لا يأمن البلاء من يأمن البلاء

لا يأمن البلاء من يأمن البلاء | مرابط

الكاتب: محمود خطاب

509 مشاهدة

تم النشر منذ سنة

من الوهم أن يظن الإنسان في نفسه عصمة؛ كأن يرى أنه أكبر من الزلل وأكبر من أن يُفتن في دينه طالما معه شيء من الإيمان = فيزج بنفسه إلى مواطن ومواضع الشبهات مغترًا غير آبهٍ بزلل أو ضعفه الذي خُلق عليه! “يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا”
يقول السعدي، رحمه الله: وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه، ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف الإيمان، وضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه، ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته.

تأمل هذا الكلام مثلا:

ثم هذه الصورة المتوهمة عن المرأة المسلمة التي ترفعها إلى منزلة الملائكة = هي محض وهم! .. هذه ليست شجاعة، إنه جهل مدقع بطبيعة القلوب والنفوس! ودليل ذلك أن تتأمل في حال السلف الصالح، وحال الرسول نفسه، صلى الله عليه وسلم!

من الدين الفرار من الفتن

لك أن تتخيل أن أرسخ الناس وأكملهم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كان يتعوذ من فتنة المحيا والممات، ويقول أنس بن مالك: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُكثرُ أن يقولَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك. فقلت: يا نبيَّ اللهِ آمنَّا بك وبما جئتَ به فهل تخافُ علينا؟ قال: نعم إن القلوبَ بينَ إصبعينِ من أصابعِ اللهِ يُقلِّبُها كيفَ يشاءُ

وتأمل ما قرره ابن قدامة المقدسي، رحمه الله، من أن المرأة تتيمم إذا كان بينها وبين الماء فسّاق.. قال:
ولو كان الماء بمجمع الفساق، تخاف المرأة على نفسها منهم، فهي عادمته..، بل لا يحل لها المضي إلى الماء؛ لما فيه من التعرض للزنا، وهتك نفسها وعرضها، وتنكيس رءوس أهلها، وربما أفضى إلى قتلها، وقد أبيح لها التيمم حفظا للقليل من مالها، المباح لها بذله، وحفظا لنفسها من مرض أو تباطؤ برء، فهاهنا أولى (1)

لم يقل ابن قدامة رحمه الله، أن المرأة المؤمنة لا يُخشى عليها أن تلج إلى مواقع الفساق لتتوضأ ثم تعود فقط! وأنها لا يُخشى عليها طالما أنها مؤمنة راسخة العقيدة.. بل لم يفصل ويقل أن الأمر مباح إن كانت تعرف في نفسها إيمانا وأنه لا يجوز إن كانت ضعيفة الإيمان.. بل قال قولًا واحدًا فقط، لا يجوز لها، وفقط تتيمم! وهذا هو منهاج السلف: الفرار من مواطن الفتن. وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه “من الدين الفرار من الفتن

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن إبراهيم التيمي قال: من يأمن البلاء بعد قول إبراهيم "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام"؟(2)

فأي أمن يأمنه المسلم على نفسه من الفتن بعد هذا؟
هذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يلحّ في الدعاء بأن يثبت الله قلبه على الدين، وأن يعيذه من فتنة المحيا والممات ومن فتنة الدجال. وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يدعو الله بأن بجنّبه عبادة الأصنام وهو المعصوم!
فمن هذا الذي يأمن على نفسه فيلج إلى مواطن الفتن غير آبه؟ ومن تلك التي تحسب نفسها من الملائكة فترد مواضع الشبهات غير عابئة بأي شيء؟

يقول الله جل وعلا “وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا”، ثم يأتي من يقول: لا! بل المرأة الصالحة تأمن على نفسها ودينها ولا تزل ولا تُفتن حتى لو كانت في لاس فيجاس!

يقول ابن القيم حول الآية السابقة: قال طاووس ومقاتل وغيرهما: لا يصبر عن النساء. وقال الحسن: هو خلقه من ماء مهين، وقال الزجاج: ضعف عزمه عن قهر الهوى. والصواب أَن ضعفه يعم هذا كله، وضعفه أَعظم من هذا وأَكثر: فَإنه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم، ضعيف الصبر، والآفات إليه مع هذا الضعف أَسرع من السيل في الحدور. فبالاضطرار لا بد له من حافظ معين يقوّيه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المسعِد المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه! (3)

وتأمل ما يقوله هذا التابعي الجليل، أبو قلابة عبدالله بن زيد الجرمي: لا تُجالِسوا أهلَ الأهواء ولا تُجادلوهم؛ فإنِّي لا آمَن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يُلبِّسوا عليكم ما كنتم تعرفون.
لم يقل بجواز مجالسة أهل الأهواء إن كان إيمانك راسخًا، وأنه لا قلق عليك.. بل يرى عدم مجالستهم؛ فقد يُفتن المسلم أو يلبس عليه ما كان يعرف = فيَضِل!

بل تأمل ما قال ابن أبي مليكة: “أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل”
ثلاثون من الصحابة وهم الذين قد شرفوا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم جبال الإيمان والثبات كما تعرفون: يخافون على أنفسهم النفاق!

وعن جبير بن نفير قال: دخلت على أبي الدرداء رضي الله عنه منزله بحمص فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلما جلس يتشهد جعل يتعوذ بالله من النفاق، فلما انصرف قلت له: غفر الله لك يا أبا الدرداء، أما أنت والنفاق، ما شأنك وشأن النفاق؟! فقال: اللهم غفرا، (ثلاثا) لا يأمن البلاء من يأمن البلاء، والله إن الرجل ليفتن عن ساعة واحدة فيقلب عن دينه (4)

انظر عبارته الماتعة “لا يأمن البلاء من يأمن البلاء”.. فمن أمنت الفتنة على نفسها ودينها وأوردت نفسها مواطن الفتن والشهوات والشبهات: زلت وفُتنت!

ولو شككوا لشكوا!

وما سبق هو توضيح سريع لحال السلف وحال رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، في أمر ورود مواطن الفتن.. ثم لنسأل الآن، من منا أصلًا يملك إيمانا يعادل إيمان الصحابة الكرام؟ بل إن أصحاب هذه الفكرة المغلوطة غالبًا هم عوام الناس، وهم أصحاب إيمان مجمل، لم يصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد (ولو وصلوا لما قالوا مقالتهم تلك) فكيف هو حال عامة الناس؟

يقول ابن تيمية: فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك وإلا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين ولا إلى الجهاد ولو شككوا لشكوا ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا وليسوا كفارا ولا منافقين بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب ولا عندهم من قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة.

وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا إلى نوع من النفاق..، ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم عامة أهلها فلما جاءت المحنة والابتلاء نافق من نافق. فلو مات هؤلاء قبل الامتحان لماتوا على الإسلام ودخلوا الجنة ولم يكونوا من المؤمنين حقا الذين ابتلوا فظهر صدقهم. (5)

فتأمل عباراته "لا يصلون إلى اليقين" وقوله “لو شككوا لشكوا”، ثم كلامه عن المحنة التي امتُحن بها الناس: فنافق من نافق!، إلى آخر ما قاله؛ كل هذا يدل على أن هؤلاء معافون من الزلل والفتن بفضل الله، ولكنهم لو وردوا مواطن الشبهات والفتن = ربما لا يثبتون بما معهم من إيمان مجمل! ولو شككهم أحد في دينهم = لشكوا وانتقلوا إلى نوع من النفاق.
ويبدو والله أعلم أن هذا حال معظم المسلمين اليوم، ولا يعني هذا أن نعيبهم أو ننتقص منهم لأنهم لم يصلوا لدرجة أكبر من الإيمان، بل يعني أن يعرف كل مسلم قدره ويخاف على نفسه أن يزل ويسأل الله الثبات فقط!

والخلاصة من كل هذا أن المؤمن لا يزج بنفسه إلى مواطن الشبهات والفتن، ولا يورد نفسه مواضع الزلل ثم ينتظر ألا يزل!
والمعصوم = من عصمه الله من الوقوع.
والثابت = من ثبته الله جل وعلا.
والمهتدي = من هداه الله فقط.

أما الإنسان نفسه: فلا يملك لنفسه شيئًا ولا يملك من أمره شيئًا، والأمر كله لله وحده، يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.. ونسأله السلامة والنجاة وألا نزل أو نُفتن.. وأن يتوفانا مسلمين.


الإشارات المرجعية:

  1. ابن قدامة، المغني، ج1، ص151
  2. جلال الدين السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج8 ص556
  3. ابن القيم، طريق الهجرتين وباب السعادتين ص228
  4. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 182)
  5. شيخ الإسلام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج7
تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#الفتنة #الثبات #العصمة
اقرأ أيضا
إضاءات حول الأعراس وما يجري فيها | مرابط
أباطيل وشبهات مقالات

إضاءات حول الأعراس وما يجري فيها


واجب الشكر على كل رجل وامرأة وفقهما الله في مثل هذه الظروف إلى الزواج ولم الشمل يقتضي التذلل التام والانخلاع عن الحول والقوة وإظهار الفرح المشروع برحمة الله وعدم ارتكاب أي مخالفة مقصودة تعرض هذه الحياة الجديدة والزيجة لخطر مقت الله تعالى.

بقلم: محمد حشمت
504
من أدلة النبوة | مرابط
اقتباسات وقطوف

من أدلة النبوة


من ضمن أدلة النبوة التي ذكرها أشار إليها ابن القيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمضى فترة كبيرة من عمره في مكة وبين قومه ولم يروا منه كذبا ولا بهتانا ولم يخض هو في أمور النبوة ولا مرة ولا علم عنه من الطباع ما يوحي بتكذيبه وهذا مقتطف من كتاب الصواعق المرسلة يدور حول الأمر

بقلم: ابن القيم
2202
الإخلال بوقت الأذان | مرابط
تفريغات

الإخلال بوقت الأذان


من الناس من يؤذن قبل الوقت وخاصة في رمضان يؤذن بعضهم أذان الفجر الثاني قبل الوقت فإذا قلت له: لماذا قال لك: أذان على سبيل الاحتياط حتى يمسك الناس عن الأكل والسحور وهذا الاحتياط غلط بل لا مجال للاحتياط في هذا الباب

بقلم: سلمان العودة
427
الجنس الثالث | مرابط
المرأة

الجنس الثالث


وفي الوقت الذي يتجرع فيه الغرب آثار خروج المرأة على فطرتها ووظيفتها كان بعض كتابنا ومفكرينا ينادون بأن نأخذ في ذلك الطريق الذي انتهى بالغرب إلى ما هو فيه من مشاكل اجتماعية واقتصادية هزت دعائم مجتمعه هزا عنيفا أفقده استقراره واتزانه وعرض سلامته وكيانه لأشد الأخطار

بقلم: محمد محمد حسين
357
محاضن الفطرة.. غرائز الآباء | مرابط
اقتباسات وقطوف

محاضن الفطرة.. غرائز الآباء


أهم ما يقوي الفطرة السوية عند الأبناء غرائز وميول الآباء.. انتقاء الألفاظ والحياء والرحمة والصفاء النفسي وغيره مما ركب في نفس الأم السوية.. الشجاعة والكرم والمروءة والعدل ونحوه مما ركب في نفس الأب السوي.. محاضن الفطرة غرائز الآباء!

بقلم: محمد وفيق زين العابدين
438
فضل العشر الأوائل من ذي الحجة | مرابط
تعزيز اليقين

فضل العشر الأوائل من ذي الحجة


من مواسم الطاعة العظيمة العشر الأول من ذي الحجة التي فضلها الله تعالى على سائر أيام العام فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء أخرجه البخاري: 2457

بقلم: محمد صالح المنجد
3484