لماذا لم يخلق الله عالمنا بلا شر الجزء الأول

لماذا لم يخلق الله عالمنا بلا شر الجزء الأول | مرابط

الكاتب: د سامي عامري

1967 مشاهدة

تم النشر منذ سنتين

"لو خُيّرت بين الألم واللاشيء، سأختار الألم"
وليليام فولكنر (نوبل للآداب 1949م)
 
"خبرتي مع الألم.. انشأت فيّ شعورًا بالإعجاب بالألم وتقديرًا له. أنا لا أرغب في حياة من غير ألم، ولا يمكنني حتى تصوّر ذلك"
الدكتور بول براند

 

تدور شبهة المشكك حول الزعم أن الإله الكامل في صفاته لا يمكن أن يصدر عنه غير عالم بلا شر وأن وجود الشر ناف لوجود إله خالق كامل، وهو بذلك يرى أن وجود هذا الشر مفسد لمعادلة هذا الكون المنظّم.
 
يثير هذا الاعتراض سؤالًا يقول: هل تؤدي إزالة الشرور إلى استواء عالمنا؟ ويختزن هذا السؤال في داخله أسئلة فرعيّة لا بدّ من بحثها:
 
ماذا يبقى من معنى الحياة بعد ذهاب الشر؟
ما غاية الحياة في عالم معصومين؟
ما شكل العالم بلا ألم؟

 

عندما يعطي الشر لحياتنا معنى

 

هل يستطيع الإنسان الأرضي أن يعيش من غير ألم؟ للإجابة على هذا السؤال نحتاج أن نسأل قبل ذلك إن كنّا نطيق أن نعيش بلا معنى.
 
إن بحث الإنسان عن معنى هو المحرك الأساسي لحياته، وليس هو عقلنة ثانوية لموجّهاته الغرائزية، فهو الذي يمدّه بزاد للسير في هذه الحياة والإحساس بحرارة الوجود. وقد عانى الغرب منذ النصف الثاني من القرن العشرين أزمة كبرى؛ أزمة الفراغ الوجودي، حيث فقد الوجود معناه، وأفرغ نفسه من جاذبية المدافعة والنجاح.
 
ومن أبسط مظاهر الفراغ الوجودي ما يسمى بعُصاب الأحد، حيث يكتشف المرء في نهاية الأسبوع بعد أيام صاخبة، عندما يخلو إلى نفسه أن حياته على الحقيقة خلو من المعنى؛ فكيف بحياة ينهسها عصاب الفراغ نهسًا أو نهشًا ؟ وفي هذا الجو العدمي تنبت أمراض الكآبة والإحباط وخواطر الرغبة في الانتحار.
 
لم تمر هذه الأزمة في خفاء؛ إذ هي الأزمة الكبرى المائجة الطاحنة، وهي ظاهرة في امتلاء المصحات النفسية بالمرضى وحالات الانتحار أو محاولات الانتحار، وأزمة الفردانية والسلبية الأسرية والمجتمعية.
 
وفي إحصائية أجرتها مؤسسة بحثية في جامعة هوبكنز مستقصية آراء 7948 طالب في 48 كلية في إجابة سؤال: ما هو أهم شيء بالنسبة إليهم؟ كانت إجابة 16%: تحصيلي قدر أكبر من المال، في حين اختار 78% القول: إن هدفهم الأول هو إيجاد هدف للحياة ومعنى لها، وهذا ما يعبر عنه وعي عميق مؤلف بأزمة العدمية.
 
وقد أسس عالم النفس فكتور فرنكل -صاحب الكتاب الذي بيعت منه ملايين النسخ "بحث الإنسان عن معنى" والذي عاش تجربة المحرقة النازية- مذهبًا جديدًا في علم النفس سماه "lOGOTHERAPY" أي المعالجة النفسية بالمعنى؛ إذ أنه قد اكتشف أن أكثر العلل النفسية في الغرب تعود إلى فقدان الإنسان معنى لحياته، وهو ما يجعله عاجزًا عن إيجاد دوافع جادة لمعايشة هذه الحياة وتحقيق استوائه النفسي، وهو بهذا المسلك العلاجي يحاول أن يجعل المريض يشعر بمعنى الحياة ومسؤوليته فيها.
 
ويخبرنا فكتور فرنكل أن الكشف عن معنى للحياة يكون بثلاث طرق، أحدها: اتخاذ موقف من معاناة لا سبيل لتجاوزها وذلك بتحويل المأساة إلى نصر، والمأزق إلى منجز إيجابي، وحتى عندما نكون عاجزين عن تغيير الواقع، نسعى إلى تغيير أنفسنا.
 
إن الألم هو إذن عنصر أصيل في حياة سليمة وقلب معافى من البرود القاتل؛ فبه يجد الإنسان حوافز في داخله للاستمتاع بلحظات الوجود أو الإحساس بها ومغالبتها، ففي غيبة الإحساس باللحظة، أو الرغبة في تحقيق نصر على شر فيها، تهمد رغبتنا في البقاء وتتهاوى قدرتنا على الصمود.
 
إن هذه الحياة الدنيا بلا ألم غير قابلة لأن تعاش لأنها بلا دلالة تتجاوز الأنفاس الصاعدة الهابطة، وبعبارة (س. إس. لويس): حاول أن تستبعد إمكانية الألم المتضمن في نظام الطبيعة ووجود الإرادات الحرة، وستجد أنك قد استبعدت الحياة نفسها

 

لماذا لم يخلق الله عالمنا من الطيبين فقط؟

 

يتكرر على لسان المعترضين تساؤل مهم، وهو: لِم لم يخلق الله عالمًا خلوًّا من الشر، البشر فيه أحرار لكنّهم لا يأتون الشرّ وإنما يلتزمون العمل الصالح وينأون عن الشرور والمفاسد؟
 
والجواب هو فيه قوله تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أجمعين"
 
قال المفسر ابن عاشور "وأما تعقيبه بقوله "ولذلك خلقهم" فهو تأكيد بمضمون "ولا يزالون مختلفين" والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله "مختلفين" واللّام للتعليل لأنه لما خلقهم على جبلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدا لمقتضى تلك الجبلة وعالما به... كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم، والعلة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل"(1)
 
فالله سبحانه قد خلق الناس بقدرات وملكات تقتضي ألا يكونوا كلّهم مصيبين وألا يكونوا كلّهم مخطئين؛ فقد ركّز في فطرهم معرفة الحق، ثم أسلمهم إلى ما يختارون من حق وباطل؛ ولذلك ظهر الفساد والكفر (وهو أقصى الشر) من فريق منهم. فليس في حساب الله سبحانه أن يخلق عالما بلا شر، وإنما اختار لخلقهم هذه الطبيعة في هذا العالم؛ ﻷنه يريد ذلك، فـ "الحكمة التي أقيم عليها نظام هذا العالم اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلا للتطوّح بهم في مسلك الضلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلالة"(2)
 
وليس الأمر كما يظن فلاسفة مدرسة Process Theology الذين ذهبوا إلى أن الرب الخالق ليس كُلي القدرة، في سبيل التوفيق بين وجود الله ووجو دالشر! إن الله سبحانه لم يخلق الناس ليصيبوا الحق في كل أمرهم ولم يرد للوجود أن يكون براء من الشر، وإنما رضي للشر أن يكون أحد حقائق الحياة التي على الناس أن يصطرعوا معها، فينجو من يصرعها ويهلك من تصرعه.

 


 

الإشارات المرجعية:

  1. محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير 190/12
  2. المصدر السابق 187/12

 

المصدر:

  1. د. سامي عامري، مشكلة الشر ووجود الله، ص199
 
 

 

 

تنويه: نشر مقال أو مقتطف معين لكاتب معين لا يعنى بالضرورة تزكية الكاتب أو تبنى جميع أفكاره.

الكلمات المفتاحية:

#مشكلة-الشر
اقرأ أيضا
فقه الواقع: بين النسوية والدعاة | مرابط
النسوية

فقه الواقع: بين النسوية والدعاة


المرأة اليوم متأثرة كما الرجل بمحدثات الثقافة الغالبة وغالبا لن تجد امرأة إلا وهي متأثرة بفكرة المساواة مع الرجل إلى حد ما أو فكرة الاستحقاقية بحيث ترى أن أعظم شيء تمتلكه هو كونها امرأة وفكرة المظلومية فتجدها محملة بالعديد من الأفكار المسبقة وتعتبرها مسلمات ونظرا لأنها تحب الدين فهي تحاول أن تجد نقطة اتصال بين تلك الأفكار والشرع وهنا يأتي دور الداعية الذي لا ينتبه لمداخل العصر ولا لأمراض الناس النفسية فلا يستطيع أن يعالج مشاكل الناس بشكل جذري بسببها هذا إن كان يفهمها أصلا.

بقلم: أسامة لعايض
394
شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1 | مرابط
تفريغات

شرح حديث إذا أنا مت فأحرقوني ج1


قال المؤلف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك ففعلت فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت قال: خشيتك يا رب أو قال: مخافتك فغفر له

بقلم: محمد ناصر الدين الألباني
616
لا يجتمع الإخلاص ومحبة المدح في قلب المؤمن | مرابط
اقتباسات وقطوف

لا يجتمع الإخلاص ومحبة المدح في قلب المؤمن


لا يبقى الإخلاص في قلب المؤمن إذا داخله حب الشهرة والمدح والثناء فأحد هذه الصفات إذا دخل خرج الآخر ولم يطق البقاء معه كما يقول ابن القيم: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة

بقلم: ابن القيم
1098
الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج1 | مرابط
أبحاث الليبرالية

الليبرالية السعودية والتأسيس المأزوم ج1


المراقب الواعي إذا تجول في مخرجات التيار الليبرالي ووقف على أبرز محطاته وسلط الأضواء على مرتكزاته المعرفية تصيبه الدهشة بسبب ما يراه من الفقر الشديد في مؤهلات النمو الصحي وبسبب ما يلحظه من الهشاشة الكبيرة في مرتكزات شرعية وجوده في الساحة الفكرية وسيكتشف أن الليبرالية السعودية تعاني من أزمة فكرية ومنهجية عميقة أزمة في المصطلح وأزمة في الخلفيات الفلسفية وأزمة في السلوكيات اليومية وأزمة في الالتزام بالقيم وأزمة في الاتساق مع المبادئ وأزمة في الاطراد وأزمة في التوافق بين أسس الليبرالية وبين قطع...

بقلم: سلطان العميري
1488
شدة نفور الصحابة رضوان الله عليهم من البدع | مرابط
تفريغات

شدة نفور الصحابة رضوان الله عليهم من البدع


فقد كان إحساس الصحابة بالبدعة ونفورهم منها فوق كل تصور وعندما نعرض بعض النماذج المبتدعة في زمن الصحابة نحن الآن نراها من المستحبات وكانت عندهم من البدع لأن الأمر كما قالت عائشة رضي الله عنها: يا ويح لبيد كيف قال: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب فالذي عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ورأى هذا النور وعاش بعده الزمان الغدر يكون من أشد الناس غربة لذلك فمحنة الصحابة في المعارك التي حدثت بينهم كانت شديدة كان الواحد منهم مع أخيه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم إخوة متحابين لا مشاكل...

بقلم: أبو إسحق الحويني
820
التقعر في الكتابة | مرابط
فكر

التقعر في الكتابة


الكتابة هي إحدى وسائل التعبير عما يعتلج في النفس من أفكار وهي كالكلام من هذه الناحية وكل منهما قد يتسم بالبلاغة واستعمال البديع وقد يتسم بالركاكة والحشو والتقعر وقد جاء في السنة المطهرة نهي صريح عن بعض صفات التكلم كالتشدق والتنطع والتفيهق وهي كلمات تدور حول معنى التكلف والتصنع وإخراج الكلام عن حده الطبيعي

بقلم: د جمال الباشا
427