إن خير ما يتدارسه المسلمون، ولا سيما الناشئون والمتعلمون، ويعنى به الباحثون والكاتبون دراسة السيرة المحمدية؛ إذ هي خير معلّم ومثقّف، ومهذب ومؤدب، واصل مدرسة تخرّج فيها الرعيل الأول من المسلمين والمسلمات، الذين قلّما تجود الدنيا بأمثالهم.
ففيها ما ينشده المسلم، وطالب الكمال من دين، ودنيا، وإيمان واعتقاد، وعلم، وعمل، واداب وأخلاق، وسياسة وكياسة، وإمامة وقيادة، وعدل ورحمة، وبطولة وكفاح، وجهاد واستشهاد، في سبيل العقيدة والشريعة، والمثل الإنسانية الرفيعة، والقيم الخلقية الفاضلة.
ولقد كانت السيرة النبوية مدرسة تخرج فيها أمثل النماذج البشرية، وهم الصحابة- رضوان الله عليهم- فكان منهم الخليفة الراشد، والقائد المحنك، والبطل المغوار، والسياسي الداهية، والعبقري الملهم، والعالم العامل، والفقيه البارع، والعاقل الحازم، والحكيم الذي تتفجر من قلبه ينابيع العلم والحكمة، والتاجر الذي يحول رمال الصحراء ذهبا، والزارع والصانع اللذان يريان في العمل عبادة، والكادح الذي يرى في الاحتطاب «١» عملا شريفا يترفع به عن التكفف والتسول، والغني الشاكر الذي يرى نفسه مستخلفا في هذا المال ينفقه في الخير والمصلحة العامة، والفقير الصابر الذي يحسبه من لا يعلم حاله غنيا من التعفف، وكل ذلك كان من ثمرات الإيمان بالله، وبرسول الله، وبهذا كانوا الأمة الوسط، وكانوا خير أمة أخرجت للناس!!
لقد كان السلف الصالح من هذه الأمة الإسلامية يدركون ما لسيرة خاتم الأنبياء، وسير الصحابة النبلاء، من اثار حسنة في تربية النشء، وتنشئة جيل صالح لحمل رسالة الإسلام، والتضحية في سبيلها بالنفس والمال، فمن ثمّ كانوا يتدارسون السيرة، ويحفظونها، ويلقنونها للغلمان كما يلقنونهم السور من القران، روي عن زين العابدين علي بن الحسين- رضي الله تعالى عنهما- قال: «كنا نعلّم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نعلّم السورة من القران» «٢» .
وهذا هو الإمام الزهري عالم الحجاز والشام وهو من قدماء من عنوا بجمع السيرة، بل قيل إن سيرته أول سيرة ألفت في الإسلام «٣» ، يقول: «في علم السيرة علم الدنيا والاخرة» «٤» ، وإنها لكلمة صدق وحق، وروي عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- قال: «كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني هذه شرف ابائكم، فلا تضيعوا ذكرها» «٥» نعم- والله- إنها لشرف الاباء، والمدرسة التي يتربى فيها الأبناء!!
فما أجدر المسلمين في حاضرهم: رجالا ونساء، وشبابا وشيبا أن يتعلموها ويعلموها غيرهم، ويتخذوا منها نبراسا يسيرون على ضوئه في تربية الأبناء، والبنات، وتنشئة جيل يؤمن بالله ورسوله، ويؤمن بالإسلام، وصلاحيته لكل زمان ومكان، والتضحية بكل شيء في سبيل سيادته وانتشاره، لا يثنيهم عن هذه الغاية الشريفة بلاء وإيذاء، أو إطماع وإغراء.
لسنا نريد من دراسة السيرة العطرة: سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسير الرعيل الأول وهم الصحابة الكرام، أن تكون مادة علمية يجوز بها طلاب العلم في المعاهد، والمدارس، والجامعات الامتحان أو الحصول على الإجازات العلمية أو أن تكون حصيلة علمية نتفيهق بها، ونتشدّق في المحافل والنوادي، وقاعات البحث والدرس، وفي المساجد، والمجامع، كي نحظى بالذكر والثناء، وننتزع من السامعين مظاهر الرضا والإعجاب.
ولكنا نريد من هذه الدراسة أن تكون مدرسة نتخرج فيها، كما تخرج السادة الأولون، وأن نكون مثلا صادقة لصاحب الرسالة صلّى الله عليه وسلّم، وصحابته الكرام عليهم الرضوان- في إيمانهم وعقيدتهم، وفي علمهم وعملهم، وأخلاقهم وسلوكهم، وسياستهم وقيادتهم حتى يعتز بنا الإسلام، كما اعتز بهم، ونكون في حاضرنا- كما كانوا- خير أمة أخرجت للناس.
المصدر:
محمد أبو شهبة، السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة