تأملت حالًا عجيبة، وهي أن الله سبحانة وتعالى قد بنى هذه الأجسام متقنة على قانون الحكمة، فدل بذلك المصنوع على كمال قدرته، ولطيف حكمته.
ثم عاد فنقضها، فتحيرت العقول بعد إذعانها له بالحكمة في سر ذلك بالفعل؟! فأعلمت أنها ستعاد للمعاد، وأن هذه البنية لم تخلق إلا لتجوز في مجاز المعرفة، وتتجر في موسم المعاملة. فسكنت العقول لذلك.
ثم رأيت أشياء من هذا الجنس أظرف منه: مثل اخترام شاب ما بلغ بعض المقصود بنيانه! وأعجب من ذلك أخذ طفل من أكف أبويه، يتململان١، ولا يظهر سر سلبه، والله الغني عن أخذه، وهما أشد الخلق فقرًا إلى بقائه! وأظرف منه إبقاء هرم، لا يدري معنة البقاء، وليس له فيه إلا مجرد أذى! ومن هذا الجنس تقتير الرزق على المؤمن الحكيم، وتوسعته على الكافر الأحمق. وفي نظائر لهذه المذكورات يتحير العقل في تعليلها فيبقى مبهوتًا.
فلمْ أزلْ أتلمحُ جملة التكاليف، فإذا عجزت قوى العقل عن الاطاع على حكمة ذلك، وقد ثبت لها حكمة الفاعل، علمت قصورها عن درك جميع الملطوب، فأذعنت مقرة بالعجز، وبذلك تؤدي مفروض تكليفها.
ولَوْ قِيلَ لِلْعقْلِ: قد ثبت عندك حكمة الخالق بما بنى، أفيجوز أن ينقدح (1) في حكمته أنه نقض؟ لقال: لا؛ لأني عرفت بالبرهان أنه حكيم، وأنا أعجز عن إدراك علل حكمته، فأسلم على رغمي، مقرًّا بعجزي (2).
المصدر:
ابن الجوزي، صيد الخاطر ص60
الإشارات المرجعية:
1- الخطاب للعقل فينبغي أن تكون الكلمة: تقدح.
2- انظر: رسالة الاحتجاج بالقدر لابن تيمية رحمه الله.