لا تكن إقصائيا

لا تكن إقصائيا | مرابط

تعد لفظة الإقصاء من الألفاظ الذميمة في ثقافتنا المعاصرة، فتراها تتوارد على الألسنة في سياقات متعددة وصياغات كثيرة تكشف عن نفور الناس منها، وهي سياقات تشترك في التحذير من هذه الممارسة، وذم أصحابها، مع الدعوة إلى ما يقابلها من مفاهيم التسامح والانفتاح وسعة الصدر وتقبل الآخر وغيرها.

 

الإشكالية في هذه المقولة أنها تتسم بقدر عال من الإجمال يستدعي شيئًا من التفتيش في تفاصيلها الداخلية، فهي من جهة قد تعبر عن معنى مقبول صحيح، كالدعوة إلى اتساع الصدر للخلاف المعتبر، والاستماع لوجهات النظر المختلفة في القضايا ذات الخلاف المحتمل، أو الرفق وحسن التعامل مع المخالف، أو التعاطفي الموضوعي معه، والذي يضمن السلامة من أي بغي أو ظلم أو فجور في الخصومة.

 

الإقصاء في ميزان الإسلام

 

لكن تبقى مساحة من هذه المفهوم لا تزال مشكلة، وهي مساحة تتخفى في عباءة مقولة ذات إيحاءات سلبية فتلقي بظلالها السلبية على معان قد تكون حقا، وقد يكون في إقصائها أمارة على انحراف فكري ما.

 

فالإقصاء يعبر عن إبعاد وإزاحة لفكرة أو شخص أو مذهب ما، فنفي الإقصاء مطلقا يحتم في تصوره الكامل تبني الحياد مع الأفكار جميعًا، واحترامها وتقبلها والتسامح معها.. وهذا مشكل جدا في التصور الإسلامي الذي يقوم على وجود أصول محكمة وقطعيات، فيحكم على ما يخالفها بأنه باطل وضلال، ويرتب على كلٍّ ما يناسبه من الأحكام في الدنيا والآخرة، فالإسلام هو دين الحق، وما يخالفه من الأديان أديان باطلة "إن الدين عند الله الإسلام" "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه"

 

كما أن بعض الأفكار المنتسبة إلى الإسلام مخالفة لأصول شرعية قطعية، ككثير من مقولات الفرق البدعية المصادمة لأصول الإسلام، أو بعض الآراء المصادمة لقطعيات الشريعة، فالفكرة لا تكون حقا أو تتحول لرأي مقبول لمجرد أن صاحبها مسلم أو ينتسب غلى الإسلام أو يزعم نسبة فكرته إليه بل المحكم في هذا الدليل والبرهان.

 

فلا بد من الوعي بخطورة تمدد النفور النفسي من الإقصاء في الثقافة العصرية لئلا يتحول إلى نفور من بعض أحكام الشريعة نفسها فيكون هذا النفور النفسي حاكما على الشريعة من حيث لا يشعر.

 

ومن تلك المقررات الشرعية التي قد تتأثر بهذه النفسية الواقعة تحت ضغط النفرة من الإقصاء:

 

1- الحكم ببطلان ما يخالف الإسلام وينافي قطعياته، وهو حكم له حضوره في الدنيا بتسمية هذه الأفكار أسمائها الحقيقة من كفر أو فسق أو ظلم أو فجور أو فاحشة وغير ذلك، وفي الآخرة باعتقاد ما يترتب عليها من جزاء مستحق شرعًا.
 
2- إقامة العقوبات المستحقة المقررة شرعًا، فالشريعة قد فرضت عقوبات على ما يخالف أحكامها، كعقوبة الزنا، وشرب الخمر، والقذف، وحد الردة، ونحو ذلك، ولا يصح أن تسقط مثل هذه العقوبات أو ينفر منها بسبب حالة النفور من الإقصاء.
 
3- عدم مشروعية الدعوة إلى الأفكار المصادمة لأصول الإسلام، فلا مساواة في النظر الشرعي بين الحق والباطل، وليس من الإقصاء في شيء أن نحفظ ديننا فنمنع من نشر ما يضاد أصوله لأنه من المنكر الذي يجب النهي عنه.

 

يقول بعضهم: لا إشكال في أن تحكم ببطلان ما تراه باطلًا، وأن تبدي مع ذلك تسامحا مع الاعتقادات المخالفة لمعتقدك، فاعتقادك لبطلان رأي يظل رأيك، وللآخرين حرية أن يعتقدوا ما شاؤوا.

 

والجواب: أن محل التأكيد هنا ليس على أحقية المسلم بأن يقول: وجهة نظري أنني على حق، بل الواجب عليه في ظل مساحات الإسلام المحكمة أن يقطع ويجزم بأنه على الحق، وأن يكون مستيقنًا من ذلك، وأن يجزم أيضًا ببطلان أقوال مخالفيه، وهذا القطع بالحق يتجاوز في الحقيقة مجرد الاعتقاد الذاتي، بل يترتب عليه آثار عملية كثيرة كما سبق.

 

تضخم مفهوم الإقصاء وأثره على الإنسان

 

مع أن واقع الحال بأن من يتضخم عنده مفهوم الإقصاء، وتتشرب نفسه النفور الشديد منه، فإن الأمر سيؤول به إلى ضياع الجزم بالحق، وستجده وإن كان مسلما مصليا صائمًا يخجل من الجزم بأن هذا هو الحق القطعي الذي لا ريب فيه، ويستحي من بيان كفر من لم يؤمن بالإسلام، وأن ما هم عليه باطل، مع أن هذا من حيث هو لا يعارض الأصل الليبرالي، لأنه من الحرية الفكرية المتاحة، لكن هذه المقولات الفاسدة تنخر في روح الإنسان فتهشم من ثقته وتكسر من اعتزازه فيخجل مما ليس فيه جحل حتى وفق معيار المنظومة الفكرية الباطلة.

 

والحق أن الأمر هنا يتجاوز مجرد الإشكال الشرعي ووجوب القطع فيما كان قطعيا من شأن الدين، فإن طرد هذه الفكرة وإبداء مثل هذه المرونة العالية مع جميع الأفكار سيجر صاحبها إلى لون من السفسطة الفكرية والأخلاقية، فثم ضروريات عقلية وأخلاقية لا تقبل التشكيك، فمطالبات نبذ الإقصاء في مثل هذه المساحات غير مقدور عليها فكريًا وخلقيًا، وصاحبها وإن كان واقع في السفسطة والمغالطة.

 

وهذا يكشف عن إشكالية هذه المقولة، وأنها لا تقبل الاطراد، خلافا لما يتوهمه أصحابها، حين يستعملونها وكأنها حجة ذاتية تمنع من رد الأفكار وصدها، فهناك حدود سيتبناها الشخص يقينًا، وسيضطر حينها لأن يكون إقصائيًا في مجالات معينة، وبه ينكشف أن مشكلة أكثر من يطالب بعدم ممارسة الإقصاء لمن يعارض محكمات الشريعة، هي في ضمور هذه المحكمات في نفسه، ونزولها في الرتبة عما يجب لها، ولو استحضر أنها من قبيل الضروريات الدينية، لما تنازل عما يجب لها من الجزم بصوابها واعتقاد صحتها، والحكم ببطلان ما يخالفها.

 


 

المصدر:

  1. عبد الله بن صالح العجيري وفهد بن صالح العجلان، زخرف القول: معالجة لأبرز المقولات المؤسسة للانحراف الفكري المعاصر، ص303
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.
اقرأ أيضا
المبتدعة يعتقدون البدع دينا | مرابط
تفريغات

المبتدعة يعتقدون البدع دينا


المبتدع يعتقد أن البدعة دين لذلك فنحن نحجر على الطرق الصوفية بكل قوة فهي ضاربة في ظهور المسلمين منذ ظهرت الدولة الفاطمية إنهم يتكئون على هؤلاء المخرفين في تحقيق مآربهم بالشبه التي لا يعتمد عليها إطلاقا دعوه يتكلم إن المجلة هذه تستمر وهي تحرف عقائد المسلمين وتستهدف الأخيار الأبرار من المسلمين

بقلم: أبو إسحق الحويني
807
مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج1 | مرابط
مناظرات

مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية للأحمدية ج1


أما بعد.. فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس أي بعد السبعمائة لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه. فإن من كان غائبا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع

بقلم: شيخ الإسلام ابن تيمية
589
بين مقام الشك ومقام اليقين | مرابط
اقتباسات وقطوف

بين مقام الشك ومقام اليقين


ما أكثر ما نجد في الكتب الفكرية من يفخم شأن الشك وعدم الحسم ويقزم اليقين واليقينيات بل ويطالبون أن يتخلص الخطاب الديني من اليقين ولذلك تجدهم يكثرون من ترداد مقولة إلى المزيد من طرح الأسئلة فيفرحون بالأسئلة ولا يكترثون كثيرا بحسم الإجابات

بقلم: إبراهيم السكران
552
أعمال الاستعمار | مرابط
تاريخ مقالات

أعمال الاستعمار


وخلال تاريخ الحركة الاستعمارية الغربية للعالم الإسلامي وبقية المستعمرات أظهر المستعمر الغربي صورا قاتمة كالحة ملؤها الظلم والقهر والاستغلال فعلى الصعيد الإنساني ارتكب المستعمرون مجازر بحق الشعوب التي قامت تدافع عن دينها وخيراتها فقد بلغت أعداد قتلى المسلمين في الهند حتى عام 1880م مليون مسلم سقطوا على يد الإنجليز ومثله كانت الجزائر بلد المليون شهيد

بقلم: منقذ السقار
640
شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية 2 | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات المرأة

شبهات حول الحجاب: الحجاب شريعة رجعية 2


كثيرا ما طرق آذان المسلمات قول صارخ منتفش ودعوى فجة مغرورة أن مطالبة المرأة العربية بارتداء الحجاب في القرن الواحد والعشرين حيث تطور العالم وبلغ في ابتكاراته العلمية الذروة وتطور المجتمع وأصبح أكثر انفتاحا ونضجا لهو دعوة صريحة إلى الانتكاس والعودة إلى القرون الوسطى عصور الظلام

بقلم: سامي عامري
921
آثار مفهوم النسوية على الأديان ج2 | مرابط
النسوية

آثار مفهوم النسوية على الأديان ج2


آثار مفهوم النسوية في مجالات الدين الإسلامي لقد ظهر تأثر النسوية العربية والإسلامية بالنسوية الغربية جليا واضحا في دعوتها إلى التعامل مع القرآن الكريم بنفس الآليات التي تعاملت فيها النسوية الغربية مع الكتاب المقدس

بقلم: أمل بنت ناصر الخريف
624