة، ولو ضاع من العمر قبل ذلك عشر أو عشرون أو ثلاثون سنة في غير علم فابدأ الآن في مجال تخصصك، وليس هناك شيء اسمه انتهى من البكالوريوس ووقف عند ذلك، هناك شيء اسمه دراسات عليا، هناك ماجستير ودكتوراه وتفوق وإبداع، وهناك سبق واختراع، وهناك قيادة للآخرين، تذكروا قصة الدنمارك والمقاطعة مع الدنمارك وجميعنا قاطع الدنمارك والحمد لله، لكن الدنمارك تصنع جبنًا وزبدة، وليس من المشكلة أن نقاطعها فعندنا بدائل كثيرة، كنت قد سألتكم سؤالًا: ماذا لو كانت الصور التي رُسم فيها حبيبنا صلى الله عليه وسلم ظهرت في مجلات وجرائد الصين؟ من كان يجرؤ على رفع شعار: فلنقاطع الصين؟ صعب جدًا.

فحياتنا معتمدة على الصين الآن، وكل شيء من الصين في هذا الوقت، حتى فوانيس رمضان -وكل سنة وأنتم طيبون- تأتي من الصين، وبأغانيها الإسلامية، السجاد من الصين وعليها كتابات إسلامية، ساعة الأذان من الصين، يقول أحدهم وهو يتكلم بجدية: الحمد لله أن الله سخّرهم لنا، فهم يصنعون لنا كل شيء! وهو سعيد بهذا أيضًا، أقول: هذا ضعف شديد في الفهم، فهو أيضًا عندما يصنع لك هذا، فإنه يصنع سلاحًا وأنت لا تصنع، ويصنع كمبيوترًا وأنت لا تصنع، ويصنع طائرة وأنت لا تصنع، ما الذي ستفعله لو قاطعك هو؟!

إذًا: فالذي نعطيه للبشرية كلها هو العلم، ونعلو فوق البشرية ونقودها بهذا العلم، وعلمنا خير للدنيا جميعًا، وسنتعرض لتاريخنا العلمي إن شاء الله في غضون هذه المحاضرات، وستعرفون كيف سادت أمة الإسلام العالم أجمع بالعلم أولًا، وهناك عوامل كثيرة، لكن لا بد من العلم.

وخلاصة القول في هذه المحاضرة: أن الأساس الأول الذي بُنيت عليه أمة الإسلام، والذي بُنيت عليه الأمم الأخرى في زماننا وفي الأزمان السابقة هو أساس العلم، وبغيره لا تقوم أمة، ونتميز نحن المسلمين بأن عندنا العلم الحياتي نعظّمه ونجلّه، وكذلك العلم الشرعي الذي أوحى به ربنا سبحانه وتعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ونزل في كتاب الله عز وجل وفي سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فهذا تفتقده الأمم الأخرى، فتجد معايير الأخلاق والعقيدة والآداب عندهم مختلة بينما عندنا صحيحة، فنحن نتساوى معهم في العلوم الحياتية إن أردنا، لكننا نسبقهم وبمراحل لا مقارنة بيننا وبينهم في علوم العقيدة والأخلاق، وفي علوم فقه طبيعة الحياة وطبيعة الآخرة.

إذًا: في أيدينا أن نكون أسبق الناس أجمعين، وفي أيدينا وسيلة لفلاحنا في الدنيا وفلاحنا في الآخرة: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة).

أسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يستعملنا لدينه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا على الخير دائمًا، "فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" [غافر:44].

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#كيف-تصبح-عالما
اقرأ أيضا
حدود الواقع وتجاوزها | مرابط
فكر مقالات

حدود الواقع وتجاوزها


إن حدود واقعك في الديمقراطية ستكون محصورة في الدائرة الآتية: تشكيل أحزاب ولوج العملية السياسية والغوص فيها تقديم تنازلات وعقد تحالفات تعزز فرصتك كمرشح يرضى عنه مجلس شورى الحكم العالمي الوصول لهيئة مجلس الشورى فالبقاء لسنوات أربع لا بد أن تبدي فيهم الأدب والطاعة كي يتم التجديد لك ثم تخرج لتفسح المجال لغيرك بعد انتهاء مدتك

بقلم: عمرو عبد العزيز
2082
خير أمة | مرابط
اقتباسات وقطوف

خير أمة


خص الله الأمة الإسلامية بكثير من الخصائص والمميزات فهم خير أمة أخرجت للناس أتباع النبي الخاتم الذي لن يأتي بعده نبي آخر ولهذا عصمهم الله من الاجتماع على الضلال وجعلهم شهداء على الناس وخصهم بالرواية والإسناد وحفظ الذكر الذي نزله وغير ذلك وهذا مقتطف لشيخ الإسلام ابن تيمية يتحدث عن الأمر

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
1846
اهضم مبدعا | مرابط
فكر ثقافة

اهضم مبدعا


هناك فكرة جميلة يسمونها في الغرب اسرق مبدعا وليس معنى ذلك أن تسطو على أعماله وتنسبها لنفسك وإنما معناه أن تقصد إلى نتاج مبدع في مجاله وفنه وتعكف عليه عكوف المتبتل لا تدير وجهك عنه حتى تتشربه وتقف عليه وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه حتى تهضمه ويسلس لك قياد أعماله.

بقلم: د. طلال من فواز الحسان
350
فرية ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر: رد على عدنان إبراهيم ج1 | مرابط
أباطيل وشبهات

فرية ضرب عثمان بن عفان لعمار بن ياسر: رد على عدنان إبراهيم ج1


ادعى الدكتور عدنان أن عثمان بن عفان رضي الله عنه ضرب عمار بن ياسر رضي الله عنه بقدمه في محاشه أي عورته حتى كان عمار لا يحتبس بوله واستدل على ذلك بما رواه ابن شيبة في تاريخ المدينة الجزء الثالث وطبعا نعلم جميعا ما لدى الدكتور عدنان من خلط وحقد يمرره بشكل ناعم في حلقاته وفي هذا المقال يناقش أبو عمر الباحث هذه الشبهة ويرد عليها

بقلم: أبو عمر الباحث
4604
تجربة محاكم التفتيش الأوروبية على الشواطئ الإسلامية | مرابط
تاريخ

تجربة محاكم التفتيش الأوروبية على الشواطئ الإسلامية


شكلت المكائد الأوروبية للنيل من المسلمين والتنكيل بهم وتهجيرهم من الأندلس بداية موجة صليبية ثانية بعد الموجة الصليبية الأولى التي شنتها على بلاد الشام ومصر القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين فحقد الإسبان والبابوية على المسلمين والرغبة في الانتقام منهم في الأندلس بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس عام 1492م جعلهم يؤسسون ما سمي في الأدبيات التاريخية بمحاكم التفتيش التي حاولوا نقل تجربتها من مدن الأندلس إلى شواطئ شمال إفريقيا المسلمة في المراحل اللاحقة فما هي محاكم التفتيش

بقلم: علي محمد الصلابي
2286
الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج4 | مرابط
أبحاث الليبرالية

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج4


المراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي ووقف على أبرز محطاته وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة أزمة في المصطلح وأزمة في الخلفيات الفلسفية وأزمة في السلوكيات اليومية وأزمة في الالتزام بالقيم وأزمة في الاتساق مع المبادئ وأزمة في الاطراد وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطع...

بقلم: سلطان العميري
1499