لماذا لم يخلق الله عالمنا بلا شر الجزء الأول

لماذا لم يخلق الله عالمنا بلا شر الجزء الأول | مرابط

الكاتب: د سامي عامري

2065 مشاهدة

تم النشر منذ 3 سنوات

"لو خُيّرت بين الألم واللاشيء، سأختار الألم"
وليليام فولكنر (نوبل للآداب 1949م)
 
"خبرتي مع الألم.. انشأت فيّ شعورًا بالإعجاب بالألم وتقديرًا له. أنا لا أرغب في حياة من غير ألم، ولا يمكنني حتى تصوّر ذلك"
الدكتور بول براند

 

تدور شبهة المشكك حول الزعم أن الإله الكامل في صفاته لا يمكن أن يصدر عنه غير عالم بلا شر وأن وجود الشر ناف لوجود إله خالق كامل، وهو بذلك يرى أن وجود هذا الشر مفسد لمعادلة هذا الكون المنظّم.
 
يثير هذا الاعتراض سؤالًا يقول: هل تؤدي إزالة الشرور إلى استواء عالمنا؟ ويختزن هذا السؤال في داخله أسئلة فرعيّة لا بدّ من بحثها:
 
ماذا يبقى من معنى الحياة بعد ذهاب الشر؟
ما غاية الحياة في عالم معصومين؟
ما شكل العالم بلا ألم؟

 

عندما يعطي الشر لحياتنا معنى

 

هل يستطيع الإنسان الأرضي أن يعيش من غير ألم؟ للإجابة على هذا السؤال نحتاج أن نسأل قبل ذلك إن كنّا نطيق أن نعيش بلا معنى.
 
إن بحث الإنسان عن معنى هو المحرك الأساسي لحياته، وليس هو عقلنة ثانوية لموجّهاته الغرائزية، فهو الذي يمدّه بزاد للسير في هذه الحياة والإحساس بحرارة الوجود. وقد عانى الغرب منذ النصف الثاني من القرن العشرين أزمة كبرى؛ أزمة الفراغ الوجودي، حيث فقد الوجود معناه، وأفرغ نفسه من جاذبية المدافعة والنجاح.
 
ومن أبسط مظاهر الفراغ الوجودي ما يسمى بعُصاب الأحد، حيث يكتشف المرء في نهاية الأسبوع بعد أيام صاخبة، عندما يخلو إلى نفسه أن حياته على الحقيقة خلو من المعنى؛ فكيف بحياة ينهسها عصاب الفراغ نهسًا أو نهشًا ؟ وفي هذا الجو العدمي تنبت أمراض الكآبة والإحباط وخواطر الرغبة في الانتحار.
 
لم تمر هذه الأزمة في خفاء؛ إذ هي الأزمة الكبرى المائجة الطاحنة، وهي ظاهرة في امتلاء المصحات النفسية بالمرضى وحالات الانتحار أو محاولات الانتحار، وأزمة الفردانية والسلبية الأسرية والمجتمعية.
 
وفي إحصائية أجرتها مؤسسة بحثية في جامعة هوبكنز مستقصية آراء 7948 طالب في 48 كلية في إجابة سؤال: ما هو أهم شيء بالنسبة إليهم؟ كانت إجابة 16%: تحصيلي قدر أكبر من المال، في حين اختار 78% القول: إن هدفهم الأول هو إيجاد هدف للحياة ومعنى لها، وهذا ما يعبر عنه وعي عميق مؤلف بأزمة العدمية.
 
وقد أسس عالم النفس فكتور فرنكل -صاحب الكتاب الذي بيعت منه ملايين النسخ "بحث الإنسان عن معنى" والذي عاش تجربة المحرقة النازية- مذهبًا جديدًا في علم النفس سماه "lOGOTHERAPY" أي المعالجة النفسية بالمعنى؛ إذ أنه قد اكتشف أن أكثر العلل النفسية في الغرب تعود إلى فقدان الإنسان معنى لحياته، وهو ما يجعله عاجزًا عن إيجاد دوافع جادة لمعايشة هذه الحياة وتحقيق استوائه النفسي، وهو بهذا المسلك العلاجي يحاول أن يجعل المريض يشعر بمعنى الحياة ومسؤوليته فيها.
 
ويخبرنا فكتور فرنكل أن الكشف عن معنى للحياة يكون بثلاث طرق، أحدها: اتخاذ موقف من معاناة لا سبيل لتجاوزها وذلك بتحويل المأساة إلى نصر، والمأزق إلى منجز إيجابي، وحتى عندما نكون عاجزين عن تغيير الواقع، نسعى إلى تغيير أنفسنا.
 
إن الألم هو إذن عنصر أصيل في حياة سليمة وقلب معافى من البرود القاتل؛ فبه يجد الإنسان حوافز في داخله للاستمتاع بلحظات الوجود أو الإحساس بها ومغالبتها، ففي غيبة الإحساس باللحظة، أو الرغبة في تحقيق نصر على شر فيها، تهمد رغبتنا في البقاء وتتهاوى قدرتنا على الصمود.
 
إن هذه الحياة الدنيا بلا ألم غير قابلة لأن تعاش لأنها بلا دلالة تتجاوز الأنفاس الصاعدة الهابطة، وبعبارة (س. إس. لويس): حاول أن تستبعد إمكانية الألم المتضمن في نظام الطبيعة ووجود الإرادات الحرة، وستجد أنك قد استبعدت الحياة نفسها

 

لماذا لم يخلق الله عالمنا من الطيبين فقط؟

 

يتكرر على لسان المعترضين تساؤل مهم، وهو: لِم لم يخلق الله عالمًا خلوًّا من الشر، البشر فيه أحرار لكنّهم لا يأتون الشرّ وإنما يلتزمون العمل الصالح وينأون عن الشرور والمفاسد؟
 
والجواب هو فيه قوله تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أجمعين"
 
قال المفسر ابن عاشور "وأما تعقيبه بقوله "ولذلك خلقهم" فهو تأكيد بمضمون "ولا يزالون مختلفين" والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله "مختلفين" واللّام للتعليل لأنه لما خلقهم على جبلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدا لمقتضى تلك الجبلة وعالما به... كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم، والعلة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل"(1)
 
فالله سبحانه قد خلق الناس بقدرات وملكات تقتضي ألا يكونوا كلّهم مصيبين وألا يكونوا كلّهم مخطئين؛ فقد ركّز في فطرهم معرفة الحق، ثم أسلمهم إلى ما يختارون من حق وباطل؛ ولذلك ظهر الفساد والكفر (وهو أقصى الشر) من فريق منهم. فليس في حساب الله سبحانه أن يخلق عالما بلا شر، وإنما اختار لخلقهم هذه الطبيعة في هذا العالم؛ ﻷنه يريد ذلك، فـ "الحكمة التي أقيم عليها نظام هذا العالم اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلا للتطوّح بهم في مسلك الضلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلالة"(2)
 
وليس الأمر كما يظن فلاسفة مدرسة Process Theology الذين ذهبوا إلى أن الرب الخالق ليس كُلي القدرة، في سبيل التوفيق بين وجود الله ووجو دالشر! إن الله سبحانه لم يخلق الناس ليصيبوا الحق في كل أمرهم ولم يرد للوجود أن يكون براء من الشر، وإنما رضي للشر أن يكون أحد حقائق الحياة التي على الناس أن يصطرعوا معها، فينجو من يصرعها ويهلك من تصرعه.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير 190/12
  2. المصدر السابق 187/12

 

المصدر:

  1. د. سامي عامري، مشكلة الشر ووجود الله، ص199
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مشكلة-الشر
اقرأ أيضا
بيان سنن الله في الكون | مرابط
تاريخ تفريغات

بيان سنن الله في الكون


هذا البيان الذي جاء من عند الله تعالى ببيان سننه وببيان المعادلة الواضحة بين الحق والباطل وبيان الفرق الشاسع بين أهل الجنة وأهل النار بيان أي: إيضاح يحتاج الناس إليه فهو علم من علم الله تعالى وهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك هذا بيان للناس.

بقلم: محمد الحسن الددو الشنقيطي
363
التسوية بين المرأة والرجل | مرابط
المرأة

التسوية بين المرأة والرجل


إن تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته. وذلك لأن الله جل وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني صلاحا لا يصلحه لها غيرها كالحمل والوضع والإرضاع وتربية الأولاد وخدمة البيت والقيام على شؤونه من طبخ وعجن وكنس ونحو ذلك.

بقلم: محمد الأمين الشنقيطي
399
شبح الحروب الصليبية الجزء الثالث | مرابط
تاريخ مقالات

شبح الحروب الصليبية الجزء الثالث


إن العالم الغربي اليوم لا يزال تائها تماما في إجلال الإنتاج الماضي وفي الاعتقاد أن الرفاهية الرفاهية وحدها إنما هي الهدف الذي يستحق أن يكدح الإنسان إليه إن مادية الغرب وجحوده للتوجيه الديني في التفكير يزدادان كل يوم قوة ولا ينقصان كما يظن بعض المتتبعين لهذه القضية من المسلمين المتفائلين

بقلم: محمد أسد
2107
مبدأ النبوة وادعاء النبوة | مرابط
تعزيز اليقين فكر مقالات

مبدأ النبوة وادعاء النبوة


إن حياة الأنبياء وتاريخهم يمنعاننا من أن نعدهم مؤمنين مندفعين دون تعقل وبكل بساطة إلى الخوارق والمعجزات أو أن نحكم بأنهم معتوهون بأصل خلقتهم اختلت عقولهم وبصائرهم بنقائص مزمنة فهم يمثلون -على العكس- الإنسان في أسمى حالات كماله البدني والخلقي والعقلي

بقلم: مالك بن نبي
674
حب الدنيا والجاه يصدان عن الحق | مرابط
اقتباسات وقطوف

حب الدنيا والجاه يصدان عن الحق


إن فتنة الدنيا وحب الجاه والرياسة من أعظم الأمراض التي تصيب القلب وتسيطر عليه وتصده عن الحق خوفا عليها وأملا في دوامها حتى لو كان الثمن هو الاستمرار في طريق الباطل وحتى لو كان الإنسان مقتنعا في داخله بأن الحق مع الآخر وهذا مقتطف من كتاب هداية الحيارى لابن القيم يتحدث عن مناظرته لبعض علماء النصارى وفيه بيان لهذا المرض الذي صدهم عن قبول الحق

بقلم: ابن قيم الجوزية
2483
حكم الزيادة في الدين | مرابط
تفريغات

حكم الزيادة في الدين


إن العبد إذا علم شر منقلب أهل البدع لم يلجأ إلى التأويل الذي تأوله أهل البدع إنما نريح أنفسنا بذكر هذه المقدمة لأن الموضوع إذا نوقش فيه بطريقة الجدل النظري لا نصل فيه إلى نتيجة إذا: لا بد من دخول المعنى الإيماني في المناقشة ليست المسألة نظرية بحتة كما يفعل أهل البدع في النقاش إنما نتكلم عن خير الهدي وخير الهدي من أعظم الخوارم فيه: البدع إذا: لا بد من دخول المعنى الإيماني أثناء المناقشة ولا يكون هذا إلا بذكر سوء منقلب أهل البدع

بقلم: أبو إسحق الحويني
783